ورحل السلطان أخيراً

كتب بواسطة بدر العبري

في الأول من أغسطس لعام 1970م نشرت صحيفة “ذا إيكونوميست” The Economist المعروفة خبراً بعنوان “ورحل السلطان أخيراً” The Sultan goes at last تحدثت فيه عن التغيير الذي حدث في عُمان بالثالث والعشرين من يوليو وقدوم السلطان قابوس لسدة الحكم بعد انقلاب هادئ على والده.

وبالرغم من أن الإيكونميست لم تكن أول الصحف التي تحدثت عن الحدث  إلا أنه ما يُميزها هو التحليل الذي رافق الخبر ذاته، فنقرأ عن الرواية الرسمية التي قد تُخرجها بريطانيا عن ما جرى في 23 يوليو، وعن احتمال تعيين طارق بن تيمور كرئيس للوزراء (ولم يكن طارق قد عاد بعد) وتبعات ذلك، وعن إمكانية قيام السُلطان الجديد بجذب بعض المُتمردين الذين أبدوا ترحيباً بحكومته الجديدة (وهو ما حدث لاحقاً) وكذلك عن مُستقبل العلاقة بين بريطانيا وعُمان، بالإضافة لنقاط أخرى عديدة.

ونظراً لما يحمله هذا الخبر من أهمية تاريخية ولصعوبة الوصول إليه حتى بنسخته الإنجليزية؛ فإن الترجمة جاءت هُنا لتُسهل للباحثين والمُهتمين الوصول إلى التفاصيل التي وردت به، وغنيٌ عن القول أن الترجمة هُنا ليست حرفية وهي لا تعني بالضرورة الموافقة على ما ورد بها.

ورحل السلطان أخيراً

جاء توقيت رحيل سلطان مسقط وعمان متأخراً جداً، فما زالت هنالك قائمة عريضة من التغييرات التي يجدر القيام بها وفي الحال.

تمثّلت ردّة فعل وزارة الخارجية بُعيد ورود خبر إقصاء سعيد بن تيمور سلطان مسقط وعُمان إليها في إحساسٍ ضمنيٍ بالفرج وعودةٍ لأنفاس الطمأنينة ولكن بشكلٍ متستّر ومتكتّم، ذلك أن أي إعلان من طرف لندن بضلوعها في الانقلاب الذي حدث، والذي طالما كان مصدر مناشدة من جميع الدول المطلّة على الخليج الفارسي للحكومة البريطانية، سيكون مُحِرجاً جداً بالنسبة للابن قابوس – الذي تولّى للتوّ زمام السلطة. لذا فإن ما سيُعتَمد رسميا من الجانب البريطاني – في المرحلة الراهنة على الأقل- أن الإطاحة بسعيد تمت من قِبل حُراسه بأمر قابوس، وأن الحكومة البريطانية وضباطها في قيادات قوات السلطان المسلحة لم يكن لديهم أدنى دخل بمجريات ما حصل على بُعد قدمٍ منهم.

وليس واضحاً ما حدث بالضبط في القصر بليلة الـ٢٣ من يوليو ، فعندما وصلت وحدة من الجيش للمكان من أجل استعادة النظام كان قابوس ورجاله قد سيطروا على قصر والده بكل سهولة. وقد هُرع بالسلطان الهرم الذي أُصيب خلال الشجار مع أربعة من عبيده إلى طائرة لسلاح الجو الملكي حيث نُقلوا إلى البحرين لتلقي العلاج اللازم. وعندما تعافى في إحدى مستشفيات بريطانيا بعدها بيومين قامت وزارة الخارجية بتسريب خبر الانقلاب.

ولم يكن الانقلاب على السُلطان (60 عاماُ) الذي حكم عُمان لـ 38 سنة قد خُطّط له منذ وقت قريب، فالأوضاع في البلاد كانت قد تدهورت على نحوٍ حادّ خلال الستة أشهر التي سبقت الانقلاب، ولم يبدِ السُلطان، الذي انعزل عن شعبه في قصره بصلالة، اهتماماً كبيراً بتطوير شؤون إدارته والتخفيف من سيطرته وقبضته أو حتى الاهتمام بتنفيذ أي خطط تنموية. وكانت القشّة التي قصمت ظهر البعير الهجوم الذي شنته مجموعة مُزوّدة بأسلحة حديثة ذات عناصر تلقوا تدريبهم بالعراق على الأرجح لموقعٍ عسكري لقوات السلطان بإزكي في الـ12 من يونيو بطريقة مُنظمة جدا. وقد كان هذا الهجوم وغيره بالداخلية مُقلقاً لجيران السلطنة أكثر من التمرد في مقاطعة ظفار بالجنوب الغربي والبعيدة جغرافياً عن الإمارات المتصالحة.

لذا فتُواجه السلطان الجديد مهمة حسّاسة ومعضلة شائكة، ففي خضمّ عزمه على فتح بلاده بعد عقودٍ من العزلة التامة أمام التأثير والمتغّيرات الخارجية سعياً لأن تأخذ مكانها الصحيح في العالم العربي كما وعد، إلا أن ذلك سيفتح المجال للكثير من المغامرين السياسيين والمُتلهفين للظهور والاستفادة من ثروات خطط التنمية. ولا يبدو أن قابوس مُستعد لمواجهة هذه التعقيدات التي تنتظره، فبالرغم من أنه تلقى جزءاً من تعليمه في بريطانيا بساندهيرست وقضى عاماً كاملاً برفقة فوج عسكري بريطاني، إلا أن والده سجنه فور عودته ولم يسمح له بتولي أية مسؤولية في إدارة شؤون البلاد، وهو لا يعرف شعبه ولا شعبه يعرفه. ولذلك فعليه تصحيح هذا بدايةً، وقد قام بالخطوة الصائبة بذهابه لمسقط ومقابلة شيوخ القبائل هناك.

وخطوته الثانية يجب أن تكون إحالة المسؤولين القُدامى – وأغلبهم بريطانيون- المُوالين لوالده للتقاعد بهدوء، وتشكيل حكومة جديدة من العُمانيين وهو ما لن يكون سهلاً البتّة. ويبدو الوقت مناسباً وملائماً لعودة عمه طارق بن تيمور الذي غادر عُمان منذ ما يقارب العشر سنين ولطالما اعتبر نفسه منذ فترة طويلة مُرشحاً مُحتملاً لرئاسة الوزراء في عهد ابن أخيه للعودة إلى البلاد الآن. وإذا ما وافق على ذلك فإنه سيحصل على قدرٍ من الدعم وخصوصاً من طبقة التجار، عدا زعماء القبائل النافذة الذين قد يعارضوا إيكال شؤونهم لمن هو بالنسبة لهم أوروبيّ أكثر منه عمانياً.

ولن  يكن بوسع قابوس أو طارق الاعتماد على العديد من المتعلمين والمنفيين العُمانيين الذين تلقّوا دراستهم في بغداد أو في جامعة لومومبا Lumumba بموسكو، فمن وجهة نظر هؤلاء فقد آن لسيطرة الأسرة الحاكمة أن تنتهي، ولن تكون هناك فائدة من سُلالة أيامها في الحكم باتت معدودة. ولكن يُمكن لقابوس الاتكال على بعض المنفيين الأكثر اعتدالاً في تأسيس إدارته. إضافة لذلك فالسلطنة تتألف من العديد من القبائل التي لا يمكن جمعها معاً إلا تحت ظل سُلطان صلب وهيبة قواته المسلحة، ولذلك فعليه الوصول إلى تسوية مع زعماء القبائل الذين يُمارسون حُكماً ذاتياً على رقعة ممتدة ومترامية من البلاد.

ويُشكل متمردو ظفار مشكلة أخرى لقابوس ينبغي عليه معالجتها، فقد كان لوالده طريقة واحدة لحلها وهو فرض القوة، وقد كان سعيد قد وافق على رفع حجم جيشه من ثلاث كتائب لأربعة مُخططاً لهجوم يقمع به المتمردين خلال السنة القادمة. وإذا ما قرر قابوس تحسين وضع شعبه فسينبغي عليه توجيه وإنفاق إيرادات البلاد لكسب ولاء القبائل في ظفار بدلاً من الحملات العسكرية المُكلفة ذات النتائج غير المضمونة والمحسومة.

وقد وعد قادة جبهة تحرير ظفار غير المنتمين للتيار الماركسي باتخاذ “موقف إيجابي” من الحكومة الجديدة، وبالتالي فإن أحد الخيارات سيكون ضمّ ممثليهم لحكومته على أمل عزل المتمردين المدعومين من حكومة اليمن الجنوبي الثورية. أما الخيار الآخر فهو فصل محافظة ظفار عن باقي السلطنة وتركها تذهب في حال سبيلها، وهذا يعني التنازل عن مناطق مُحتملة للنفط لربما ينتهي المطاف بظفار وهي تحت سيطرة قوات اليمن الجنوبي مع أسلحتها الروسية والصينية مُتحركةً لبتر حدود جديدة من السلطنة.

وبالنسبة لبريطانيا فإن التغيير الذي حصل بمسقط سيُساعد في حلّ معضلة تأسيس سياسة مُوّحدة تتبنّاها تجاه الخليج  ككلّ وهي التي لطالما اعتبرتها حكومة بريطانيا مسالة شائكة، فالسلطان سعيد لم يكن على تواصل مع جيرانه وقد رفض مُؤخراً قرضاً من ملك السعودية فيصل. وفي هذه المرحلة فمن غير المتوقع أن يقوم قابوس بخطوة أكثر من التباحث مع حُكام الخليج وفتح حدوده للتجارة، ولكن الطريق أصبحت مفتوحة نحو تعاون محلي أكثر في التنمية والدفاع. ولم تكن من محض المصادفة تعيين السيد ويليام لويس William Luce ،حاكم عدن السابق والمندوب السامي للبحرين ممثلا شخصيا غير مقيم للسيد أليس دوغلاس-هوم   Alec Douglas-Home  لشؤون الخليج في هذا التوقيت بالذات، فهو يعرف السلطنة جيداً وقد دخل في نزاعات حادة مع السلطان السابق حينما حاول إقناعه بتغيير أساليبه، أما الآن فبالتأكيد أن لديه أفكاراً معتبرة للسلطان قابوس.

ومن مصلحة السلطنة وبريطانيا على المدى الطويل أن يتم إرخاء العنان لمستوى العلاقات الوثيقة بينهما، فاتفاقية 1958م التي تعطي قوات سلاح الجو الملكي صلاحية استخدام جزيرة مصيرة ومطار صلالة كمحطّات ميدانية عسكرية ألزمت بريطانيا بتوفير ضباط وكوادر عسكرية لقوات السلطان الجوية والبرية. وبالرغم من ضرورة أن تبقى مصيرة كقاعدة عسكرية مركزية إلا أن تكلفة إعارة ضباط بريطانيين للقتال في صفوف السلطان الداخلية كانت باهضة للغاية، ولذلك وجب إعادة وضع اتفاقية جديدة، فبالنسبة للسلطنة فهي في وضع مالي يسمح لها بتوظيف ضباط بنظام العقود، وليس هناك من أي سبب يشترط على الضباط أن يكونوا بريطانيين. وسيكون إعفاءً مُرحباً به عندما تدخل السلطنة في علاقات دبلوماسية مع دولٍ أخرى بحيث أنه متى وقعت أيّة أزمات في المستقبل فلن تُلقى كلها على كاهل بريطانيا.

الرابع والأربعون سياسة

عن الكاتب

بدر العبري