قراءة استشرافية : مستقبل البيروقراطية الإدارية ومركزية السلطة الحكومية في الألفية الثالثة

يمكننا من خلال استخدام بعض التقنيات المتعارف عليها في مناهج الدراسات المستقبلية كتقنية مراقبة التوجهات وإسقاطها زمنيا , فيما يعرف بتقنية المد البياني الاستقرائي للتوجه ” Extrapolation “على سبيل المثال , أن نرسم سيناريو أو صورة تقريبية لما يمكن أن يكون عليه شكل وطبيعية الحكومات في نقطة محددة في المستقبل , فعندما تتوفر البيانات الرقمية والإحصائية المقارنة فانه يمكن رسم مخطط بياني لتوجه ما على الورق لإظهار التغيرات مع الزمن , اعتمادا على آخر وتيرة تغيير , ومثل هذا النوع من الإسقاطات يمكن أن يظهر أين سيكون التوجه في نقطة ما في المستقبل على افتراض انه لن يكون هناك تحول جذري في وتيرة التغيير .

         ويفترض هذا السيناريو أن تستمر التوجهات الكبرى الراهنة كما هي عليه الآن , وانه لن تكون هناك مفاجآت استثنائية جذرية يمكنها أن تلغي توقعاتنا الحالية , فيما يطلق عليه في مناهج الدراسات المستقبلية بسيناريو الاستمرارية , على أننا لا يمكن بحال من الأحوال أن نجزم بان هذا السيناريو هو سيناريو مؤكد لشكل النظام الإداري الذي سيتحكم بتوجه وطبيعة الحكومات في المستقبل , بقدر ما هو قراءة استشرافية في المحتمل والمتوقع لذلك , وأين , وكيف يمكن أن تصبح الحكومات القائمة اليوم في نقطة ما في المستقبل , ويمكن القيام باستشراف مفيد لبعض الأحداث والتحولات رغم أن معظم أحداث المستقبل تقع ابعد من قدراتنا على التوقع , وتنخفض بسرعة ونحن نحاول أن ننظر ابعد وابعد , كما أن الاستشراف في العادة يعمل على الاحتمالات , وإمكانية أن يفشل استقراء ما تزداد كلما كان الاستقراء أكثر دقة وأكثر تفصيلا , وفي النهاية نحن بحاجة إلى هذا النوع من القراءة الاستشرافية حتى نستطيع اتخاذ القرارات المنطقية والمناسبة .

         على أننا وقبل قراءة الحاضر وجدنا أولا ضرورة إلقاء نظرة ولو بشكل مختصر وموجز على الماضي حيث يمكننا من خلال ذلك الحصول على فكرة عما نحن متجهون إليه في المستقبل , ففي الثورة الصناعية الأولى نحو مطلع القرن 19 كان لتطبيق البخار على الطواحين ووسائط النقل تأثير قوي على الاقتصاد والمجتمع والحكومات , فقد تحولت أنماط الإنتاج والعمل وظروف المعيشة والطبقات الاجتماعية والسلطة السياسية بشكل كامل , أما في الثورة الصناعية في مطلع القرن 20 فقد أحدثت الكهرباء والمواد التركيبية وماكينات الاحتراق الداخلي تغيرات سياسية واقتصادية واجتماعية مماثلة .

         فعلى سبيل المثال تحولت الولايات المتحدة الأميركية بعد الثورة الصناعية في القرن 20 من ( أمة يغلب عليها الطابع الزراعي إلى أمة صناعية حضرية مدنية بالدرجة الأولى , ففي تسعينيات القرن 19 كان معظم الاميريكيين ما يزالون يشتغلون في المزارع , وبعد ذلك ببضعة عقود كانت غالبيتهم تسكن في المدن وتشتغل في المصانع , فتغيرت الطبقات الاجتماعية والانقسامات السياسية عندما اكتسب العمل في المدن ونقابات العمال مزيد من الاهتمام , ومرة أخرى تغير دور الحكومة وطبيعتها ) , بالتالي فان هذا النوع من القياسات التاريخية تساعدنا كثيرا على فهم طبيعة القوى والحكومات التي ستشكل السياسات العالمية في القرن الحادي والعشرين.

       وهنا نطرح السؤال التالي:ما هي الثورة التي يمكن من خلالها القول أنها قد ميزت من جهة , وأثرت من جهة أخرى في شكل ومضمون البناء التاريخي والحضاري الحالي بشكل عام والسياسي والاقتصادي وما إلى ذلك من نواحي الحياة بوجه خاص وعلى رأسها بكل تأكيد مضمون بحثنا الرئيسي – ونقصد – طبيعة وشكل الحكومات في القرن 21 , والحقيقة أنني على يقين تام بان الإجابة سهلة وواضحة للكثيرين  , لان تلك الثورة لم تصب الدول والحكومات فقط في الصميم , بل بلغت كل مسامات الحياة والمجتمع بمختلف شرائحه وطبقاته بلا استثناء , – اقصد – أن الجميع لا يختلف على أنها الثورة الرقمية , و- بمعنى آخر – الثورة الصناعية الثالثة الكامنة في الثورة المعرفية والمعلوماتية رغم أنها لا زالت في مراحلها المبكرة من حيث التطور والتأثير العابر للقارات .

         حيث يواجه الجميع اليوم شعوب وحكومات إيقاعات فائقة التسارع لصدمة معلوماتية ومعرفية تهز كيان الوجود الإنساني برمته , وتأخذ هذه الصدمة المعلوماتية / المعرفية طابع الاستمرارية والديمومة والكثافة في الحجم تحت تأثير أمواج متدفقة من الاندفاعات المعلوماتية التي تهاجم العقل الإنساني وتقهره , وفي وصف هذه الثورة المعلوماتية والمعرفية يقول الاقتصادي الكبير كينيث بولدنج: لقد ولدت في منتصف التاريخ البشري لأن ما حدث مذ ولدت حتى الآن يعادل تقريباً كل ما حدث قبل أن أولد , وعلى هذا المنوال يقول البيولوجي الشهير جوليان هكسلي بأن إيقاع التطور المعرفي والتكنولوجي أسرع اليوم 100.000 مرة مما كان عليه في العصور السابقة, أما توفلر فيذهب في كتابه – صدمة المستقبل – إلى وصف هذه الثورة قائلاً : بأن 90% ممن أنجبت البشرية من العلماء يعيشون الآن في المرحلة الراهنة .

         وقد أثرت الثورة الصناعية الثالثة أو الثورة الرقمية بشكل غير مسبوق في مختلف نواحي الحياة الحضارية والبشرية , بداية من تطور التفكير والوعي لإنسان الألفية الثالثة ونظرته الى حاضره ومستقبله , مرورا بالتغيير الشامل والواضح في أساليب وأنشطة حياته اليومية , وليس انتهاء بالتأثير في سيادة الحكومات وطبيعتها واستقلالها , وتأثير العناصر الفاعلة من غير الدول في مجريات الحياة العامة بمختلف اتجاهاتها – بعبارة أخرى- فان التكنولوجيا الجديدة والثورة الرقمية الكامنة في المعارف والمعلومات وملحقاتها المادية والمعنوية قد حولت كتل وهياكل البناء الحضاري العالمية بشكل جذري خلال المراحل الزمنية القائمة , ومن بينها شكل ومضمون طبيعة النظام الإداري الذي يتحكم بمرئيات واستراتيجيات وتفكير وتوجه حكومات العالم نحو المستقبل القريب والبعيد .

         وبالعودة إلى تأثير الثورة الرقمية على الحكومات الراهنة كونها محل بحثنا , فقد كان الرهان قبل أكثر من سبعة عقود ونصف مضت حين تنبأ عالم الاجتماع البارز وليام اوغبيرن بان التكنولوجيا الجديدة سوف تؤدي الى مركزية سياسية اكبر والى تقوية الدول في القرن 20 , ففي العام 1937م جادل اوغبيرن بان الحكومة الأميركية ربما ستميل الى تشديد النزعة المركزية بسبب الطائرة والحافلة والشاحنة وماكينة الديزل , وقد كان محقا بدرجة كبيرة بشان تلك النظرة والتفكير في سياسات الحكومة الأميركية على سبيل المثال لا الحصر في ذلك الوقت , كما لم تكن اميريكا وحدها قد انتهجت تلك النزعة وذلك التوجه في طبيعتها وهياكل بناءها في ذلك القرن بل كانت دول وقوى عالمية أخرى كالاتحاد السوفيتي تسير على ذلك النهج , فقد كان نموذج ستالين الاقتصادي قائما على التخطيط المركزي , الذي جعل الكمية لا الأرباح هي المعيار الرئيسي لنجاح أي مدير , فكان المخططون لا الأسواق هم الذي يضعون الأسعار.

         إلا أن ذلك لم يكن مقدرا له الاستمرار والنجاح الى مالا نهاية لا في الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفيتي السابق ولا في غيرها من حكومات دول العالم اليوم , كون ذلك لم يكن ممكنا أبدا في ظل الثورة الصناعية الثالثة , وما رافق ذلك من حتمية مواكبة ذلك التطور في المعرفة وتسارع المعلومات في وقت لم تكن فيه النظرية البيروقراطية أو المركزية في إدارة شؤون الحكم والدولة وتسيير مؤسساتها قابلة ولا حتى قادرة على التعاطي مع ذلك الوضع لجمودها وضعف هياكلها الإدارية ونقص المرونة اللازمة لمواكبة الإيقاع المتسارع للتغيير التكنولوجي في الاقتصاد والسياسة العالمية القائمة على المعلومات , وكما قال مارشال غولدمان المتخصص بشؤون روسيا ذات مرة ( في آخر الأمر أصبح نموذج النمو الستاليني قيدا بدلا من أن يكون مسهلا , وهو أمر يمكن سحبه على كل الدول والحكومات التي لا زالت تسير على ذلك النهج المتهالك في تسيير وإدارة مؤسساتها حتى يومنا هذا , حيث سوف تجد حكومات العالم وبجميع أشكالها أن السيطرة المركزية التقليدية حتى على شؤونها وسيادتها الداخلية قد بدأت تفلت وتنزلق شيئا فشيئا من بين أيديها .

         ففي العام 2001م على سبيل المثال فقدت الحكومة الهندية عدة وزراء وكادت تنهار بعد أن ظهرت تقارير عن الفساد على موقع إخباري بالشبكة العنكبوتية , واتضح أن الفضائح التي كان يمكن احتواءها ذات يوم في نيودلهي صارت السيطرة عليها مستحيلة , حيث ( لم يقتصر الأمر على قيام الموقع Tehelka.com بكشف الفساد الباطن بين العسكريين الهنود , بل لقد ساعد ذلك الموقع على تأجيج النزاع بالعمل كلوحة نشرات إخبارية للقراء والساسة كي يعبروا عن آراءهم ) وهو نفسه ما أحدثه موقع ويكيليكس  من تأثير غير مسبوق على الكثير من الدول والحكومات في مختلف أرجاء العالم  فيما عرف بوثائق ويكيليكس التي بدا تسريبها مع نهاية العام 2010م بمشهد فيديو لطائرة قتلت فيها القوات الأميركية مجموعة من المدنيين العراقيين في العام 2007م , ومرور بتسريب ما يقارب الأربع ملايين وثيقة فيما سمي بسجلات حرب العراق ويوميات الحرب الأفغانية وبرقيات الدبلوماسية الخارجية الأميركية .

         كما أن هناك اتجاه آخر له علاقة وثيقة بثورة المعرفة والمعلومات , ويعزز التكهن بان هذا القرن سيشهد تحولا في موقع الأنشطة الجماعية والاشتراكية بعيدا عن الحكومات المركزية , – اقصد – انتشار السلطة بعيدا عن الحكومات المركزية باتجاه العناصر الفاعلة الخاصة , فانتشار المعلومات سوف يعني ان السلطة ستتوزع على نحو أوسع بين الشبكات غير الرسمية , وهو ما سينقص من احتكار البيروقراطية التقليدية والمركزية السلطوية , كما ان القادة السياسيين سيتمتعون بدرجات اقل من الحرية في إدارة شؤون دولهم , وعندئذ سيضطرون الى تقاسم المسرح مع ممثلين آخرين , وستزداد الخصخصة والملكية المشتركة بين القطاعين الخاص والعام , وستختلف الدول في مدى الدفع باتجاه نزع الصفة المركزية وسرعة هذا الدفع الناجم عن ثورة المعلومات والمعرفة .

         كما ستسهم المنظمات والجماعات الدولية والمؤسسات غير الحكومية العابرة للقومية باختلاف اتجاهاتها وتوجهاتها وحتى بعض الأفراد في توجيه دفة السياسة العالمية والخطط التي تؤثر على السياسات العامة والتي كانت يوما حكرا على الحكومات المركزية , مما سيدفع باتجاه تغيير طبيعة تلك الحكومات ومرئياتها واتجاهاتها المستقبلية كثيرا خلال القرن 21 , وهو ما يشير إليه ويؤكده خبير الإدارة بيتر دراكر وعالما المستقبليات هيدي توفلر وألفين توفلر بان ( ثورة المعلومات آخذة في إنهاء المنظمات البيروقراطية المتسلسلة في المراتب , والتي ميزت عصر الثورتين الصناعيتين الأولى والثانية )         و- باختصار- فان هذه التحولات  والتغيرات الحاصلة في طبيعة البيئة الإدارية للسياسة والعلاقات الدولية المعاصرة بوجه خاص والحضارية بوجه عام تشير الى إبطال مفعول الدولة المركزية الحديثة التي سيطرت على السياسة العالمية طيلة قرن ونصف , كما ان تغيير دور وطبيعة المؤسسات الحكومية خلال المستقبل قد أصبح أمر مؤكد وحتمي من خلال عملية تدريجية ستتضح معالمها خلال السنوات القليلة المتبقية من العقد الثاني للقرن 21.

         بناء على تلك المعطيات سالفة الذكر , يمكننا تصور سيناريو مستقبلي من خلال استخدام تقنية المد البياني الاستقرائي للتوجه ” Extrapolation ” بشكل موجز ومختصر , للإجابة عن السؤال التالي : كيف سيكون شكل وطبيعة الحكومات في العقد الثالث من القرن 21 انطلاقا من بداية العام 2030م , وذلك من خلال إسقاط توجهاتنا الكبرى الراهنة والخاصة “بتأثير الثورة الرقمية ” إلى الأمام بناء على المعطيات التي سبق وتطرقنا إليها , والتي يمكن اختصارها في النقاط التالية : انكشاف الحكومات بشكل كبير , وازدياد نشاط وقوة وتأثير العناصر الفاعلة من غير الحكومات أو القطاع العام في السياسة الداخلية والخارجية للدولة , وازدياد الخصخصة والملكية المشتركة بين القطاع الخاص والعام , وما سيترتب على ذلك بكل تأكيد من تغيير في اتجاهات واستراتيجيات وطبيعة الحكومات في المستقبل .

         فعلى سبيل المثال وصلت عدد المواقع الالكترونية في العام 2011م ما يقارب الـ 100 مليون موقع مقارنة بـ 50 مليون في العام 2004م أي بمعدل 7 مليون موقع تقريبا كل عام , فإذا ضربنا ذلك الرقم في 17 عام قادمة حتى العام 2030م , سنجد أن ذلك الرقم قد تجاوز المليار وربع المليار موقع الكتروني , مقابل 8 مليارات نسمة متوقعة لحجم السكان في العام 2025م , كما قدر بحسب العديد من الإحصائيات وعلى رأسها إحصائيات الاتحاد الدولي للاتصالات أن عدد مستخدمي الانترنت في العام 1996م بلغ 16 مليون مقابل 3 مليار وربع مع مطلع العام 2013م  , وبحسب نفس المصدر فان قاعدة مستخدمي الشبكة العنكبوتية حول العالم قد تضاعفت خلال الفترة منذ بداية العام 1996 وحتى نهاية العام 2012 حوالي 150 مرة , أي – أنها ستتضاعف لأكثر من 300 مرة وربما أكثر حتى العام 2030م , ويمكن عمل نفس المقارنة حول سعر الحاسوب وكلفة معالجة المعلومات ونقلها وسرعتها , وسرعة الانترنت أو حركة المرور على الشبكة العنكبوتية في نفس الفترات الزمنية السابقة .

          ولنسال هنا عن مدى حجم وتأثير ذلك العدد من المواقع الالكترونية في انكشاف الحكومات من حيث إضعاف حجم البيروقراطية والمركزية باتجاه الشفافية واللامركزية وتداول المعلومات أو إخفاءها ؟ وما مدى تأثير وقوة تلك المواقع في كشف مواقع الفساد والتجاوزات في المؤسسات العامة ؟ واثر ضعف المؤسسات العامة من حيث الإنتاج والجودة أمام مؤسسات القطاع الخاص ذات الطابع المرن والمنفتح ! هذا إذا ما علمنا انه بفضل تلك الثورة قد أصبحت التقنيات متاحة للضعفاء مثل الأقوياء وللفقراء مثل الأغنياء وللمغلوبين المقهورين مثل الغالبين المتحكمين , وللمنظمات العابرة للقارات سواء كانت إرهابية أو فوضوية أو غير ذلك مثل ما هو متاح للحكومات وأجهزتها التي تحافظ على الأمن والاستقرار .

         من جهة أخرى فان هناك مفكرون يتحدثون اليوم عما يسمونه ” بالديمقراطية نصف المباشرة أو المباشرة ” حيث يشارك الجميع في القرارات وليس فقط ممثلو الشعب , وهم يرون أن العالم في ظل الثورة الرقمية سيتجه إلى أسلوب صناعة القرار من خلال الحاسب الآلي خلال المرحلة القادمة , وان التصويت البرلماني سيكون برلمان دولة أو برلمان عالم ولن يقتصر على برلمانات ممثلين الشعب , وكما يوجد اليوم تصويت في الأمم المتحدة والتي تجمع مختلف دول العالم ومجلس الأمن وغيرها من البرلمانات الدولية , فان القرارات الداخلية خلال السنوات القادمة ستتحول تدريجيا إلى تصويت شعب وليس ممثلين فقط , من خلال استفتاء عام أو استطلاع رأي شامل .

          ( فالمجتمع الدولي اليوم يتشظى ويتناثر بسرعة إلى مجموعات كبيرة من الأقليات , والمقصود هنا ” الأقليات المهنية ” في ظل التنوع الشديد المتناثر في مجالات التقانات الحديثة , ولعل مؤرخي الغد سيجدون في التصويت والبحث عن أكثرية مراسم بالية أنشأها بدائيون يشكون من نقص التواصل فيما بينهم يوم كانت فكرة الاستفتاء في العديد من دول العالم وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية يصطدم بان واقع الاتصالات لم يكن قادرا على ضمان نتائجها , وهو ما لم يعد يمثل أي مشكلة اليوم , فالتقدم المدهش الذي يتحقق الآن يفتح الأول مرة شبكة خارقة للعادة من وسائل المشاركة المباشرة للمواطنين في القرار السياسي الوطني والدولي ) .

        – باختصار- لقد زادت مشاركة عامة الناس وتدخلهم بطريقة مباشرة أو غير مباشرة في الشؤون الداخلية لحكوماتهم , بل تعدتها للمشاركة في الشؤون العالمية , حيث أصبح الناس العاديون يستثمرون في الصناديق الأجنبية المتبادلة , ويقامرون في مواقع الانترنت الواقعة بعيدا عن بلدانهم خارج متناول الجمارك والضرائب , فهذا التوسع الهائل في قنوات الاتصال العابرة للقوميات لمسافات تتعدى قارات متعددة , والذي ولدته وسائط الإعلام والعدد الكبير من المنظمات غير الحكومية – معناه – أن هناك مزيدا من القضايا لمن يريد الإمساك بها على الصعيد الدولي , بما في ذلك التنظيمات والممارسات مما كان في الماضي يعتبر من الامتيازات المقتصرة حصرا على الحكومات الوطنية , فهناك مجالات واسعة من حسن إدارة الحكم في الحياة العابرة للقومية تضطلع بها عناصر فاعلة في القطاع الخاص , سواء أكانت إيجاد شيفرة تحكم على شبكة الانترنت أو وضع مقاييس للسلامة في الصناعة الكيميائية.

         إذا أصبح فهم الأمر ابسط بكثير وغير معقد , فالأنظمة الإدارية الحكومية القائمة اليوم والتي ستصر على عدم التغيير والبقاء والاستمرار على نهجها المركزي في الحكم وإدارة شؤونها وبيروقراطية المكاتب في العقد الثاني من القرن 21 ستنهار وستترهل مؤسساتها بشكل تدريجي وسريع أمام ضربات العولمة العابرة للقارات واختراقات الثورة الرقمية وانعكاساتها , وان اغلب المؤشرات الإحصائية المقارنة تؤكد على نهاية النظم المركزية والبيروقراطية خلال الـ15 سنة القادمة باتجاه حكومات الكترونية ذكية كاملة بكل ما تعنيه الكلمة من معنى في إدارة شؤون الدول وتسيير حياة مواطنيها وفي العلاقات الدولية والاقتصاد والسياسة وما إلى ذلك ,وانه لن يكون أمام الحكومات القائمة من طريق آخر يحول دون ذلك الانهيار في النظام الإداري الذي يوجه دفة شؤونها الخارجية والداخلية والذوبان المؤسساتي سوى الاندماج مع التحولات والمتغيرات الجديدة الحاصلة في بيئة النظام العالمي بشكل علمي ومخطط له بشكل سليم , واختيار الطريق الحتمي الذي لا مفر عنه أبدا – اقصد – الولوج إلى المستقبل عبر شبكة المرور الرقمية .

الرابع والأربعون سياسة

عن الكاتب

الأستاذ محمد بن سعيد الفطيسي

• رئيس تحرير صحيفة السياسي الالكترونية , التابعة للمعهد العربي للبحوث والدراسات الإستراتيجية منذ مطلع العام 2009 م وحتى الآن.
• رئيس تحرير صحيفة الساعة الالكترونية السورية في الفترة من 2007 - 2008م.
• صحفي مستقل , وباحث في الشؤون السياسية والعلاقات الدولية.
• كاتب مقال أسبوعي بصحيفة الوطن بسلطنة عمان – صفحة آراء السياسية.
• باحث في الشأن الروسي الحديث – روسيا القرن الحادي والعشرون.
البريد الالكتروني : azzammohd@hotmail.com
الهاتف النقال : 0096899844122