“مفكرون” يحترقون..لماذا؟

لقد تفاعل الكثيرون مع مقال الدكتور أحمد المعيني. وهذا التفاعل مع المقال يقودنا إلى عدد من الاستنتاجات أهمها: 1) إحساس المواطن بأن هناك خللا ما لابد من معالجته من أجل الحفاظ على الثروة البشرية العمانية، 2) تطلع المواطن ورغبته في إحداث تغيير يوازي المستجدات العصرية إلى جانب عدم قدرته على تحمل الجمود والوعود الباهتة، 3) و أخيرا، قوة ومنطقية المقال وجمالية الطرح بأمثلته الحية الثلاثة الذين يعرفهم ويحترمهم الجميع. غير أنني لا أتفق مع الدكتور أحمد في وضع سماحة مفتي السلطنة في نفس المستوى الذي وضع فيه الشخصيتين الأخريتين. ولمحاولة الإضافة على ما طرحه الدكتور من أفكار من جانب، والإضاءة على الجزيئية المتعلقة بـ”المفكر” التي طرحها في مقاله من جانب آخر، انبثقت فكرة هذا المقال!

من الملاحظ “أن عمان لا تقدر كفاءاتها”. فالكفاءة في السلطنة ليس لها محل من الإعراب إذا لم تكن موصولة أو معطوفة أو مضمومة إلى جهة ما أو إلى شخصية نافذة أو قاعدة معينة. كما أنها لا يمكنها أن تحقق ذاتها أو وجودها إذا كانت تعيش الاستقلالية، وهذه الحالة من تحقيق الاستقلالية الذاتية تتخذ لها أحد الشكلين. الشكل الأول يتمثل في الاستقلالية الفعلية كما يتم تسميته في علم المنطق.  فتحقيق الذات المستقلة هنا يأتي بسبب أن هذه الشخصية غير معطوفة أو مضمومة أو موصولة لأحد وبهذا فهي شخصية مستقلة، وبسبب هذه الوضعية من الاستقلال الفكري والعملي يتم وضعها تحت الظل أو ما يسمى بـ “التجميد أو التهميش” بغض النظر عن الكفاءة والامكانات الفعلية التي تتمتع بها. الشكل الثاني يتمثل في الشخصيات الكفوءة المستقلة، ولكن استقلاليتها من النوع الآخر حسبما يشار إليها في علم المنطق “بالقوة” أي شخصية مستقلة بالقوة. فقدرة مثل هذه الشخصية على الاستقلال ليست قدرة فعلية لارتباطها بحروف جر واستنادها على أعمدة مختلفة، وهي بهذا النوع من الاستقلال تحظى بكثير من الأدوار في الواقع المؤسساتي العماني وبالتالي يعجزها عن قول “نعم” أو “لا” وفق إرادتها. وتظل هناك صور مختلفة لاستقلالية هذه الكفاءات. لكن.. ما يميز عمان رغم “الحكومة المترهلة” هو أن للفرد قرارا في تقبل المنصب أو رفضه!

يقول الدكتور أحمد: “عمان تحرق مفكريها”.. أو “مشروع مفكر”!  فما هو تعريف كلمة أو مصطلح المفكر؟

كلمة “المفكر” في اللغة تعني “رَجُلُ فِكْرٍ وعِلْمٍ يُعْمِلُ عَقْلَهُ لِيَصِلَ إِلَى حَقَائِقِ الأُمُور.. مُفَكِّرٌ فِي شُؤُونِهِ: أَيْ يُعْمِلُ فِيهَا فِكْرَهُ وعَقْلَهُ لِيَصِلَ إِلَى حَلِّهَا” “فكَّرَ/ فكَّرَ في يفكِّر ، تفكيرًا ، فهو مُفكِّر ، والمفعول مفكَّر فيه،  فكَّر الشخصُ: مارس نشاطه الذِّهنيّ” “فكّر في الأمر : تفكَّر فيه ، تأمّله ، أعمل العقل فيه ليصل إلى نتيجة أو حلّ أو قرار” كما ورد في سورة المدثر { إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ }. فالمفكر هو من يقوم بإعمال العقل في عملية رفض أو اقرار الأمور.

يا ترى لماذا قبل كلا الدكتورين المنصب الذي عرض عليهما؟

إن عملية تقدير الوضع والتفكر فيه هي من سمات الإنسان المفكر الذي يرى ويقيم مختلف العروض التي تطرح أمامه. و للإنسان في هذه الحياة أولويات وخطط يسير عليها وفق نهج معين خصوصا من وصل إلى تلك الدرجة العلمية التي صنفهما ضمن “مشاريع مفكرين عمانيين”. لكن.. حينما يتنازل المفكر عن وضعه العلمي والبحثي من أجل منصب في مؤسسة ما وهو على علم ودراية بالنظام الإداري السائد فيها فإن اللوم يقع عليه  ولا يقع على عمان. من ناحية أخرى، هل يمكن اعتبار مثل هؤلاء الأفراد مفكرين أو مشاريع مفكرين وفق المعنى اللغوي أو الاصطلاحي؟ فالعالم  أو المفكر الحقيقي أو ما يطلق عليه في الغرب “scholar” لا يمكن أن يتنازل عن بحوثاته العلمية من أجل منصب زائل يمكن أن يتقلده أشخاص من غير مؤهلات عليا.

عمان كحكومة لا يعنيها الكثير في الإنسان العماني بالقدر الذي يعنيها تلميع صورتها الخارجية أو تحقيق توازنات داخلية، فبالتالي فلا لوم عليها لكن اللوم يقع على أولئك الأشخاص الذين جذبتهم المناصب. ووضع الباحثين والأكاديميين الذين يتسمرون أمام شاشات التلفاز يكشف بأن منهجنا التعليمي وثقافتنا الاجتماعية والعامة فشلت في جعل العلم والبحث العلمي في سلم الأولويات عند الأكاديمي أو الباحث حتى يتمكن بذلك من الصمود أمام مغريات المنصب. ولهذا يسهل على هؤلاء الأكاديمين ترك مواقعهم أو تجاهل فرصهم العلمية ليقبلوا بالتالي مناصب يمكن أن تتقلدها كفاءات من مستويات مختلفة. لقد أعتدنا إلقاء اللوم على الحكومة، فإننا بذلك نسهل على الأكاديمين ” أو مشاريع مفكرين” تبرير ضياع الفرص البحثية والعلمية المتاحة لهم والتي كانت ستعود بالخير العميم على الوطن من موقعهم الأكاديمي و العلمي.

 

لقد تطرق مقال الدكتور أحمد المعيني أيضا الى نقطة في غاية الأهمية و هي “حرمان الطلاب الجامعيين من الاحتكاك بهؤلاء الباحثين و المفكرين..”. وأمام هذا الوضع يشعر المرء بأسى حقيقي لأن وجود أكاديميين أكفاء داخل أروقة الجامعة هو شحذ لهمم الشباب الطامح. البروفيسوران: روبرت كارل و ريجورد سملي الحاصلان على جائزة نوبل في الكيمياء أحدهما مازال يدرس طلبة جامعة رايس في تكساس و الآخر توفي قبل عامين بعد أن بقي في موقعه في تدريس طلبة الجامعة. إن استيراتيجية جامعة رايس هو التركيز على طلبة البكلوريوس بشكل كبير ولهذا فإن الطلبة الذين تعامل معهم هذان البروفسوران هما من طلبة مرحلة البكالوريوس. لقد استوقفتني مقولة المرشدة التي كانت تقدم عرضا عن هذه الجامعة حينما قالت: “إن أبناءكم في سنواتهم الأولى سوف يحتكون مع البروفيسور الحائز على جائزة نوبل”.  فما أعظمها من رسالة تلك التي توجهها هذه الجامعة لطلبتها، إنها صورة مبهجة وهي نتاج ثقافة تقدر العلم والبحث والفكر وبالتالي تقدمها وتفضلها على المناصب والمسيمات. إنه نتاج ثقافة عامة وشاملة مترسخة تكاتفت العديد من الجهات في تجذيرها في الأذهان بحيث أن الكثيرين من هؤلاء المفكرين يرفضون أية مناصب تعرض عليهم من أجل أن يبقوا بين أروقة جامعاتهم وأدوات مختبراتهم أو منشغلين في تحليل الأرقام الإحصائية لأبحاثهم. إنها الثقافة العليا التي نبحث عنها بعيدا عن العقلية العربية التي ترى في شيخ القبيلة الزعيم الذي لا يُبارَز وفي العالِم والمتعلم المتشرد الذي لايُقارَب.. أليس هذا الحال المزري يحتم علينا.. إعادة النظر!

التاسع والأربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

د. فاطمة أنور اللواتية