أبجديات الحوار و الوعي الوطني ( 3 )

محن الأوطان العربية

إن أوطاننا العربية قاطبة ، تعاني من محن مدلهمة ، و مظالم مختلفة الأشكال و الألوان ، و لكني سأحاول جاهدا حصرها في المحاور التالية :

1) مسألة الديمقراطية و الليبرالية :

و هي مسألة كثيرا ما يتداخل فيها الفهم ، و يحدث بينهما الخلط ، في عقول غالبية الجمهور ، بل و حتى لدى بعض فئاته المثقفة ، من يعتقد بأن كلا من ” الديمقراطية”  و “الليبرالية” هما كلمتان لمعنى واحد ، فتُستخدَم كلٌ منهما في مقام الآخر، عند الحديث عن المطالب الوطنية لأي شعب من الشعوب العربية . بينما حقيقة المعنى لهاتين الكلمتين أو المصطلحين ، مختلف تماما ، و إن يكن يربط بينهما ، في نهاية الأمر ، خيط رفيع ، كارتباط النتيجة بالسبب .

فالديمقراطية ؛ تعني ، دون أي تعقيد أو فلسفة ، حكم الشعب،  بواسطة الشعب ، للشعب ؛ أو بتعبير بسيط آخر ، هي أن يكون للشعب ، الحق و الحرية ، في اختيار حاكمه ، و في صياغة و إقرار الدستور  ، الذي يحتكم إليه في تنظيم حياته السياسية ، و الاجتماعية و الاقتصادية و الثقافية . فإذا أسقطنا هذا المفهوم ، على خارطة بلداننا العربية ، من المحيط إلى الخليج ، لن نجد حاكما عربياً واحدا ً ، منتخباً من شعبه ؛ و لاتضحت لنا صورة انعدام هذا الأمر الديمقراطي ، بل و إن المطالبة به ، دونه خرط القتاد،  و أبواب الجحيم ؛ فالأنظمة السائدة في هذه البلدان منذ عقود ،  إن لم نقل منذ قرون من الزمن ،  _ حتى لدى تلك الدول ، التي ادعت تبنيها للنظام الجمهوري _ ، هي أنظمة الفرد الأوتوقراطية و الديكتاتورية ، التي جاء حكامها ، إما بالوراثة الملكية أو السلطانية ، أو بالإنقلابات العسكرية ، التي لا تعترف بشيء اسمه الشعب ،  فضلا عن اعترافها بشيء اسمه حقوق الشعب،  في الحكم أو المشاركة السياسية . فتلك الأمور عندها خط أحمر ، و المتحدث عنها ، خائن و مارق ، على الأعراف و القيم السائدة ، يستحق عليها  السحق ، و السجن و حتى القتل .

أما الليبرالية ؛ فتعني ، أهم ما تعنيه ، حرية التعبير و السلوك و المعتقد ، وحرية التملك و العلم و العمل . أي أن يكون للفرد ، الحق في التعبير عن آرائه كما يشاء ، و أن يعتقد بما يشاء ( لذا قُرِنت بالعلمانية في كثير من الأحيان ) ، و أن يمتلك و يتعلم و يعمل ما يشاء ، داخل إطار المنظومة ، التي وضعها و يرتضيها النظام الحاكم . و هنا تكمن أسرار لعبة التدليس و التخفي ،  التي تمارسها حكومات الظلم والطغيان المستبدة ، مع شعوبها الباحثة عن الكرامة و الحرية ؛ حيث تستبدل مفهوم ” الديمقراطية ” بمفهوم ” الليبرالية ” ، و توهم شعوبها بأنها أنظمة ديمقراطية ، حين تسمح للشعب ، بأن يمارس شيئا من  حريته في تلك المجالات ، بما في ذلك ، حرية تكوين و إقامة تنظيمات المجتمع المدني . فتُنسي أو تُلهي شعوبها عن مطلب ” الديمقراطية ” الحقيقية ، و ينصب حراك الشعوب على المطالب ” الليبرالية ” ؛ غير أنها – أي هذه الحكومات – حتى في هذا الإطار، لا تعطي شعوبها ، تلك الحريات دفعة واحدة ، بل بالقطارة ، و بألف قيد و شرط ، معرقل و معطل ، لتجعل كل شيء تحت هيمنتها و قبضتها الحديدية ” لك الطِّوَلِ المرخى و ثنياه باليد ”
و الأكثر من ذلك و الأخطر ، أنها ستستعمل تلك الحريات الصورية ، كمجهر ، تضع تحته كل أفراد المجتمع ، لتكتشف و تتعرف على العناصر الناشطة و الفاعلة فيه ، فيسهل عليها اصطيادهم ، و تصفية حساباتها معهم،  أو على الأقل إبعادهم عن دائرة التأثير،  في اللحظات المناسبة . فحرية التعبير ، مثلا ، ستكشف للحاكم ، العقول المفكرة المبدعة في البلاد،  فيضعها في حسبانه ،  و تحت المجهر، و لن يرى النور إبداعها ، بغير مقص الرقيب العتيد ؛ و لن يكون صوتها مهما علا ، أكثر من ” هوهوة ” لا يهتز لها جفنه ، أي جفن الحاكم ، طالما أن في يديه الهراوة الغليظة ، و الصولجان المهيب .

و هو أمر يوصلنا إلى تقرير حقيقة ثابتة ، ألا و هي أنه لا حرية حقيقية للتعبير ، بدون وسائل إعلام حرة و مستقلة ، بعيدة عن هيمنة النظام و سلطاته المستبدة .

و هذا يعني أول ما يعنيه ، انه علينا أن نسعى ، و نعمل على خلق و إيجاد تلك السلطة الرابعة ، المستقلة الحرة ، قبل مطالبتنا ، بحرية التعبير ، التي لن يكون لها أي وجود أو تأثير ، في ظل الهيمنة الرسمية عليها ، و سطوة النظام العتيد ، الذي لن يسمح أو يجيز ، لأي إبداع ثقافي أو فكري ، إلا ما يعزز وجوده و يثني عليه ، بشتى صور النفاق و الرياء، و الدجل الهزيل .

2)  تسويق و تسويغ فكرة ،  أن الحاكم هو الوطن ، و الحكومة هي الدولة
و هو موضوع تحاول كل الحكومات المستبدة اللاديمقراطية ،  أن تسوقه و تسوغه ،  في شتى و سائل إعلامها ، و عبر كُتّاب السلطة و مثقفيها ؛ و تسعى جاهدة ،  أن تزرعه،  كعقيدة و مبدأ ، في أذهان العامة من الناس ، بأن الحاكم ، و ليس الوطن ،  هو ولي النعمة ، و صاحب الفضل ،  في كل ما هم فيه ،  من خير أو تقدم و تطور . و يترتب تلقائيا ، على هذه  النظرة ، تثبيت فكرة خاطئة مدمرة ، مفادها ؛ أن كل ملاحظة أو معارضة للحاكم ، هي مناهضة و تمرد على الوطن ، ترقى لمستوى الخيانة الوطنية التي يستحق فاعلها التأديب و العقاب ، أو التخلص منه ، حتى بالسجن أو الإعدام . و هي إشكالية ، تحدثتُ عنها في مقال سابق لي بعنوان ” نظرية المؤامرة ؛ خلفياتها التاريخية ، و تداعياتها المعاصرة “،  قبل بضعة أشهر،  تطرقت في عنوان فرعي منه  ، إلى الخلط المتعمد ، بين ” الحاكم  ” و
” الوطن ” و بين ” الحكومة ” و” الدولة ” ؛ حين قلت فيه يومها ما نصه:   أن الحاكم ،  ليس هو الوطن ، لأن الحاكم كائن فانِ  ، له زمان معين ، و عمر من الله محدد ، يموت و يزول بانتهاء عمره،  أو قد يتغير ، و ينزل عن كرسي الحكم ،  طواعية أو كرهاً ، بفعل ظرف من الظروف الذاتية ،  أو الموضوعية المجتمعية . أما الوطن ، بكل ما يمثله من  المقومات و المفردات المشتركة ، لشعب من الشعوب ، في الجغرافيا و التاريخ و اللغة و العادات و القيم و المصالح ، فهو شيء ثابت ، لا يطاله ،  في واقع الحياة،  التبدل أو التغير ؛  فلا ينبغي قطعا ، أن تُلغى كينونة الوطن الخالدة،  و تُختزل أو تُجسَّد و تذاب ، في شخصية الحاكم الفانية .

كذلك الحال فيما يخص ثنائية ” الحكومة و الدولة ” ؛ فالحكومة ، إن هي إلا نظام سياسي و قانوني مؤقت ، قائم على مرئيات الفئة الحاكمة ،  في بلد ما و زمان معين ، فهي متبدلة و متغيرة بطبيعتها ، بتغير رموزها و سدنتها المرهونين ، إن عاجلا أو آجلاً ، بحتمية الزوال و الانتهاء .  أما الدولة ، فهي كيان و رمز للسيادة و الكرامة و الاستقلال الوطني ،  لأي بلد من البلدان؛  فهي خالدة  ، خلود الدهر و المكان ؛ ولا يعني قطعاً ، أنّ الولاء للدولة و الوطن ، هو بالضرورة ولاء للحاكم ، أو للحكم و النظام السياسي السائد… لأن الانتماء الوطني ، هو دائماً للوطن ، لا للحاكم  أو نظامه السياسي . و الهوية التاريخية لأي شعب ، تستمد من كينونة الدولة الأزلية الخلود ، لا من حكومة مؤقتة زائلة الوجود .

فخلط المفاهيم على ذلك النحو السقيم ، يُعد خير مؤشر على وجود الحاكم الظالم و الحكم المهين .

3) تحول الوطن إلى إقطاعية للحاكم .

و كنتيجة لذلك التسويق و التسويغ الموجه لإحلال الحاكم محل الوطن ، يلتغي الوطن كفكرة و قيمة في ذاته ، و يتحول بكل ما فيه من ممتلكات و من ثروات و خيرات ، من ملكية عامة لكل أبنائه العائشين على ترابه ، إلى ملكية خاصة للحاكم و رهطه ، و يصبح من حقه أن يعربد و يمتلك ما يشاء،  بالقدر الذي يشاء ؛ يصول و يجول ، في مقدرات البلاد ، و أن يهب من يشاء،  و يحرم من يشاء ، يعز من يشاء ، بهباته و عطاياه،  و يذل من يشاء ، بحرمانه أو التقتير عليه ، كأنه الإله ( أستغفر الله ) . الأمر الذي يبدأ معه الحاكم ، و ميكنته الإعلامية و التعليمية الجهنمية ، في تصوير و غرس فكرة ،  أن كل ما يحدث في البلد ، من مشروعات عمرانية ، أو حضارية ، أو من بنى تحتية ، إنما هي مِنّة و عطيّة ،  تكرّم وتفضل بها الراعي على الرعية ، و ليست حقا مشروعا و مكتسباً ، لمواطني ذاك البلد.  و بالتالي فإن من يقول غير ذلك فهو جاحد للجميل ، و ناكر للفضل و المعروف،  يستحق الحساب و العقاب . و يبدأ عندها تكميم الأفواه ،  ضد كل من يرفع صوته أو يقول كلمة _ و لو فيها الحق الصراح_ على و لي النعمة ، فما على الجميع ، سوى أن يلهج بالثناء و الدعاء ، و تقديم آيات الشكر والطاعة و الولاء للحاكم ، أو  على الأقل أن يلزم الصمت إزاء كل ما يرى أو يسمع ، اتقاء لنقمة أو غضب الآلهة . فليس هناك شيء اسمه وطن ،  يرتبط به الوجدان والغيرة و الأماني ، بل هناك حاكم له الحق ، حتى في مصادرة أحلام اليقظة و المنام ، بكل ما تحمله من  طموحات أو آمال و معاني ، فيعم عندها ،  الاستبداد و الفساد ، و يصبح كل نقد أو محاولة للتقويم ، هو، في عرف النظام  ، تهكم على الحاكم المقدس ، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه و لا من خلفه . فيقع الشعب و قواه العاقلة المفكرة بين المطرقة و السندان ، أو بين خيارين أحلاهما مر . إما التعبير،  بكل صدق و أمانة ، عن طموحاته و آماله ، و حقوقه الوطنية المشروعة  ، و نقد كل صور الفساد و التقصير الكائن في الوطن ؛ و ذلك ما يغضب الحاكم و يثير حفيظته ، و قد يفقده رشده عند تأديبه المارقين عليه الجاحدين لمننه و أفضاله ( حسب معتقده ) ، فيمارس فيهم ، شتى صنوف التنكيل و التعذيب ، أو تغييبهم و راء الشمس ، بتهمة الإعابة في الذات العلية ، أو تلبيسهم أية قضية ؛ و إما أن يؤثروا الصمت و السلامة،  خوف المذلة و المهانة ، فينكفئوا على أنفسهم يتجرعون مرارة الغصة و تأنيب الضمير ، من جبنهم عن نصرة الحق و قول الحقيقة .

على أنه خيار لا يطول حسمه ، لدى الأحرار ، الذين لديهم الحرية و الكرامة ، فوق كل محذور و اعتبار ، لاسيما في زمان الفضاء المفتوح . فتنقلب عندها الآية ، و يصبح الحاكم ، هو الذي عليه أن يختار ، بين استماعه لصوت الحق ، و خضوعه للمتغيرات التي تقتضيها قوانين التطور الحتمية ،  في الحكم و  الحياة ، أو خوضه لمواجهة هوجاء مع شعبه ، لن تكون نهايتها،  مهما طال أمدها ، إلا الخزي له و الخسران .

4 ) عقيدة و عقلية الرمز الحاكم  

و هنا تفرض مسألة الرمز الوطني نفسها على الحديث ؛ فلابد بداهةً ،  أن يكون لكل بلاد أو دولة ، رمزها الوطني ، المتمثل في الحاكم ، تحت أي مسمى أو لقب يكون ، و مشكلة الشعوب جميعها ، و خاصة شعوبنا العربية، ليست في وجود هذا الرئيس ، أو ذاك السلطان والملك ،على دفة الحكم في هذا البلد أو ذاك ، و لكن مشكلة شعوبنا ، هي مع نزعة الاستبداد،  و الأنانية المستحكمة الطاغية ، لأولئك الحكام ، هي مع ضَعف ، إن لم يكن انعدام الإحساس بمسؤولياتهم الوطنية تجاه مواطنيهم و أوطانهم ،  التي يحكمونها ، و ينعمون بخيراتها ؛ فالحكم عندهم ، هو الغاية في السيطرة و السيادة ، و هو الوسيلة للكسب والنهب المنظم، و الاستغلال للثروة الوطنية في مآربهم ومصالحهم الشخصية فحسب ؛  و إن أظهروا غير ذلك ، في إقامة بعض المشروعات الشكلية الهزيلة ، فلن تعدو ذر الرماد في العيون ،  و صرف الأنظار ، عن النهش و الافتراس ، الذي يمارسونه في أقبية الظلام .

و بعيداً عن التسميات و التوصيفات اليسارية للحكام  ،  بين ملوك أو أباطرة أوتوقراطيين رجعيين ، و رؤساء منتخبين ثوريين تقدميين … بعيداً عن هذه التصنيفات ، على ما فيها من نصيب الصواب ، نقول ، أن بإمكان الملوك والأباطرة ، أن يبنوا دولاً متقدمة و ديمقراطية ، في أبهى صور التقدم و الديمقراطية ؛ شريطة تخليهم ، عن غلواء الظلم و القهر ، والاستبداد السياسي و الاقتصادي و الفكري ، الذي يمارسونه مع شعوبهم التي يحكمونها ، و جعلهم الأوطان التي يجلسون على كراسيها ، نصبَ أعينهم ، كأولوية قصوى ،  في تطويرها ، و النهوض بها ، إلى مصاف الدول المتقدمة . و خير مثال على ذلك ، اليابان الإمبراطورية  ، و بريطانيا و ماليزيا و بلجيكا الملكية الدستورية ، و غيرها كثير من الدول .

و عليه ؛ فليست المشكلة في من يكون الرمز الحاكم ، أو ما لقبه و مسماه ، بل المشكلة ، تكمن في طبيعة عقلية وعقيدة هذا الرمز . أهو من النوع المنفتح على شعبه ، الطامح لتطوير بلده ، بصدق و إخلاص و أمانة ، الذي يكون معه التقدم و الازدهار و الاستقرار ؛ أم هو من النوع الأناني المنغلق على ذاته،  المتجاهل لطموحات شعبه و وطنه ،  الممارس في نظامه  لمبدأ ” أنا و من بعدي الطوفان “،  الذي لن يقود البلاد إلا إلى مزيد من التخلف و الظلام و الانهيار، و شعور الناس بالمذلة و المهانة و الانكسار .

5) غياب المعارضة المنظمة

إن من أبجديات الديمقراطية الحقة ، المعاصرة منها على وجه الخصوص ، هو وجود معارضة منظمة ، معترف بها تشريعاً و قانوناً،  تسير جنباً إلى جنب ، و بشكل متواز ، مع النظام الحاكم . و هذه المعارضة ، تمثل العين البصيرة الناقدة  ، الراصدة لأي انحراف ، في ممارسات السلطة الحاكمة ، و تشكل بالتالي ،  صمام الأمان ،  و البوصلة الهادية ، لسفينة البلاد ، في مواجهة الأعاصير، التي قد تمر بها ، خلال مسيرتها ، في ظل هذا الحكم أو ذاك . فلا تكون للحاكم أو أية حكومة ، السلطة المطلقة في التصرف ، و اتخاذ القرارات المصيرية ، المؤثرة على الوضع الداخلي أو الخارجي للبلاد . بل و من حق هذه المعارضة ، الدعوة لإسقاط الحكومة ، أو تنحية الحاكم ، في حالة رصد الخلل أو الفساد ، الذي فيه الخطورة ، على أمن و مستقبل الشعب و الوطن . و هذا هو النموذج الأمثل السائد في كل الدول المتقدمة ، كأمريكا و بريطانيا و فرنسا و ماليزيا و اليابان و بلجيكا وغيرها، التي يكون بها في العادة حزبان أو مجموعتان ، أحدهما في السلطة و الآخر في مقاعد البرلمان كمعارضة ، لها مطلق الحرية المكفولة ، في نقد و توجيه الحكومة عند رصدها لأي فساد أو تقصير و انحراف .

و غياب هذه المعارضة المنظمة المستقلة ، في بلداننا العربية ، هو الذي سوَّل للحكومات ، التفرد و الاستبداد ، بالسيطرة و السلطة المطلقة ، على كل شيء و أمرٍ في البلاد ؛ و السلطة المطلقة ، كالحرية المطلقة ،  تُعَد مفسدة مطلقة ، يصبح فيها الحاكم طاغوتاً مستبدا بلا رقيب أو حسيب ، يتصرف في قرارات و مقدرات الشعب و البلاد ، وفق قاعدة ” لا عين رأت و لا أذن سمعت ” ،  فيحدث ما يحدث من قمع ، ومن مصادرة  للحريات و الحقوق ،  دونما أدنى خوف من حساب أو عقاب من أية جهة . فينتشر عندها الفساد و كل صور الكساد ، متمثلين الناسُ قدوتَها الحاكمة ،  في تصرفاتها و أعمالها الشائنة ، و تسود البلاد شريعة الغاب ، التي يفترس فيها القويُّ الضعيف ، و يكون البقاء فيها للأقوى، مالاً أو جاهاً أو سلطة ، أو واسطة و محسوبية .

فإذا ما أردنا لأوطاننا و شعوبها العزة و التقدم و الكرامة ، فلا بد من السعي و النضال لإيجاد مؤسسات تلك المعارضة المنظمة ، المناظرة و المعادِلة للنظام . وإلا بقيت الحكومات سادرة في غيها و الظلام ، إلى أمد لا يعلمه غير الله .

6) غياب القضاء المستقل

في عالمنا العربي بوجه عام ، ولدى الحكومات الملكية منها بوجه خاص ، يغيب الفصل بين السلطات الأساسية الثلاث للدولة ، التشريعية و التنفيذية و القضائية ، لغياب الدساتير الحرة فيها ، المشرعة و المقرة من الشعب و مؤسساته ، و تغيب معه استقلالية تلك السلطات عن بعضها البعض ، و تصبح كلها في قبضة الحاكم ، كونه هو الجهة التشريعية الوحيدة في البلاد . فهو المشرع لما يراه مناسباً لحكمه ، الضامن  لديمومته و استمرار كيانه و وجوده ، و هو الراعي و المشرف و الموجه لتنفيذ تشريعاته ، و هو الذي يعين عناصر السلطة القضائية ، و يغدق عليها من مننه و عطاياه ، و يجزل لها ، بشكل استثنائي ، في الرواتب و المنح ، إلى حد شرائها و الإتمار بأمره ، ” فمن يأكل لقمتي _ كما تقول العامة _ يسمع كلمتي “. وتصبح السلطة القضائية اليد التي يبطش بها الحاكم ، و أداة حكمه الشرعية . من خلالها ؛ يدعي العدل و إحقاق الحق في البلاد ، فليس هو ، بل القضاء من يحكم في أي أمر أو مخالفة لنص من نصوص القوانين المرعية . و بذا يكون الحاكم ، هو الخصم و الحكَم ، في أية مسألة تخص الحكومة و الحكم . و الأكثر من ذلك أنه قد يتقمص دور الرحمة فوق العدل و القانون، فيصدر عفوه السامي عن العناصر المحكوم عليها من القضاء العادل ، ليزكي نفسه ، و يتجمل في عيون شعبه  ، ويصبح في الأنظار و الأذهان  ذلك الحاكم الرحيم ، الشفيق بأبناء بلده . واضعاً في ذاكرته قول المتنبي :
” و ما قتل الأحرار كالعفو عنهمُ ” … فتلك من الألاعيب الشهيرة التي يمارسها الطغاة المستبدون بالحكم ، و التي باتت مكشوفة لدى كل ذي بصر و بصيرة . و لك%

العدد الثاني والاربعون سياسة

عن الكاتب

زهران بن زاهر الصارمي

abu-shamsan@windowslive.com
99206716