ترهّل في الجهاز الإداري للدولة

تنتشر الآن بشدة في وحدات القطاع العام للدولة ربما حتى في القطاع الخاص “البطالة المقنعة”، وهو مصطلح يقصد مجموعة من الموظفين الذين يحصلون على رواتب دون مقابل من العمل أو الجهد الذي تتطلبه الوظيفة، حيث إذا تم سحب هؤلاء الموظفين من العمل لن يترتب على ذلك أي نقص في إجمالي الإنتاج العام، وقد جاء تراكم المو
ظفين نتيجة التوجيهات السامية لجلالة السلطان المعظم، بتعيين الشباب في العمل كحق من حقوقهم الوطنية بعد أن نالوا قسطا من التعليم العام والجامعي وأكبر وأقل من ذلك، مما أدى إلى تكدس الموظفين في الحكومة بما يفوق الاحتياجات.

إن إيجاد الوظائف للشباب أمر ضروري وهو محمود في حد ذاته، لأن الأمم الحية لم تنجح إلا بالعمل من خلال تكريس مبدأ العطاء وزرع قيم الوطنية وغرس حب العمل والانتاج في الشباب من خلال المدارس عبر المناهج و ورشات عمل حقيقية يشارك فيها الشباب، لذا نجحت هذه الدول مثل الصين واليابان وكوريا وسنغافورة وماليزيا وغيرها، وأصبحت دولا منتجة تتمتع باقتصاديات قوية، ويعود السبب في ذلك أيضا إلى أن كل عضو في أي مؤسسة هو عضو منتج وهناك قانون ينظم الحقوق والواجبات بين الطرفين، مما ألغى ما يعرف ب”البطالة المقعنة”.

إن وجود الأعداد الكبيرة من العاملين في الجهاز الحكومي يجب أن ينظر إليه بنظرة إيجابية إذا تم استغلال هؤلاء العاملين الإستغلال الجيد، لأن هناك بعض الأخطاء التي رافقت التعيينات، من ذلك مثلا أن هناك تكدسا في بعض الوزارات والأقسام والوحدات على حساب الوزارات والأقسام والوحدات الأخرى، وهناك أخطاء في التعيين بعيدا عن التخصصات مما أدى إلى البطالة المقنعة وإلى الترهل المبكر في الجهاز الإداري للدولة، مع غياب الرغبة في العطاء إذ نظر البعض أن حصولهم على الوظيفة هو حق مكتسب بعد الحراك الشعبي في عمان، وبالتالي يحق للموظف أن يتغيب أو يتلاعب في العمل كيفما يشاء، وللأسف فإن نظرة مثل هذه انتشرت عند الكثيرين وعانت منها الكثير من المؤسسات، في حين كان الواجب أن يلتزم الموظفون بالعمل بالإخلاص، فالحكومة لن تستطيع أن تتحمل أو تستوعب المزيد من الموظفين، وقد أشار إلى ذلك جلالة السلطان المعظم حفظه الله ورعاه العام الماضي لدى افتتاحه جلسات مجلس عمان عندما قال:”هناك كلمة نود توجيهها للشباب العماني وهي أن العمل بقدر ما هو حق فهو واجب، وأن على كل من أتم تعليمه وتأهيله الانخراط في أي عمل مفيد يحقق فيه ذاته ويسعى من خلاله إلى بلوغ ما يطمح إليه وعدم الانتظار للحصول على عمل حكومي، فالدولة بأجهزتها المدنية والأمنية والعسكرية ليس بمقدورها أن تظل المصدر الرئيسي للتشغيل، فتلك طاقة لا تملكها ومهمة لن تقوى على الاستمرار فيها إلى ما لا نهاية”

وقد أوضح د. “خميس بن زايد الكليبي” خبير ومدير إدارة التدريب بمعهد الإدارة العامة أننا أمام أمر واقع للترهل الكبير في الجهاز الإداري للدولة، بسبب استيعاب وتوظيف أعداد كبيرة في القطاع الحكومي، وأن الدور الأكبر يبقى لصناع القرار في القطاعات الحكومية لاستثمار هذه الطاقات، وليس هناك وقت للتساؤل حول عدم وجود التخطيط في استيعاب الأعداد الذين تم توظيفهم بناء على الأوامر السامية، ومن المفترض أن يكون هناك توزيع لأدوار الموظفين بما يتناسب مع تخصصاتهم وهو ما لم يحصل، وجاء ذلك نتيجة طبيعية لعدم التخطيط الفعلي للقوى العاملة البشرية أثناء التوظيف.

إن تصريح د. “الكليبي” يعطي مؤشرات حول تنامي ظاهرة “البطالة المقنعة”، والمطلوب الآن هو البحث عن أسلوب المعالجة للتخفيف من الآثار السلبية على الإنتاج من خلال دراسة واقع كل وزارة أو هيئة أو مؤسسة من خلال عدد العاملين ومعرفة عمل كل منهم، وهل المؤهلات  تتناسب مع الاختصاصات في العمل؟، كما أن المطلوب هو دراسة عدة أفكار لقتل الترهل المبكر في العمل مثل التفكير في فتح فترات الدوام المسائية لتخليص معاملات المواطنين، مثلما فعلت الشرطة عندما مددت ساعات العمل حتى المساء، مما أعطى الناس الفرصة بأن يقوموا بأعمالهم الرسمية في الصباح ويخلصوا معاملاتهم الخاصة في المساء، وهو توجه إيجابي يساعد المواطنين أولا على تخليص معاملاتهم بعد الدوام الرسمي، ثم يقضي على البطاقة المقنعة من خلال توفير أعمال للموظفين، لأن في استمرار وجود البطالة المقعنة يؤدي إلى الترهل المبكر للموظفين وينعكس سلبيا على العمل والإنتاج، ويمكن الإستفادة الجيدة من الشباب الذين تم تعيينهم في القطاعات العسكرية من خلال تأهيلهم لحماية الشواطيء العمانية من مآسي التهريب، والاستفادة منهم في حفظ الأمن الداخلي لأن مستوى الجرائم في ازدياد. ‏وإذا تركنا البطالة المقنعة جانبا وتناولنا البطالة العامة أو وضع الباحثين عن العمل فإننا نرى عجبا، فالمركز الوطني للإحصاء والمعلومات التابع للمجلس الأعلى للتخطيط ذكر أرقاما هائلة لرواتب الأجانب وما يحولون من مبالغ كبيرة إلى الخارج مما يضر الإقتصاد الوطني ضررا كبيرا، مما يدل على أن هناك خلالا كبيرا يحتاج إلى بحث وعلاج، إذ كيف يوجد شباب عمانيون باحثون عن العمل في ظل وجود عمالة أجنبية كبيرة منها ما تتقاضى رواتب كبيرة جدا؟ إن من الضروري الآن الاهتمام بوضع خطط إحلال طويلة الأمد مع التركيز على التدريب المطلوب، والاهتمام برفع رواتب القطاع الخاص بدلا من تحويل هذه المبالغ إلى الخارج، ويجب أن يتم ذلك وفق خطط مدروسة بعناية بالتنسيق مع القطاع الخاص لمعرفة احتياجاته من مخرجات التعليم، مع التركيز على نقطة هامة هي أن البطالة المقنعة عندما تكون في القطاع الخاص فهي أكثر تأثيرا على أصحاب الشركات والمؤسسات باعتبارهم يبحثون عن الربح، وقد يكون هذا سببا من الأسباب الرئيسية التي تجعل القطاع الخاص يعتمد على العمالة الوافدة على حساب المواطنين، وأنا من رأيي أن أصحاب الشركات والمؤسسات ليسوا ملومين في ذلك إذا كان الاعتماد على أيدي غير منتجة سيضر بدخل هذه المؤسسات لأنها في النهاية هي مؤسسات ربحية وليست جمعيات خيرية.

إننا نحتاج إلى وقفات فعلية لزرع قيمة العمل والانتاج في الجيل الجديد وإلى الحث على العطاء وعدم الاعتماد فقط على مبدأ الأخذ، فالبطالة المقنعة تنذر بمشاكل في الانتاج وتؤدي إلى الكسل والإحباط حتى أصبح الغالبية الكبرى من الناس لا تسأل إلا عن الإجازات فقط، وهي التي انتشرت بكثرة في عمان الآن رغم آثارها السلبية على المجتمع، من قلة الإنتاج في العمل إلى كثرة حوادث المرور مرورا بالبذخ والإسراف، إذ تجد عشرات الآلاف من الشعب العماني في دبي، والأغرب أن يتغيب أئمة المساجد عن الدوام طوال مدة الإجازات التي تصل أحيانا إلى 9 أيام كاملة وثقيلة!.

لذلك يجب الاهتمام بدراسة “البطالة المقنعة” والترهل في العمل من خلال التسريع في وضع خطط للقضاء على الظاهرة حتى لا يقع الفأس على الرأس وعندها فقط نتحرك للبحث عن الحلول، ولا بد لي في نهاية المقال أن أشيد بتصريح د.”خميس بن زايد الكليبي” لأن تصريحات كهذه تظهر أن هناك من يرى المشكلة ويحاول أن يضع لها الحلول، وكذلك فعل من قبل ويفعل د.”سعيد بن خميس الكعبي” رئيس الهيئة العامة لحماية المستهلك.

Zahir679@gmail.com

 

 

السادس والثلاثون سياسة

عن الكاتب

زاهر بن حارث المحروقي

كاتب وإعلامي عماني
Zahir679@gmail.com