رسائل الحياة من عاصمة الكتاب: بانغ كوك 2013

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد
الشاعر محمد الحارثي في أول نزول له للمدينة يتناول غداءه في مطعم سم سقراط في شارع الشمس

الشاعر محمد الحارثي في أول نزول له للمدينة يتناول غداءه في مطعم سم سقراط في شارع الشمس

كتاب الشاعر العماني 2013 وطب القلب:

تلبية لدعوة كريمة من الصديق العزيز الشاعر محمد الحارثي وجدت نفسي مقيماً في ضاحية توكاسان من ضواحي مدينة بانكوك التي أزورها لأول مرة، على بعد خطوتين من مركز مستشفى بانكوك، مرافقاً للمرحلة الأخيرة من تماثل الشاعر محمد الحارثي للشفاء بعد إجراءه عملية زراعة ثلاثة شرايين في القلب، اثر الأزمة القلبية التي ألمت به في نهاية إبريل من هذا العام 2013.

أصدر الشاعر محمد الحارثي ثلاثة كتب هذا العام في حالة عمانية وعربية نادرة: ، العودة للكتابة بقلم رصاص (مجموعة شعرية), تنقيح المخطوطة (رواية)، ورشة الماضي (مجموعة مقالات)؛ رافداً بإنتاجه المستمر مياه الثقافة العمانية بأعمال معاصرة، محيياً بذلك ثقافتنا بإنتاجاته المتنوعة المكرسة لخدمة الإبداع الأدبي من بلادنا في العالم، لكنه إثر ذلك الجهد الجهيد لإصدار الكتب الثلاثة، بعد عامٍ عصيب بالفقد والحزن كان العمل المنتج هو علاجه الناجع، هاجمته أزمة قلبية حرجة، فكان كالمحارب الذي كاد يسقطه الإعياء بعد أن انتصر في المعركة، كي يحرمه فرحة النصر وبهجته، هكذا كانت تلك الأزمة القلبية كخاتمة الأزمات التي تحاول أن تنال من شراسة مقاومته الفعالة المتدفقة بالحياة الثرية المكتوبة، لتغتال هذا النبع الكتابي المعاصر، وكادت أن تنجح لولا اللطف الخفيّ الذي تدخل في اللحظة المناسبة لإنقاذ المحارب الأدبي من يدها المصممة.

chaopraya_copy1وجد الشاعر نفسهُ مضطراً لتدبر أمره على عجل مسافراً إلى بانكوك بعد نتائج الفحوصات الطبية بمستشفى جامعة السلطان قابوس بمسقط بحثاً عن بدائل طبية جيدة السمعة، بدل الخيارات الطبية المتاحة السيئة السمعة، متكبداً النفقات الباهظة طلباً للصحة وتقديراً لأهمية الحياة؛ وبينما تهتم حكومات البلدان المختلفة بصحة مبدعيها، وتعلم أن ذلك من واجبات الوطن الملزمة التي لا تحتاج إلى دعوة شخصية أو عرض خجول أو واسطة فردية، أو تذلل وسؤال متسول، كما لو أنها حسنة يعطيها من هم في مراكز المسؤولية للمبدعين، بل حق مكتسب وواجب وطني ملح لمن كرس نفسه لخدمة الثقافة والأدب المعاصرين.

مع ذلك وبكل شرف الموقف والمكانة والترفع عن الحاجة، اختار الشاعر تحمل تكاليف علاجه، دون انتظار منةٍ يحسبها الرسميون عطفاً منهم، وليست من وطن عليهم واجب القيام له بحق من كرموا اسمه ورفعوا سمعته في المحافل الأدبية العربية والعالمية عبر اسمهم الشخصي وانتمائهم الطبيعي إليه.

وجدت نفسي إذن رفيق المرحلة الأخيرة من علاج الشاعر العزيز الذي أتشرف بصداقته، وهو من أفنى نفسه وحياته في كتابته وأدبه وكتبه: أي في الحضور؛ وبعدما ظل محاطاً برعاية أسرية متواصلة من ابنته الوحيدة الفنانة ابتهاج واهتمام من إخوته وأخواته وعائلته وأسرته الكريمة، والذين أدركوا بوعيهم العالي ما يمثله شخصه، وإنجازه الأدبي للوطن، وما تمثله بالأساس علاقتهم الاجتماعية الوطيدة بنبع عماني ظل متدفقاً طوال عقود، حادباً على النبتة العمانية الأدبية ومساهماً فيها بما يملك من فكر وفن وكلمات، منذ مجلة الغدير القديمة، حتى مختلف الملاحق الثقافية، وبكتبه العديدة المتنوعة والزاخرة العوالم، والتي أكسبت اسمه الاحترام الأدبي في الأصقاع المختلفة، لكن المرء يأسف أن يجد المبدع العماني نفسه في خضم الأزمة الصحية بلا معين يعتمد عليه سوى نفسه.

تلك النفس التي ينكرها المبدع طوال حياته كي يتمكن من العطاء لغيره، منغمساً في الخديعة التي يعلم نفسه هزالها في اسمٍ يبقى بعد الموت، دونما أي ضمانة حقيقية بذلك سوى أوراقٍ يبتلعها الدهر مثلما ابتلع من قبلها ملايين الكتب وأصحابها.

أكتب هذا بعيداً عن فكرة (الكعكة الوطنية) وفكرة (السمن والعسل الوطني) وأقرب ما يكون لفكرة التراب وشوك النخلة والسمرة وحجارة الوادي والسيح وصخور الجبل وملح البحر؛ كلمة أقولها وقد تماثل الشاعر محمد الحارثي للشفاء وبدأ يقضي فترة النقاهة والعلاج الطبيعي لما بعد العملية الحساسة، لصون قلبه الذي هو عينُ النبع ومغذّي العقل، مضحياً للعالم بنار حياته وليس من أجل نفسٍ يعلمُ أنهُ بددها ولا زال يبددها كي يعطي ويغدق، وأكتبه كي أوثق هنا أخيراً هذه الحادثة من باب الشهادة المعاصرة التي أجد نفسي ملزماً لأدائها كما يسعني وبما يليق بهذا الموقف. وهذا الزمن.


أما بانكوك المدينة نفسها فإحدى قبلات السياحة الطبية في العالم، يرتادها بشكل ملحوظ أهل شبه الجزيرة العربية من اليمن والإمارات وعمان والسعودية، حيث يلجأ لها الميسور والمضطر هرباً من الخدمات التي ساءت سمعتها في بلدانهم، وبانكوك تتيح بسمعتها الطبية، ومستشفياتها الخمسة نجوم، الاستقبال الفخم والإقامة المريحة، حتى لو تلا ذلك الفاتورة المرتفعة. كي يعودوا أصحاء قادرين على الحياة واكتساب مزيد من الأموال من جديد!

ولعل من يرى تلك الحشود الخليجية بالذات يتساءل عن الميزانيات الضخمة لوزارات الصحة التي لم تستطع أن تكتسب ثقة من يفترض بها رعايته، ولم تتمكن من تحسين سمعتها الطبية في بلدانها، وبدل ذلك صارت تنفر المرضى ليسافروا بأموالهم البلاد نحو الهند وتايلند بحثاً عن خدمات طبية موثوقة حسنة السمعة، وتعرف تلك المستشفيات كيف تكبدهم الفواتير العالية، المبالغ فيها، في تجارة طبية تستغل حساسية وأهمية ورقة الصحة من أجل كسب الأوراق النقدية، تقليداً لبلدان العالم المتقدم التي برعت في استدرار المليارات بهذه الطريقة نفسها.

ليس غريباً اذن رؤية الدشاديش العربية والعبايات السوداء والوجوه العربية تحوم حول مستشفى بانكوك أو مستشفى بلومنجراد المسمّى بالأمريكي، وليس العرب وحدهم في هذه الحالة، فستجد الأوروبيين والأمريكيين أيضاً والهاربين من غلاء الخدمات الصحية وألعاب شركات التأمين الصحية يلجأون لبانكوك طلباً لخدمة صحية تطمنهم على الباقي من أعمارهم، وترمم لهم حالتهم الجسدية التي أنهكها العمل في حقول المال.

لحسن الحظ تصادفت إقامتي الأولى في بانكوك مع احتفالها عاصمة عالمية للكتاب 2013، وهكذا وجدتني أمشط المدينة لأقرأ كتابها المفتوح فيما سنح لي من وقت، لأخرج من ذلك بإضمامة هذه المقالات/الرسائل/الكتب التي ستنشر هنا تباعاً، لربما يجد فيها القارئ ما يستهويه، محاولة لتقديم صورة جديدة حاضرة بديلة عن بانكوك الشائعة والشهيرة.

 

2. كتاب بانكوك القديمة: نهر الأصيل والبديل:

اللحظة في بانكوك بسكانها الثمانية ملايين نسمة ومساحتها التي تزيد اليوم عن ألف وخمسمائة كيلو متر مربع، عبارة عن نسيج خفيّ متصل من المياه، من الدورات الحيوية التي تدور في شرايين الزمن، منطلقة من كل تحوّلٍ يعيد تصريفها لتعود إلى الحياة من جديد، من الصوت والخفقة والسريان حتى سماد الشجرة، والشجرة ستعيد تحويل الماء والأكسجين والتراب إلى هيئة ثمرة يتم تداولها في الأسواق لتدخل في دورة حياة جديدة. وهكذا كالحياة بالضبط، ذلك أن عروق الحياة شديدة الوضوح في بانكوك.

نهر شاو فارآيا (النهر النبيل) ولهُ اسمٌ آخر مي نام (ماء الأم) يسهر على المدينة القديمة، التي كانت قائمة في الأصل على دلتا النهر، وكي تظل المدينة الجديدة وفيّة لجذورها المائية فهي تمد قنواتها من ذلك النهر الأمومي النبيل، تلك القنوات التي انسدّ بعضها اليوم بفعل العمران، والتي تعطيها بعض البنايات الحديثة والمنازل ظهرها، لكن النهر علّم المدينة كيف تبدع بطريقتها تفجير عيون نهر الناس والحياة ليعطي في الشارع نفس معنى جريان نهر الفارايا القديم.

صوت النهر يصدرُ أنغاماً عن بلدة كان اسمها بانكوك، اختارها القائد العسكري الذي سيصير ملكاً فيما بعد، كي تكون مركزاً لتجميع وتدريب الجيش المنهزم من العاصمة العريقة أيوتيا، البلدة تتحول أولاً لقاعدة عسكرية لتحرير العاصمة القديمة القديمة من قبضة البورميين الذين احتلوها، لكن تلك البلدة البديلة والقاعدة العسكرية المؤقتة، تلك البديلة المخترعة حديثاً جذبت الجميع لأحضانها، بانكوك أقنعت الكل أنها ليست مؤقتة، ليست بلدة صغيرة يمكن نسيانها بسهولة في ثياب التاريخ، ليست مكاناً يمكن بعثهُ لفترة وإعادتهُ إلى قبر النسيان من جديد، بل هي بلدة تطمح لأعلى حتى من مستقبل العواصم، ستتجاوز البلدة التجارية الزراعية بانكوك حدود العاصمة القديمة أيوتيا نفسها، تلك التي لم تكن معروفة خارج الأصقاع الشرقية، والتي سقطت أكثر من مرة غنيمة سهلة للأعداء، وستخرج بانكوك عن تلك الأطر التقليدية للمدن بصيغة أكبر: بانكوك البلدة ستصعد بأسمائها الرسمية الطويلة، بنهرها النبيل الأمومي القديم وقنواتها المائية المشقوقة حتى تكون: بانكوك العاصمة العالمية. وهذا العام: عاصمة الكتاب العالمية.

وحتى تصير حقاً كما في لوحات الإعلانات: بانكوك مدينة الحياة.

بانكوك القديمة بكل قدرتها على الاستيعاب والتحول والتجاوز والتجاور، بكل مهاراتها وسحرها الخيالي العجيب الذي يثير مكامن الحياة في الخلايا، بروائحها وعطرها المختلط الممزوج من آلاف الأبخرة النباتية والطمي ومزارع الأرز القديمة وروائح الشواء القروية والأدخنة الصناعية، من كل تلك الروائح العائدة كل ليلة لتتحد وتذوب في عطر نهر الفار آيا القديم نفسه، النهر الذي مُدت قنواته لتصل كل أطراف المدينة القديمة لإبحار الزوارق النهرية التي كانت تنقل الأرز؛ من فكرة النهر ستلد بانكوك أفكارها لقوارب الأسواق الطافية، والمنازل الطافية، وبينما اختفت المنازل الطافية اليوم، واستقرت على ضفتي النهر، فلا زالت الأسواق الطافية وجهة سياحية شهيرة ورمزاً لتلك الشخصية الطافية على سطح نهر بانكوك: مركز الحياة التايلندية المدنية. بل ومركزاً عالمياً مدنياً للبلدان المجاورة كلها من كمبوديا وبورما وفيتنام ولاوس، ناهيك بباقي بلدان العالم.

حقول أرز الياسمين (أفضل أنواع الأرز التايلندي) التي كانت تحيط بالبلدة القديمة اختفت وتقهقرت خارج المدينة وحلت محلها عمارات المدينة القديمة، بأزقتها وسككها ومعابدها الضخمة العائدة للمعبدين الأساسيين العلوي والسفلي، وبالقصرين الملكيين الرئيسي والفرعي، وبساحاتها وحدائقها الواسعة المخصصة للمناسبات الملكية، والمدينة الجديدة تمددت بشوارعها وقطاراتها السريعة ومترو الأنفاق ومجمعاتها التجارية الهائلة الضخامة، لتأخذ الضواحي الحديثة مكانها فوق تلك الحقول البليلة، وتستبدل الحقول الشجرية بالحقول البشرية، بالحشود التي تشبه الأرز والتي تجوب المدينة منذ بواكير الصباح حتى حلول الليل.

مع ذلك لا زالت تايلند ثاني مصدر للأرز في العالم وخامس بلد على مستوى مساحة زراعة الأرز في العالم، ومن يتذوق طعم الأرز التايلندي يدرك فارق النوعية المختلف بين أنواع الأرز، من الأرز الأسمر حتى الأرز الأبيض وصولاً إلى أرز الياسمين الرائع المذاق. والذي يصبح معه أرز البسمتي الذي نتناوله في عمان هزيلاً خالياً من الذوق والطعم.

بانكوك معمارياً هي التحفة التي بنيت أولاً على طراز العاصمة القديمة، بقصرين رئيسي وفرعي ومعبدين علوي وسفلي ومركز للجيش، ثم على الطراز الأوروبي بقلاع فرنسية التصميم، وقنوات مائية وقناطر وبنايات خفيضة بواجهات قوطية، واستطاعت استيعاب ذلك، ثم على الطراز المعولم الحديث بالقطارات السريعة والمترو والمجمعات التجارية البالغة الضخامة. فكانتها وفاقت نظيراتها، وهي نفسها في جميع الحالات نفسها: بانكوك: القادرة على إيجاد متسع ودرب لكل قطرة في النهر، بل وحتى للقطرات المؤقتة العابرة والقادمة من أنهارٍ أخرى لا تخصها. هي بانكوك القادرة على استيعاب كل التناقضات من أعلاها لأسفلها وإدخالها في خضمّ نهرها اليومي، كما يليق بمدينة شرقية، لا تقفل أبوابها، ولا تعطل متاجرها، بل تسمدها كل ليلة لدورة حياة النهار المثمر.

الإقتصاديون يتحدثون في الصحف عن بانكوك اليوم والغد بوصفها طوكيو القرن الجديد، مركزاً تجارياً ضخماً يستطيع استيعاب تجارة المنطقة والوقوف دعماً ومساندة للتنين الصيني الهائل الضخامة الذي يعتدل في وقفته بداية القرن الحادي والعشرين، بينما البضائع في بانكوك المدينة فائضة عن حدود المحلات التجارية والأسواق العديدة وعن الأرصفة، والبيع والشراء متواصل من حدود الأسواق الطافية والسفن المحملة بالبضائع حتى أرصفة الشوارع المتحولة كل مساء لأسواق مؤقتة، ديدنها الحركة؛ المطاعم تنتصب بشكل مؤقت على الشوارع، والعربات تصطف على هيئة سوق يختفي حين يحل الظلام، والبسطات تتجاور على جانبي الرصيف الواحد، يمنة ويسرة، تبيع كافة البضائع والأغراض والمرطبات والأطعمة والأشربة والأنسجة والأعمال الفنية والكتب، بل وحتى الصيدليات ذات الأدوية المقلدة، والتماثيل الفنية لبوذا ذي التماثيل الألف ألف. وكل ذلك قائم على حركة الناس وجهدهم ودأبهم وانتاجهم المستمر وحياتهم اليومية في حقل الحياة. حقل الحياة المغمور بالماء على ضفاف النهر الأموميّ النبيل شاو فار آيا.

الثامن والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد