الخليج، مراحل بعد الفراغ

كتب بواسطة المعتصم البهلاني

“..

حشدوا النفط

فالنفط يعرف كيف يقاتل حين تطول الحروب

وقد يتقن الضربة الخاطفة

…”

الأساطيل – مظفر النواب

تمر دول مجلس التعاون اليوم بأقسى لحظاتها منذ إنهيار النظام العراقي وإحتلال بغداد منذ أكثر من عقد من الزمان، تلك النهاية المؤسفة التي أوصلتها إليه عجرفة النظام العراقي آنذاك بعد أن ارتكب أكبر الأخطاء فداحة باحتلاله للكويت. لم يُقدِم النظام العراقي على فعلته إلا بعد أن مُلِئت نفسه بالغرور والإحساس بأنه “حامي حمى” العروبة الذي خرج من حرب طاحنة مع إيران وقفت فيها دول مجلس التعاون – باستثناء عمان – مناصرة له فيها. ولم يرتكب حماقته تلك إلا بعد أن أعطته حليفة الأمس وعدوة اليوم (أمريكا) الضوء الأخضر الضمني لاحتلال الكويت عسكريا لتعود بعدها بعدتها وعتادها لتحارب العراق وتفرض عليه حصارا أنهكه وقتل شعبه قبل أن تقوم بتدميره بالكامل في 2003. سيناريو ربما أصبح سرده عليكم مملا كئيبا يحفظه الأطفال قبل الكبار عن ظهر قلب، ولكن، هل ما زال هذا الأمر محفورا في ذاكرة مشيخات الخليج التي ساهمت فيما حصل للعراق ؟

إن ما يحصل اليوم بين أشقاء دول مجلس التعاون، هو دلالة واضحة على أن الصورة الحقيقية للعلاقات الخليجية هي بخلاف تلك التي نعرفها لعقود من الزمن. لقد كشفت لنا الخلافات الحالية والاتهامات المتبادلة أن علاقة دول مجلس التعاون بعضها ببعض كانت – وما زالت – تحوي على قضايا مفصلية مختَلَفٌ عليها ليست محصورة في الأطر الشكلية للخلافات الحدودية وإنما تمتد لتصل في أعماق الانتفاع بالمدارس السياسية التي بنيت عليها أو تدعمها هذه الدول. هذا التباين الحاد في وجهات النظر لم يشكله الإيمان بهذه الأيدولوجيات (مع أو ضد) بقدر ما حركتها مقتضيات المصلحة السياسية لهذه الدول؛ أعني بذلك أن الإرث الفقهي أو العقدي لهذه الاتجاهات السياسية لا خلاف عليه بين هذه الدول، وإنما الخلاف في توظيف الشق السياسي في هذه الحركات لخدمة المصالح السياسية. وهذه الإشكالية الواضحة في بناء العقلية السياسية لا تنفرد بها دول مجلس التعاون، وإنما نراها واقعة على ضفتي الخليج. ففي الضفة الشمالية من الخليج العربي تعتبر إيران نفسها “حامي حمى” الشيعة في العالم أجمع، فاتكأت هيكلتها السياسية على مفهوم “ولاية الفقيه” وطوعت نظم الحكم الديموقراطية لتصبح إيران السياسية هي ما عليه اليوم من مجموعة مجالس متداخلة وعقدة وصلاحيات تبدو شبه مطلقة للولي الفقيه، فأصبحت بذلك أقرب للنظم الملكية الدستورية منها إلى النظام الجمهوري. أما في الضفة الأخرى من الخليج فقد اتكأت السعودية منذ نشأتها على السلفية والتي تحالفت مع الحركة الوهابية بزعامة الشيخ محمد بن عبدالوهاب لتكوين نموذج – في عرف السعودية على أقل تقدير – إسلامي للحكم، واعتبرت السعودية نفسها أيضا “حامي حمى” السنة في العالم بمعنى أنها تعتبر نفسها الثقل المذهبي الموازي لما تراه مداً شيعياً زاحفاً ضد دول المجلس. بطبيعة الحال فإن إيران هي المتسبب الأول لهذا الإنطباع بسبب ترويجها الدائم لتصدير الثورة قبل أن تدرك أنها لا يمكنها العيش مع دول الجوار في ظل وجود هذه الفكرة، وبطبيعة الحال رأت السعودية أن حمايتها للخليج لن يكون دون وجود هيمنة على القرار والموقف السياسي لدول المجلس وتوحيدها تحت رايتها لتكون بذلك السعودية الكبرى.

في عام 1987 عندما تولى الشيخ حمد بن خليفة ولاية العهد تضعضعت الهيمنة السعودية على قطر، وأستطيع القول أن وصوله إلى الحكم شكل نهاية حتمية للهيمنة السعودية على المواقف السياسية لقطر وشكلت استقلالا أزعج السعوديين بشكل كبير. تبنت قطر منذ نشأتها دعما للصوت المعارض المكبوت في الوطن العربي وذلك حينما أحدثت نقلة نوعية في الإعلام العربي بإنشاء قناة الجزيرة والتي اتخذت شعار الرأي والرأي الآخر رسالة لها في العمل الإعلامي، وعلى الرغم من التحفظات الشديدة والعميقة على مهنية قناة الجزيرة إلا أننا لا يمكن أن نتجاهل دورها في تغطية – وفي بعض الأحيان المساهمة في صناعة – الأحداث المفصلية في العالم العربي خصوصا. التبني القطري لأصوات المعارضة أوصلها إلى تبني أكثر الحركات السياسية الإسلامية المعارضة في القرن الماضي وهي حركة الإخوان. وظهر هذا الدعم بشكل أوضح وأكبر إعلاميا عندما دعمت قطر الحركة ماديا وإعلاميا قبيل وفور وصولها إلى السلطة في مصر عن طريق صناديق الاقتراع. ولا يمكن بطبيعة الحال إغفال وجود أكبر شيوخ الإخوان في قطر وهو الشيخ يوسف القرضاوي، والذي أعتبره جزءا من مشكلة قطر مع جيرانها، خصوصا بعد اتهاماته المرفوضة ضد الإمارات – من الأراضي القطرية – بمحاربتها للنظام الإسلامي السياسي. هذا الأمر – أقصد دعم الإخوان – لم تعد تعتبره السعودية خروجا عن عبائتها السياسية فحسب، بل اعتبرته منازعة لها في وزنها السياسي داخل العالم العربي والإسلامي. لم يقف تهديد قطر للسعودية – في تقدير السعوديين على الأقل – على الزعامة السياسية في العالم العربي والإسلامي فحسب، بل اعتبرته خطراً حقيقياً على أمنها واستقرارها الداخلي أيضاً. أما بالنسبة لقطر فالمسألة ليست مسألة دعم إخوان فحسب وإنما مغامرة بمكتسب استقلالية القرار السياسي، وأن الرضوخ إلى المطالب السياسية السعودية بإيقاف الدعم عن الإخوان في مصر هو بداية لفقدان هذا المكتسب الذي عمل الشيخ حمد على إيجاده خلال فترة حكمه. المسألة إذا ليست مسألة دعم لجناح إسلامي سياسي يسعى إلى الحكم، فالإخوان والوهابية كليهما تسعيان إلى الحكم في المناطق التي تنشط فيها، وتطمحان لإقامة “حكم إسلامي” يُعمِل فهم فقهاء السلفية للشريعة الإسلامية متجاوزا التحولات المدنية والسياسية الطارئة على المجتمعات التي تنشط فيها. لذا فإن الانتماء لأي من الحركتين هو انتماء بالضرورة إلى تنظيم سياسي يعمل على الوصول إلى السلطة، وبذا يشكل تهديدا على بقاء السلطة القائمة في حينها. هذا الأمر يجعلنا نفهم لماذا تحارب أبو ظبي حركة الإخوان المسلمين في الداخل حتى وان ظلت نشاطاتها إجتماعية ومدنية، ونتفهم أيضا محاربة السعودية لحركة الإخوان كونها تطرح للمجتمع السعودي بديلا سلفيا أقل تشددا من النموذج السلفي الوهابي الذي يفرض قيودا اجتماعية شديدة على المجتمع باسم الدين. نتفهم لماذا تجمد الإمارات والسعودية الخلافات الحدودية بينهما في قضيتي خور العيديد وحقل الشيبة النفطي. أما عن الموقف البحريني من الخلاف مع قطر فنستطيع القول أنه موقف مؤازر للسعودية والإمارات فحسب. هذا الدور الذي رفضت كل من عمان والكويت – خلافا لما ورد في بعض الصحف الموالية للنظام السعودي – الانجرار بتبعية إليه وفضلت البقاء بمسافة متساوية من الجميع.

الأمر الذي يجعل الدول المناوئة لقطر مستعدة لإدخال المنطقة برمتها في صراعات بسبب دعم الأخيرة للإخوان هو وجود مجموعة من عوامل عدم الاستقرار في هذه الدول، مما يجعلها مؤهلة لتقلبات سياسية قد تطال أنظمة الحكم فيها. ففي الدول الثلاث (الإمارات والسعودية والبحرين) يوجد سجناء أدينوا إما بالإرهاب أو بالتخطيط لقلب نظام الحكم، وبغض النظر عن صحة هذه الإدانات إلا أن بقاء هذه الفئات في السجون يعني أن الأنظمة الحاكمة إلى الآن لم تتمكن من إيجاد ردع داخلي لدى هذه الفئات لثنيها عما تؤمن به وبالتالي إعادة تكاملها داخل المجتمع دون أن تسبب قلقا لها، وبذا يصبح وجودها في السجن هو الأقل تهديدا لهذه السلطات. لذا فإن التصالح بين هذه الأنظمة والفئات التي تحدث إضطرابا داخليا هو الحل الأنجع لتحقيق إستقرار طويل الأمد وتحصين داخلي من أية تدخلات خارجية إن وجدت.

إلى الآن، يبدو الوضع أنه متجه للتأزم وليس الوصول إلى حل سلمي يعيد المياه إلى مجاريها، فالإعلام في كل من هذه الدول لعب بشكل أو بآخر دورا سلبياً في تأزيم الموقف، وغدت مجموعة من الصحف والقنوات المحسوبة على الحكومات ملاعب وحل يتراشق فيها صبية الصحافة بالطين، الأمر الذي لا يمكن حدوثه لولا مباركة “طويل العمر” في هذه الدول. ما كنا نعول عليه لحل هذ الأزمة هو التدخل العماني، إلا أن من عادة عمان أن لا تتدخل في أية وساطة إن لم ترى جدوى من الدخول فيها. ففي الأيام الأولى لبداية الأزمة تلقى السلطان قابوس رسالة خطية من أمير الكويت، عقبتها مكالمة هاتفية مع أمير قطر ومن ثم زيارة لوزير قطري قابل فيها عددا من المسؤولين، لم نرى إلى الآن خطوات أكثر من الجانب العماني لحل هذا الخلاف. كما أن الموقف الكويتي بعد فشل قمة الرياض المصغرة توقف تقريبا عن المضي قدما في محاولة حل المسألة، ويبدو أنها ستترك الوضع بين الدول المختلفة يتأزم أو يحل.

إن استمرار الوضع على ما هو عليه سيزيد من الانقسام بين دول المجلس وليس من صالح جميع الأطراف المتنازعة، وما قد نشهده هو إعادة ترتيب القوى في المنطقة وخلق مجموعة من التحالفات الجديدة على مستوى الدول. فالمستوى القادم من التأزيم السياسي والذي يتوقعه معظم المراقبون هو قطع الطرق البرية – وربما الجوية – من و إلى قطر، هذه الخطوة إن اتخذت فستتبعها خطوة مضادة من قطر قد تكون تعليق عضويتها في مجلس التعاون والذي سيكون المسمار الأخير في نعش المجلس. حينها، لن يكون أمام قطر إلا التحالف مع إيران – المتصالحة مع عمان – وتعزيز المصالح المشتركة فيما بينها – خصوصا حقول الغاز المشتركة – والذي قد يستوجب إيجاد حل للأزمة السورية يضمن فيه خروج بشار من الحكم والإتيان بحكومة انتقالية. من ناحية أخرى ستعزز قطر تعاونها مع الثقل الإخواني الأكبر في المنطقة وهو النظام التركي والذي لديه هو الآخر مصالحه الاقتصادية التي ستتحقق إن وجدت ذراعا قويا لها داخل منطقة الخليج العربي. وجود حلف ايراني قطري تركي داخل منطقة الخليج العربي سيكون بديلا للقوى الدولية الغربية عن النظام السعودي الذي يعاني من إشكالات داخلية كبيرة على مستوى نظام الحكم والأسرة الحاكمة. في المقابل لن تسمح السعودية بوجود بديل لها في المنطقة، خصوصا قطر التي ترى السعودية أنها تمارس حجما أكبر من حجمها مما سيضطر السعودية ربما إلى اتخاذ أكثر السيناريوهات تطرفا وهو التدخل عسكريا في قطر.

إن سيناريو التدخل السعودي عسكريا في قطر على الرغم من ضعف احتماليته إلا أن إمكانيته واردة، وفي تاريخ العلاقات بين دول المجلس ما يثبت إمكانية حصول هذا الأمر؛ أقصد العدوان العراقي على الكويت. لا أستبعد أن يكون هذا السيناريو موجوداً في ذهن القيادة القطرية، والتي سارعت مبكراً لعقد تحالفات عسكرية أهمها إيجاد أكبر قاعدة أمريكية جوية في المنطقة وهي قاعدة العيديد، مما يعطيهم أفضلية عسكرية تسمى مبدأ الانتشار السريع في حال حدوث أي عدوان على قطر. وقد أكد وزير الخارجية القطري السابق حمد بن جبر هذا الأمر في أكثر من محفل عندما أشار إلى أن قطر بحاجة إلى تحصين نفسها عسكريا بهذه التحالفات. إلا أن هذه التحالفات – في تقديري – لن تمنع السعودية من ارتكاب نفس الخطأ العراقي، فصدام حسين قبل عدوانه على الكويت قام بأخذ الضوء الأخضر الضمني من أمريكا للقيام بما قام به، وهو ما يمكن أن تقوم به السعودية أيضا، حيث أنها قد تأخذ من أمريكا تعهدا – على الأقل – بعدم التدخل في شؤون دول المجلس وأي فعل عسكري قد تقوم به السعودية ضد قطر. يجب أن نتذكر الآن أن مخطط تقسيم السعودية إلى دويلات صغيرة ما زال واردا، حاله حال السيناريو العراقي الذي يبدو جليا أنه يتجه نحو التقسيم الجيوسياسي. ويجب علينا أن نتذكر أيضاً أن المنادون بالتدخل العسكري الأمريكي ضد السعودية باسم محاربة الإرهاب – وإن كان ليس من مصلحة أمريكا القيام به – موجودون في مواضع صنع القرار في أمريكا، وأن الصقور في أمريكا قد يعودون إلى سدة الحكم وبشدة في الانتخابات القادمة مثلما حصل مع عودتهم بعد ولاية كلينتون عن طريق الرئيس الأسبق جورج بوش.

إذا فالمنطقة ليس أمامها إلا التوصل إلى تهدئة بين دول مجلس التعاون، والابتعاد عن التصعيد الإعلامي بين جميع الأطراف، وهنا أجدد الدعوة لكل من عمان والكويت لتحمل مسؤوليتهم التاريخية والتدخل عاجلا في حل المسألة بين الإخوة، وإيقاف التصعيد الإعلامي على أقل تقدير إلى حين التوصل إلى حل يرضي جميع الأطراف. وإذا لم تنجح سياسة “تبويس البشوت واللحى” مثلما يصفها الكاتب زاهر المحروقي فإن حريقا كبيرا في المنطقة سوف يشتعل، وحينها لن تحتاج النار إلى من يصب الزيت عليها، لأنها ستقتات على نفسها.

السابع والأربعون سياسة

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية