رسائل الحياة من عاصمة الكتاب: بانغ كوك 2013 ( كتاب بانكوك المقدس: بوذا البنكي )

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

بوذا مجرد رمز: نقاط على شكل مثلث في جدار المقهى، وعلى سقف سيارة التاكسي، ميدالية رمزية وتمثال صغير معلق على مرآة السيارة، لكن أيضاً على شكل معبد مصغّر على مدخل كل المراكز التجارية الضخمة، ومن تمثال مزين بزهور الياسمين عند استقبال الفندق الصغير حتى المعابد الضخمة، وبوذا الأبيض والذهبي المتعدد الأحجام كتعدد هويات بوذا وشخصياته، حيث تدور المدينة حول تلك المحورية البوذية، يدور مركز رحى المدينة الضخم، الذي يحاول بما تبقى من روحانية أن يجد الرحمة المستمدة من السماحة البوذية الكافية لحماية المسحوقين قمحاً تحت صخرته الصمّاء.

الحضور الديني في بانكوك يتضح جليّاً في البذخ المعماري للمعابد التي تزيد عن الأربعين ألف معبد في تايلند، بذخ في دراويزها المطلية بالذهب، والنقوش التي تملأ الأسقف والأعمدة، والتماثيل الكثيرة الذهبية لبوذا، والأواني الباهظة الثمن والتي تمتلئ بها المعابد، في أبهة البناء المعماري نفسه، وتماثيل الكومة المعدّة لجمع رماد الرهبان وللتأمل، تلك التماثيل التي تشبه قبتها الأجراس الضخمة وتملأ ساحات المعابد، كما لو أن المدينة كلها بكل حركتها الصاخبة وسكونها الليلي، بكل متاجرها وأموالها، بكل مشاعرها وعواطفها: مجرد تقدمة لإرضاء الآلهة. رماد الحياة المنثور داخل تماثيل الكَوْمَات التي تبدو للعيان كالأجراس الخرساء الجامدة، وكأن لتلك الأجراس رنين صامت..

بينما المدينة للمرأتين المرضعتين وطفليهما اللتين تتسولان طوال النهار والليل وتنامان عند التعب كل ليلة في الرصيف تحت أقدام مركز التحويلة 21 التجاري الفخم والضخم. لعازف الهارمونيكا الأشيب الذي يتسول عند المحطة المشتركة للمترو والقطار السريع في سايلوم متقدماً بين المارة برقصة شرق آسيوية قديمة ومقدما كوب التسول الحديدي كما لو أنهُ سيف! للعازف الذي يعزف على كمانه الموسيقي أمام متحف منزل كام ثيينج في شارع آسوك كل ليلة بصندوق التسول الموسيقي. لعمال النظافة بقبعاتهم القشية وسلالهم ومكانسهم الذين يجوبون المدينة لتنظيفها، وأيضاً لبيوت الصفيح الخشبية على حافة القنوات النهرية، وللذين يفضلون العيش بلا مأوى قرب خط القطار القديم، وتحت خط القطار السريع (السماوي كما يسمونه في بانكوك skytrain)، وللذين يكسبون عيشهم من جمع الخردة والبلاستيك، وكذلك لبيوت الصفيح المستجيرة بالماء من زحف المدينة التي لا يتوقف البناء فيها إلا ليبدأ من جديد، بأيدي عمال مراهقين هربوا من المدارس وبدأوا ينفقون حياتهم في التشييد الاسمنتي بدل التشييد المعرفي. والذين يمرّ عليهم الرهبان في مشاوير جمع الهبات دون أن يلفتوا انظارهم لما فاتهم.

الرهبان بثيابهم الملونة من الأبيض وحتى الكركمي الغامق والفاتح، من كل الأعمار، يجوبون المدينة وقليلاً ما يلتفت إليهم المدنيّون، عكس ما يشاع عن القرويين، لكن الرموز نفسها حاضرة تقريباً في كل مكان، وقوة الالتزام الديني الشعبي واضحة حتى في المدينة، بينما الرهبان يجوبون المدينة ليوزعوا البركات ويتلقوا الهبات المقدمة لهم بوصفهم ممثلين لبوذا تخلوا عن حياتهم ليخدموا سبيل المعلم العظيم. وبالتالي الإله.

لكن البذخ الشرقي المعتاد على المباني الدينية ساطع خاصة في المعابد البوذية، وحتى لو كان يتنافى قطعاً مع حياة المعلم الأول نفسه الذي ترك الحياة الباذخة واختار الحياة البسيطة الخشنة، لكن كما هو الحال في معظم الديانات الشرقية القديمة، يتم تضخيم الرموز وتزيين المعابد وتفخيمها بشكل مسرفٍ ومبالغ فيه، لتغطية التناقض القائم ولردم الهوة الواسعة بين جلد الفقراء الرقيق وجلود الأغنياء الخشنة، تعويضاً عن الروحانية المفقودة، لتتحول الرموز إلى أصنام جامدة لا روح فيها، يتم استغلالها لتبرير الواقع أكثر مما يتم استغلالها لتحرير الراهن.

لكن التزام المباني الدينية بفن العمارة التقليدي، وعدم تخليها عنه لصالح العمارة المعولمة الحديثة، يحافظ مع ذلك على ما تبقى من شخصية المكان والإنسان، وفي المعابد يمكن مشاهدة فن العمارة التايلندي والقريب من فن شرق آسيا بشكل عام. لكن مع الشخصية التايلندية والإشارات الملكية، كنهايات الأسقف الطاؤوسية والتي تحيل إلى رمز العائلة الملكية المكون من عدة رموز، والملك هو الراهب الأكبر والراعي الأكبر للبوذية في بلاد تايلند، سيام سابقاً، ويقود شخصياً عدداً من الاحتفالات الدينية يؤدي فيها بشخصه أو بمن يمثله الصلوات البوذية، مثل صلوات الاستسقاء وطلب الأمطار في بداية مايو.

في البوذية التايلندية نستطيع أن نلمس بوضوح تلك الجذور الهندية القديمة، حيث وجدت العديد من الآلهة الهندية طريقها لتتحد مع البوذية، وآلهة مثل شيفا وراما يقفون جنباً إلى جنب مع بوذا، بل تتخصص بعض المعابد بشيفا مثلاً ولها رهبانها الهنود الذين يتلقون الهبات المقدمة للآلهة، ويُزجون الوعظ والنصائح للمؤمنين، ولا يعجب المرء حين يلمح الجبين التايلندي مزيناً بالنقطة الهندية الحمراء في أيام المناسبات الدينية والإجازات. اعتماداً على تلك الفلسفة البوذية القديمة التي لا تعرف العداء مع بقية الأديان، والتي توسع لبقية الديانات مكاناً على ظهر نفس الفيل المقدّس.

وللفيل في الشرق الأقصى بشكل عام حضور رمزيّ يكاد يكون مركزياً، وهي أهمية تعود لربما لشخصية الفيل نفسه، بضخامته وقوته وشجاعته في نفس الوقت مع نباتيته وعدم كونه ممن يفترسون الكائنات الأخرى، وفي نظامه الاجتماعي المتآلف والمندمج مع بيئته ومكانه، هكذا تخلده التماثيل وتدخله الأساطير في نسيجها وينتشر استلهامه في معظم الأعمال الفنية بالمعابد، بل حتى في الفن الحديث كما لاحظت لاحقاً في أعمال الفنان التايلندي العالمي المعاصر سومبون هورمتاي ين تونج. وربما كل تلك المظاهر للفيل لاستلهام تلك الروح التي يمثلها رمزه: مزيج ضخامة القوة ووداعة السلام.

وبينما اشتهرت البوذية تاريخياً بالتسامح لكنها تقدم اليوم النقيض الفاضح عبر ما يحدث غير بعيد من تايلند في بلاد بورما ميانمار والتي تتعرض فيها الأقلية المسلمة لحملات تطهير عرقي وتهجير منظم، يشارك فيها ويؤججها عدد من الرهبان البوذيين أنفسهم عبر تأجيج النار الطائفية، وتهييج الجماهير والحشود، مع التواطؤ الحكومي المريب ودونما كلمة تدخل أو إدانة واضحة من بقية أقطاب المشهد الديني البوذي، بل مع اكتفاء بالاستنكار الخافت في ظل تواطؤ صامت ومخزي وشائن ومعيب لكل الفلسفة البوذية التي اكتسبت احترامها بفعل تسامحها الديني، والتي تسقط نتيجة للتعصب الضيق الأفق.

ولعل المثير للتعجب هو ذلك الحضور الديني في خضم الرأسمالية المتعاظمة، وأكثر شيء إثارة للعجب ليس معبد الوات فا السفلي، ولا القصر الملكي، ولا بوذا الأبيض، ولا الفيل الوردي والأبيض، بل المعبد الصغير أمام البنك، والمعبد المصغّر أمام المجمّع التجاري البالغ الضخامة والفخامة، فهناك بين تلك الحدود المتناقضة بين ما هو استهلاكي صرف ومادي بحت، وبين ما هو روحاني وإلهي يمكن فهم الدور الذي يقوم به الدين اليوم، ولأي غاية مصرفية جيدة يمكن استثماره واقناع الناس بأهميته، طبعاً ليس في بانكوك وحدها بل في العالم المتديّن أجمع..

الثامن والثلاثون ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد