أحسن الله عزاءنا في ضمائرنا

ودعنا شهر يناير الماضي بخبر صغير في حجمه إلا أنه كبير في مضمونه ومؤلم في الوقت ذاته وهو ما نشرته الهيئة العامة لحماية  المستهك من ضبط كميات كبيرة جدا من سلع منتهية الصلاحية تجاوزت في أعدادها المليون وثمانمائة ألف سلعة حيث يتم إعادة تغيير تواريخ انتهائها وكتابة تواريخ صلاحية جديدة تمتد لسنوات عدة، وجميعها من علب وأكياس الحلوى والمنتجات المخصصة للأطفال مما يشكل كارثة حقيقية تنذر بعواقب صحية كبيرة على صحة الأجيال القادمة من الأطفال، وتقول تفاصيل الخبر إن مأموري الضبط القضائي بالهيئة ضبطوا مجموعة من العمالة الوافدة بالجرم المشهود وهم يقومون بممارساتهم الخطيرة لإعداد تلك السلع للتوزيع على الأسواق في كافة محافظات السلطنة، حيث يقوم التجار أو المستثمرون بعد تعديل التواريخ على السلع المنتهية الصلاحية وعبر أسطول من المركبات وبعض الموزعين بتوزيع تلك السلع على عدد من المحلات التجارية المختلفة.

إن خطوة كهذه تحسب للهيئة العامة لحماية المستهلك، لأن موقع الهيئة على النت به الكثير من الأخبار حول أنشطة الهيئة في ضبط المخالفات وفي إحالة البعض إلى الإدعاء العام لاتخاذ الإجراءات القانونية حيال المخالفين، بعد سنوات طويلة من التعتيم على الفساد والمفسدين لأن التجار الكبار كانوا هم أصحاب القرار أو أن لهم مصالح مع التجار والشركات لدرجة أننا كنا نقرأ عن نشاط الدول المجاورة حول كشف التجاوزات إلا عندنا، ونقرأ عن انتشار الأمراض إلا عندنا، وكأننا أمة نزلت من السماء لا يصيبها ما يصيب الآخرين، وهذا يدل على أن المستور والمسكوت عنه في الماضي كان شيئا هائلا وكبيرا، وفي ظني أن تفعيل دور الهيئة العامة لحماية المستهلك يعود الفضل فيه إلى الاعتصامات التي حصلت في السلطنة، لأن أي حكومة في العالم بقدر ما تطلب من المواطنين الاعتراف بها وترجو منهم الواجبات فإنها ملزمة بأن تعطيهم حقوقهم كاملة وأن ترعى شؤونهم في أمورهم الحياتية كلها، ومن ذلك حماية المواطنين من جشع التجار، وسنّ قوانين وتشريعات تضمن صحة وسلامة المستهلك.

من هنا فإن جريمة مثل هذه أصبحت شأنا عاما وتهم المواطنين والمقيمين لأنها تضر بأجيال المستقبل، ويجب أن يُفتح تحقيق كامل لمعرفة الفترة الزمنية التي بدأت فيها الجريمة والأسواق التي تم تزويدها بهذه السلع المنتهية الصلاحية ومعرفة مدى الضرر الذي يمكن أن تلحقه للأطفال.

لقد أحدثت هذه الجريمة ضجة في أذهان الناس واحتلت حيزا كبيرا من المناقشات عبر المنتديات والهواتف لأن الأمر يتعلق بحياة المواطنين والمقيمين، وبما أن رائحة السلع والمواد الفاسدة بدأت تفوح وتظهر الآن فإنها تطرح العديد من الأسئلة عن أسباب تفشيها، وما إذا كان الخلل يكمن في ضعف العقوبات مما يجعل البعض يتمادى في تسويق هذه المواد المضرة بالصحة، كما يُطرح سؤال حول أفضل السبل لكبح جماح تجار الموت، فيرى البعض أن عملية التشهير بالمخالفين عن طريق وسائل الإعلام يعد رادعا لقطع الطريق عليهم، لأننا إلى الآن لم نعرف بالتحديد من الذي اقترف هذه الجريمة؟ ومن أي مستوى هو؟ وما هي المواد التي تم استبدال تاريخ صلاحياتها؟ وإلى أي أسواق تم تسويقها؟ وإنما اعتمدنا فقط على بيان الهيئة الذي تناول الأمر بعموميات ولم يدخل في التفاصيل، رغم أن تفاصيل القضية مهمة للمواطنين والمقيمين إذ أنهم هم الضحايا، وقضيةُ التشهير ليست قضية جديدة في عُمان فقد سبق وأن نُشرت أسماء وصور بعض الأشخاص ممن يقبعون الآن في سجن سمائل خاصة من الشباب بتهم مختلفة كانت أقل ضررا على المواطنين من هذه الجريمة (ولا أقصد هنا الإعابة)، وهذا بدوره ينقلنا إلى سؤال آخر هو: هل هناك إنتقائية في التشهير؟ لأن هناك بيانا رسميا صدر من الحكومة عن شبكة التجسس لصالح دولة الإمارات العربية المتحدة، وكان بيانا عاما مثل بيان هيئة حماية المستهلك الذي نحن بصدده في هذا المقال، ولم نعرف حتى يومنا هذا من هم المتهمون؟، ومن هنا فإن التشهير بالمخالفين هو وسيلة حيوية ومفيدة لردع كل من تسوّل له نفسه تسويق السلع الفاسدة للأسواق، بل هو واجب وطني ليكون عبرة للآخرين ممن تسول لهم أنفسهم بالتلاعب بحياة الناس، وفي ظني أن هناك الكثير لم يُكشف بعد.

عندما يموت الضمير في أي مكان يترعرع الفساد فيه، وعندما ينتشر الفساد فإن ذلك إيذان بموت الأمة، ولا يوجد سبيل لإحياء الضمير إلا بوجود القدوة أولا من علية القوم، وأن يتم القضاء على الفساد أولا بأول قبل أن يستفحل أمره ويصبح وبالا على الأمة، إن موت الضمير هو نتيجة حتمية للبعد عن اللَّه وعن الدين وهو نتيجة لغياب الحسيب والرقيب لأن غيابهما يشجع على نمو الفساد، ومن هنا يمكن أن نتفهم أهمية تصريح د. “سعيد بن خميس الكعبي” رئيس الهيئة العامة لحماية المستهلك الذي قال “إن القوانين الرادعة لمثل هذه التصرفات الخاطئة لا زالت ضعيفة، ولا يزال قانون حماية المستهلك يراوح مكانه أكثر من  سنة ونصف، كما أن تعاون بعض الجهات المعنية في هذا الجانب لا يرقى إلى المستوى المطلوب”، وهذا يعني أن غياب القوانين الرادعة للمخالفين وغياب التعاون من بعض الجهات المعنية للقضاء على الفساد هو إشارة أو ضوء أخضر لاستمرار هذا الفساد والتلاعب بصحة الناس.

إن الغش التجاري موجود في كل دول العالم والردع موجود أيضا وهذا ليس مبررا لنا أن نردد أن الفساد موجود في كل مكان لأن معنى ذلك هو الاعتراف بالمرض دون وجود الدواء، ونحن في عمان نسأل أنفسنا: ما الذي أوصلنا إلى هذا الوضع، وإلى أين نحن سائرون؟ يردد العمانيون مثلا يقولون فيه “الفلوس تغيّر النفوس”، ويبدو فعلا أن الإنسان العماني قد تغيّر وتغيّرت أخلاقه، فهو في سبيل بعض البيسات مستعد أن يبيع كل شيء (ولا تعميم في ذلك)، وقد قرأنا كيف تم بيع الحصى والرمال والجبال والبحار والأراضي والأسماك وكل شيء، وأصبح الوطن كاملا شبه مرهون ولعقود مقبلة، ولم يبق ما نبيعه إلا الهواء وهذا ليس ببعيد أن يحصل في القريب العاجل، وهناك حقيقة تقول: “إن فساد الصغار من فساد الكبار” أي أن الكبار عندما يفسدون ويسرقون فإن الصغار سيلجأون إلى الطريق نفسه وإن كان بنسب متفاوتة، ويبقى أن نقول: أحسن الله عزاءنا في ضمائرنا، لأن ما نُشر عن وجود آلة تصوير في قسم المختبر بأحد المستشفيات يحتّم علينا أن نعزّي أنفسنا في ضمائرنا وفي أخلاقنا.

Zahir679@gmail.com

 

العدد الرابع والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com