انطباعات سريعة حول ندوة تطوير العلوم الفقهية

هذا المقال كتبته العام الماضي في شهر إبريل تعليقا على ندوة تطوير العلوم الفقهية، وللأسف لم يتم نشره في جريدتين لأسباب أقل ما استطيع قوله عنها أنها “مهزلة”.

أنشر المقال هذا العام تزامنا مع الندوة المنعقدة حاليا هذا العام

حضرت خلال الأيام الماضية عددا من جلسات ندوة تطور العلوم الفقهية، والتي عقدت بفندق جراند حياة، تحت عنوان “فقه رؤية العالم والعيش فيه”. هذه الندوة التي دأبت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية على تنظيمها سنويا وتحت عناوين مختلفة. خلال تواجدي بعدد من الجلسات التي استطعت أن أقتطع من وقتي وأحضرها تشكلت لدي عدد من الملاحظات أحببت سردها هنا بعين ناقدة وقلب مخلص ينشد لهذه الندوة مزيدا من التطوير والنجاح.

وأؤكد أن عدم ذكر الإيجابيات لا يعني عدم وجودها، بالعكس ذكر الملاحظات يدل على أن غيرها كله إيجابي، وأيضا لأن حدثا بهذا الحجم تنظمه وزارة كاملة، وطوال سنوات، لا يحتاج تشجيعا، بل يحتاج رؤىً وأفكار تنقله إلى الأعلى باستمرار. عليه سأسرد ملاحظاتي في نقاط سريعة، حتى لا يمل القارئ، ولا يمل طاقم الوزارة المشرف على الندوة؛

– أولى إشكاليات ندوة هذا العام كانت في عنوانها، وتحديدا لفظة “التعايش” او “العيش” فعنوان الندوة ذكر فيه “العيش”، فيما كانت هناك عدد من الاوراق -ليس بقليل- ذكر فيها “التعايش”، وخلط المصطلحات بهذا الشكل يؤدي إلى خلط المفاهيم والمصادق. كان لا بد من توضيح المراد من العيش والتعايش، وهذا الترادف في استخدامهما بالندوة أولد إشكالية التفت لها أيضا بعض الحاضرين، وطرحها أحدهم في إحدى الجلسات.

“التعايش” لفظ يحمل في طياته نفورا بين أشخاص، وهم يبحثون عن سبيل للتعامل، فلا يجدون مفرا الا إلى “التعايش”. واللفظ إذا أريد به المجتمع الاسلامي او أبناء الوطن الواحد فإنه لا يساعد أبدا لأنه خال من كل ما يمكن أن تحويه مبادئ الأخوة من حب وتعاون وعلاقات وتواصل، فضلا عن احتوائه على ما ذكرنا من مدلولات سلبية لا تليق بمجتمعات إسلامية كل بنائها في العلاقات هو “الأخوة” و “الإنسانية” و “الرحمة” و “الحب” و “التعاون”.

ورغم يقيني أن الوزارة أرادت من مصطلح “التعايش” كل هذا، إلا أن للمصطلحات أهميتها، ولا بد أن توضع في مواقعها الصحيحة كي لا تختلط المفاهيم.

– كان من الأهمية بمكان أن يتم توزيع محاور الجلسات بطريقة أذكى مما تمت. فالندوة تحدثت عن “التعايش” بشكلها العام، فكان بعض المحاضِرين يتحدثون عن علاقة المسلم بالكافر، في حين آخرون تحدثوا عن علاقة المسلم بأهل الكتاب، وقليلون جدا من تحدثوا عن علاقة المسلم بالمسلم -وفي نظري هذا العنصر هو الأهم في واقعنا العماني والعربي- بحيث كان المستمع ضائعا في هذه الخلطة العجيبة، مما أثر كثيرا على مقدار الفائدة التي كانت تنشد من الندوة.

– في معظم الأوراق التي قدمت -الا ما ندر- لوحظ افتقاد العمق، فكانت معظم البحوث سطحية، عامة، إنشائية، لم تقدم جديدا، رغم أهمية الموضوع وحاجته الملحة في أيامنا هذه، ورغم وجود أسماء لامعة ومعروفة بين المشاركين الا انها لم تقدم شيئا، وانتهت الندوة ببحوث فيها الكثير من المحاباة والمجاملة لتراث يحتاج تنقيحا ونقدا شديدا كي نستطيع الخروج من مجاهل الطائفية والمذهبية والتي جعلنا هذا التراث نستغرق فيها، ولكي نستطيع أيضا التأصيل لفقه تقاربي وحدوي أخوي انساني جديد، يناسب واقعنا وتعقيداته، ويجعل كرامة الانسان فوق كل اعتبار.

– لوحظ أن عددا كبيرا من البحوث التي قدمت كانت تتناول فكر عدد من العلماء المتقدمين في مجال التعايش والتقارب، وقد حفلت معظم هذه البحوث بأمثلة من فتاوى أولئك العلماء حول التعامل مع أهل الكتاب، في حين غابت -في هذه البحوث- النظرة النقدية لهؤلاء العلماء في ظل فتاوى أخرى حفلت بها كتبهم وكتب غيرهم تفسق وتكفر وتبدع الآخر مسلما كان أو غيره.

ومن الملحوظ في معظم هذه البحوث التي قدمت ان الاستدلال على عدم طائفية هؤلاء كان يتم من خلال أنهم استفادوا من كتب مخالفيهم، مع ان تناول عالِم أو مفكِر لكتاب مخالِف له في العقيدة أو الفروع، أو الاستشهاد به في موقع او اثنين لا يدل حتما على فكر تقاربي تعايشي، كما أن بعض الفتاوى حول التعامل مع أهل الكتاب، او حول الأخوة الإسلامية أيضا لا تعني أن هذا العالِم او المفكِر يعيش الوحدة والتقارب في ممارساته وفتاواه تجاه الآخرين الذين يختلف معهم.

كان الحضور -بدون تعميم- يتوقع دراسات نقدية لهذا التراث المليء بالتناقضات فكرا وممارسة، وكان يتوقع نتائج واسقاطات تعينه في واقع تتطور فيه ممارسات “الإقصاء” و “الإلغاء” و “التصفية”، وتنخر فيه مفاهيم “امتلاك الحق المقدس” و “الفرقة الناجية” و “التكفير”، وتتحكم فيه مشاعر “الطائفية” و “الكراهية” و “التعصب”.

الغزل مع التراث لن يجدي، ولا بد من محاكمة عادلة منصفة له تستند إلى القرآن والسنة الشريفة، بعيدا عن الأهواء والعواطف.

– وما يصدق على هذا التراث يصدق أيضا على عدد من المشاركين ممن يمارسون الطائفية والمذهبية البغيضة، ويوظفون فكرهم توظيفا سياسيا، في حين كانت أوراقهم بالندوة تنضح حبا وخوفا على أمة، وأوطان هم يساعدون في نحرها من اوردتها.

– آن أوان أن تخرج هذه الندوات من كونها ندوات توصيفيه إلى ندوات نقدية، ندوات تخرج بمشاريع عملية، مشاريع تنفذ إلى واقع الأمة وكيانها، لا أن تتمحور في استهلاك إعلامي، وتنتهي بمجرد أن يغادر الزوار فندق ضيافتهم، او بمجرد أن تنتهي طباعة الكتاب الذي يحوي بحوث الندوة.

كان كثيرون يتوقعون خلال سنوات الندوة أن يتمخض من الندوة مركز دراسات وبحوث، يضم كافة المذاهب، وربما الأديان، هدفه ترسيخ وتأصيل وتطوير بحوث ودراسات تنهض بالأمة وبواقعها. ولا زالت الفرصة سانحة لم يفت أوانها وان أتت متأخرة.

– على اللجنة المنظمة ان تدعو علماء ومفكرين من مختلف المذاهب بحجم حضورهم ووجودهم في البلدان الإسلامية، حتى تتلاقح الأفكار، وتتنوع الرؤى، ويحقق التلاقي أهدافه. لا أن يُكتفى بدعوة ممثلين رسميين للمذاهب أو البلدان، بل هناك علماء ومفكرون مستقلون وأهليون من مؤسسات أكاديمية وحوزوية لهم باع وصيت حسن، كما لا بد لهذا التمثيل أن يكون وازنا متوازنا، وليس مقتصرا على شخص أو اثنين.

– لوحظ خلال جلسات الندوة الحضور المكثف لموظفي وزارة الأوقاف، والمعاهد الشرعية والذين ملأوا القاعة، وهذه بحد ذاتها حسنة تحسب لهم، ولكن كان الطموح في مشاركة أوسع ومن مختلف شرائح المجتمع ومناطقه، وعلى الوزارة أن تدرس بجدية تامة في عوامل الخلل لاختفاء الحضور، بل ووضع خطط لجذبه.

المؤسف كان أيضا في غياب الصحافة، وإذا حضر صحفي فإنه يأتي لأخذ الخبر الجاهز، وأخذ أوراق العمل، ثم التغزل بالبوفيه، والخروج، لتأتي الأخبار كلها بالصحافة متشابهة إلا في عناوينها، لا رؤية ولا رأي للصحفي فيها.

 

الثامن والأربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

مصطفى محسن اللواتي