البنت والعريس

كتب بواسطة هدى حمد

حضرت البنتُ المدرسة بالزي الرياضي بدلا من زي الابتدائية الأصفر المعتاد بالياقة البنية.وبختها المديرة ثم أوقفتها في فناءالمدرسة. كررت ذلك عدّة أيام. المعلمات شعرن بالغضب فلم تفتح البنت فمها بكلمة. بكت ولم تُخبرنا سرّ غياب زيها المدرسي.

أرفقت الاخصائية الاجتماعية رسالةلول يأمرها، فاصفر وجهها. شعرتُ أنها ستسقط من طولها، لكنها لم تسقط ولم تتكلم. لم تأكل في الفسحة ولم تجب على أسئلة مادة الرياضيات التي تُحب. في الأسبوع التالي صارت تأتي بدون حقيبة وبدون روحها المرحة.

أوشك قلبها على أن يخرج من صدرها عندماعلمت بحضور والدها إلى الأخصائية. شعرتُ بذلك وأنا أجلس بمحاذاتها وأشاطرها ساندويشات الفسحة واللعب. دخل والدها علينا الصف. كان كبيرا في السن. عابس الوجه. جرّها من أمامي، فكان آخر ما رأيته منها دمعها الغامض. ركضتُ خلفها فابتلعتها الطرقات. دخلتُ إلى غرفة الأخصائية الاجتماعية وبكل فضولي قذفتُ اسئلتي ورعبي، فكان أن قالت: “صاحبتك بتتزوج”.

لذلك كان والدها يُخفي ملابسها. يخفي حقيبتها ويمنع مصروفها اليومي. دارت بي الدنيا. كنا وقتها في الصف الخامس الابتدائي. لانعرف سوى اللعب ومسلسلات الكرتون. كلمة “ستتزوج” كانت أكبر منا ومن خيالنا آنذاك.

التقيتُ بهذه الصديقة مرة واحدة فقط، عندما عدتُ بشهادتي وبدأتُ البحث عن وظيفة. كانت وقتها تمسكُ بيد طفلها الخامس وكرشها تتكور أمامها. عرفتني ولم أعرفها. تغير وجهها وابتسامتها ولم يعد ثمة ما يُشبهها .

ظلت قصة “البنت والعريس” تُزاحم سعادتي لسنوات لاحقة. وقد استعدتُها مؤخرا في الوقت الذي أخبرتني صديقتي الممرضة عن إحدى مريضاتها، فقد أخرجت بناتها من المدرسة. فكلما تصل الواحدة منهن للصف الخامس الابتدائي تُخرجها، لأنها تؤمن بأن العلم هو:”معرفة القراءة والكتابة حسب، وليس للفتاة إلا الزوج الذي يصونها”.

هذه هي الأفكار المُعلبة التي تزج المرأة إلى أقفاص من حديد. فتقل حيلتها عندما يغيب وعيها، وعندما يضيع حقها في الاستقلالية المادية بالحصول على وظيفة، فكم من النساء تورطن بأزواج سيئين فاحتملن لا لأنهن يقدسن الحياة الزوجية، ولكن لأنهن بلا شهادة ولا وظيفة. فالزوج كالبطيخة إما حمراء أو بيضاء ليس مضمونا دائما، كما قد تتنصل أسرة الفتاة منها عندما يكثر أولادها ومسؤولياتهم، ويبدأ اللهاث وراء سيناريو النفقة الذي لا ينتهي في المحاكم.

المشكلة لاتقف عند الفتاة، فقد لاحظنا عددا من الشباب الصغار تركوا مقاعد الدراسة ليلتحقوا بالوظائف البسيطة، وبعضهم سرعان ما تذمر من ضعف الرواتب. فالأبقى للرجل والمرأة  معا هو الشهادة التعليمية التي تنجيهما من أي ظرف معيشي صعب.

تساءلتُ حول القوانين التي يمكن أن تنصف الأبناء من شر جهل بعض الآباء. فعرفتُ أنه لا يوجد قانون حازم في ذلك. كما أنّ سلطة المدارس تقتصر على زيارة هذه العائلات وتقديم النصح لها. لذا ينبغي أن تكون هنالك سلطة أعلى تستمد شرعيتها من روح القانون. ونأمل أن يكون قانون التعليم مشتملا على هذه القضية الحساسة. فالسماح للأبناء بترك المدارس جريمة في حد ذاتها وينبغي أن يُعاقب المسؤول عن إحداثها. أما مبررات ضعف التحصيل الدراسي للطالب، أو حاجة الأب والأم للمساعدة في البيت أو لأن عريسا جاء يطرق الأبواب.. فهي مبررات ينبغي أن تُحل لكن ليس عبر خلق مشكلة أدهي وأمر.  وكما يبدو تتضح هذه المشكلة في الأسر المفككة، أو عندما يكون المستوى التعليمي والاجتماعي للعائلة متدنٍ. وهذا من شأنه أن يخلق طبقية في المجتمع نحن في غنى عنها. فتدني المستوى التعليمي يعني عادة تدني مستوى الحياة المعيشي للعائلة.

لن نكون صادقين إذا قلنا أننا لا نريد وظيفة بعد أن ننهي التعليم. ولكن انتفاء توفر الوظيفة لا ينبغي بأي حال من الأحوال أن يعني انتفاء رغبتنا بتعليم الأبناء وخصوصا مع توفرالتعليم المجاني في جميع مناطق السلطنة.

ليس لديّ أرقام ولا احصائيات ولا أريد أن أضخم الموضوع وأن أعطيه أكثر من حجمه الطبيعي، ولكن أرغب أن ألفت الانتباه إليه وإلى دراسته للحصول على أرقام دقيقة حول نسب العزوف عن الدراسة وهجرها ومسبباتها في زمن يُواجه فيه من يحملون الشهادات زمنا غامضا فما بالك بمن هم بدونها!

الثامن والأربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

هدى حمد

كاتبة عمانية