أعاد ضبط عمامته الثلجية ، مسد لحيته ثم قال لحفيده الشاب :
– هيا انطلق بنا لنرتشف رحيق العبر والفوائد من السيرة الذاتية للشيخ القاضي محمد بن سيف الفارسي في كتابه ” حياتي ” .
رد الحفيد :
– نعم جدي .. توقفنا بالأمس عند فصل حكايات شتى وقصص .
سأكمل .. يقول المؤلف :
(( قيل لما أراد العلامة جميل بن خميس السعدي -رحمه الله- تأليف قاموس الشريعة قال لأهله تأتي له بغدائه في مسجده .
وكانت امرأته حاملا فوضعت ابنة ، ولا يأتي البيت إلا ليلا قدر ما يقضي حقوق الزوجية .
فمكث سنينا وهو مكب على التأليف ، وفي ذات يوم دخلت عليه في المسجد ابنته مراهقة أو بالغة الرشد فسألها ..
فقالت : أنا ابنتك فلما خرج كعادته إلى منزله ، سأل زوجته فقالت : هي ابنتك التي كنت حاملا بها لما دخلت المسجد للتأليف .
فاستدعى بأحد أقاربه وزوجه إياها ، وبقي مكبا على التأليف حتى نحلت أصابعه من قبضة القلم فألفه تسعين جزءا . ))
عند آخر كلمة علق الجد معجبا :
– أكرم بها من نفس عظيمة ، أفنى عمره وأجهد جسده خدمةً للعلم .
رفع الحفيد رأسه وراح يتأمل كلمات جده ، فقد اضطرم في رأسه أمر ما ، تحول بعد ذلك إلى كلمات احتبست في فمه .. ، حين استشعر جدار الرهبة يريد أن ينقض قال بحماس :
– جدي لست مقتنعا بهذه القصة .
رفع الجد حاجبيه مستنكرا :
– أوضح كلامك .. .
رطب الحفيد جفاف حلقه ببلع ريقه :
– تبدأ القصة بلفظة ( قيل ) وهذا يشي بأنها مجهولة المصدر لا سند لها ، ولا تخلو من الصنعة والمبالغة .
رد الجد بامتعاض :
– يا بني ليس هناك من يجرؤ على التقول والكذب في حق العلماء ، ومن فعل ذلك فقد أتى شيئا إدا .
– لا أتفق معك .. فـنبينا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم وضعت له أحاديث هو منها براء ، فكيف بمن هم دونه ، ثم إن كتب التاريخ والسير تم حشوها بقصص وروايات تاريخية لا يقبلها العقل ولا الذوق السليم ، وتخالف أبسط مبادئ العلم الحديث ، وأكثر من ذلك أنها تصطدم مع نصوص صريحة في القرآن الكريم .
تكاثفت التجاعيد على وجه الجد ..
استطرد الحفيد كلامه :
– لا يعقل أن الشيخ لا يعلم أن زوجته وضعت مولودا وهو حدث اجتماعي كبير لا بد أن يصله خبره ، فإذا قلت لي إنه ربما علم بذلك لكن انشغاله بالتأليف نهارا في المسجد أنساه ذلك ، لكن بماذا سترد على عدم معرفة شأن ابنته في تتابع مراحل عمرها من الطفولة إلى البلوغ ؟ . أقول هنا إنه ليس مقبولا أن تمر عليه أعوام وهو لا يلتقي بابنته ولا يسأل عن كسوتها و صحتها وتعليمها ، أليس هذا إجحاف في حقها بالرغم من التناقض الجلي في كونه يرتاد بيته ليلا ؟ .
قال الجد وهو يهرش رأسه :
– أنا أعتقد أن مثل هذه الحكايات عادة ما تكون قصيرة جدا وبعيدة عن التفاصيل ، إذ إن الذي يراد للقارئ هو أحداثها الرئيسة ، أما غير ذلك فليس ذا جدوى ، فالعبرة في مغزى القصة .
الحفيد :
– أنا أحاكم النص ظاهريا كما وصلنا , كذلك يبدو لي من القصة أن الشيخ لا يسعى في النهار لطلب الرزق ، وهذا يلصق به صفة التواكل التي تتنافى مع منزلته العلمية وكونه قدوة لمن حوله , فأعجب كيف يعول أهله ويمدهم بالقوت ؟ .
زفر الجد هواء الضيق :
– ما يدريك لعل من أقربائه المقربين من كفاه القيام بهذه المهمة ليتفرغ لمشروعه العظيم ؟ أو إنه كان ذا ثروة ، تأتيه الأموال رغدا متى شاء .
أطرق الحفيد قليلا ثم أكمل :
– أليس ما يدعو للغرابة أن بنت الشيخ لم تحمل الغداء لأبيها إلا حين بلغت سن الرشد ؟ ، بمعنى أنها لم تساعد أمها وهي في استطاعتها .
بدا صوت الجد أكثر حدة :
– ربما أرادت الأم سلامة ابنتها لبعد المسافة من البيت إلى المسجد أو لأسباب صحية حالت بينها وبين القيام بهذه المهمة قبل بلوغها .
أرسل الحفيد نظره في الكتاب مجددا :
– وجملة ” فاستدعى بأحد أقاربه وزوجها إياها ” توحي بأمرين ، الأول أنه يرغب في التخلص من ابنته حالا ، والثاني أن الزواج كان سريعا بحيث لم يستشرها في موافقتها لقريبه .
نفذ صبر الجد فقال مغضبا :
– حسبك هنا .. لقد أخذت تشطح في تأويلك وتشط في أفكارك ، ملقيا بالتهم جزافا على الشيخ الجليل .
الحفيد برباطة جأش :
– لست كما تظن يا جدي العزيز .. فأنا أرد هذه القصة وأدحض أحداثها ، بحجة أنها تنتقص من مكانة الشيخ وتسيء إليه . كما أنه ليس لك مصادرة فكري , فمن حقي أن أكون قارئا وناقدا ، والحوار بيننا سجال ! .