أنا المثقف الأعلى

محاولة اجتراح تعريف تشبه الوقوف داخل غرفة لا نهائية الأبواب ، ذلك أن التعريف – أي تعريف – غرضي في الأساس ، إننا نختار الوجه الذي نحتاج إليه من أجل خدمة التحليل ، أو ربما وفي أحيان كثيرة من أجل خدمة توجهاتنا الأيديولوجية ، إننا ننطلق من قاراتنا المعرفية ؛ خبراتنا وانتماءاتنا واهتماماتنا المعرفية ، في بناء وتشكيل التصور ، وبالرغم من ذلك ومهما اتسمنا بموضوعية خارقة ، وتجردنا من كل تأثير خيّر أو شرير فإن التعريف يظل محتفظا بطبيعته الموجهة ، التي تحدد وتقصي .

أحاول هنا تعريف المثقف من خلال لغة فرويدية ، لكن في سياق يمتد باتساع ، ما يحدث بالتحديد هو عملية ربط بين تصور خاص للظاهرة وفهم معين للتحليل النفسي الفرويدي ، وكنتيجة لذلك فإن التعريف يستبعد بعضا ويضيف بعضا آخر ، وهو بذلك يعلن عمليات إقصاء وتلك هي – كما قلت – طبيعة كل تعريف ، إنها تقصي بقدر ما تحدد .

بالطبع فإن شقي العملية التي أقوم بها هنا التصور الخاص والتفسير الفرويدي يأتيان عبر طرق لا بأس من ذكر إشكالاتها هنا للأمانة ، ذلك أن التصور الخاص للمثقف يأتي من قراءات معاصرة وتاريخية ومشاهدات في المجتمع المحلي وتجارب ذاتية لا من جداول إحصائية صارمة ، أما فرويد فيأتي من ترجماته العربية وبعض المصادر الإنجليزية الالكترونية ما يعني فقدان الاتصال بالأصل ، كما أنه لا يلقي بالا للتعديلات اللاحقة التي وضعت على أيدي مفكرين لاحقين.

لقد واجه فرويد ما يمكن تسميته بـ”النظام المعتم” (الإنسان) ، حيث تبدو الظاهرة خفية مغطاة لا تمكن مراقبة آلية عمل أجزاءها الداخلية ، لكن يمكن تحديد المدخلات (الخبرات) والمخرجات (السلوك) ، في هذه الحالة يلجأ المنظّر إلى بناء نموذج ، النموذج عبارة عن جهاز مفهومي يستهلك وينتج نفس القيم إلى حد تقريبي لكنه لا يشبه بالضرورة التركيبة الداخلية الحقيقية للظاهرة ، وتعتمد بنيته على الخبرات السابقة للمنظّر ، بالنسبة لفرويد يبدو أن علوم الفيزياء والديناميكا الحرارية ومفاهيم التطور تشارك بحصص أساسية في بناء هذا النموذج ، حيث تظهر أمامنا ثلاثة أنظمة تتبادل الطاقة ومبادئها وتتشكل بها وتنتج السلوك البشري من خلال تفاعلاتها.

أنظمة متداخلة

يخرج الطفل إلى العالم – حسب فرويد – بنظام نفسي وحيد يسمى “الهذا” أو “الهو” ، يقوم باستقبال

حاجات الجسد البيولوجية فتسبب له حالة من تزايد الطاقة ، وتنتقل به من مستوى طاقة أقل إلى وضع استثارة وهو وضع غير مستقر ، مما يدفعه إلى محاولة العودة وفق مبدأ يدعى مبدأ اللذة ؛ إن نظام الهو لا يدرك سوى عالمه الداخلي ، سوى الألم المتحقق بسبب تزايد الطاقة ، سوى اللذة المتحققة جرّاء عودته للوضع المستقر ، هو كينونة لامنطقية ولاأخلاقية بل أنه لا معنى لهذه المفردات في عالمه.

في فترة لاحقة يبدأ نظام آخر بالتوالد والتمايز عن الهو ؛ نظام “الأنا” ، ويبدو أن هذا النظام ينشأ من التفاعل مع الواقع الخارجي ، إنه بصورة ما ابن هذا الواقع يعمل حسب مبادئه ، وهو وسيلة التواصل بين الهو والعالم الخارجي ، ففي اللحظة التي تكون فيها غريزة الجوع هي التمثيل السيكولوجي داخل الهو لنقص الطاقة البيلوجي في أنسجة الجسم يصبح البحث عن الغذاء مهمة الأنا ، يقوم الأنا بالتفكير في الطرق الواقعية التي توصله إلى الطعام عبر وضع خطة مثل الصعود إلى أعلى شجرة مثمرة أو الذهاب إلى المطبخ أو المطعم أو ربما سلب أحد المارة إذا ضمن السلامة بعد القيام بالفعل ، يستخدم فرويد مثال الفارس لتوضيح العلاقة بين الأنا والهو ، فالفارس (الأنا) يحاول توجيه القوة الهائلة التي يمتلكها الفرس (الهو) ، لكن ذلك لا يعني أن الفارس في مأمن من لحظة هيجان يفقد فيه السيطرة على الفرس ، في النموذج يتوجب على الأنا أن يتحرك ضمن ثلاثة اعتبارات ؛ الاحتياجات الإلتذاذية للهو من جهة والمتطلبات اللامنطقية للأنا الأعلى وإكراهات الواقع .

في الطفولة المبكرة جدا يشرع الأنا في تحقيق رغبات الهو دون وعي “أخلاقي” ، في حين يمارس الأبوان (المجتمع) نظاما من الثواب والعقاب على السلوكات (المسالك)الحسنة والسيئة ، وذلك يؤدي إلى تكوين الأنا الأعلى والذي يكون عبارة عن نظامين جزئيين ؛ الوعي (الضمير) والذي ينتج عن عمليات العقاب ، والأنا المثالي الناتج عن عمليات الثواب ، يستدمج الأنا الأعلى هذه الممارسات ليصبح بعد ذلك هو الممثل القيمي لأخلاق المجتمع ومثالياته كما يطرحها المحيط المباشر، الأنا الأعلى هو النظام الثالث في النموذج الفرويدي ، إنه بصورة ما جهاز الرقابة الذي يحصي أنفاس الأنا ويدفعه إلى ممارسة كبت على رغبات الهو الأبيقورية من خلال إرسال دفعات الإحساس بالذنب أو النقص في اللحظة التي يفكر فيها الأنا بالقيام بسلوك يتعارض مع العالم المثالي للأنا الأعلى .

إن الأنا الأعلى كينونة لامنطقية وغير معنية بالواقع ، وما يهمه هو مثالياته التي يحاول فرضها على حساب الأنا والهو ، وهو بذلك يتشابه مع الهو في اللاواقعية ومع الأنا في محاولة فرض السيطرة على السلوك ، إن هذه الطبيعة القامعة للأنا الأعلى ضرورية لحفظ المجتمع والإبقاء على بنيته متماسكة ، إنه الجزء الجماعي في الفرد ، وهو الذي يبقي الصلة متوهجة على نحو سلمي بين الأفراد، حيث توفر تواطئا قبليا على ما هو مقبول وما هو مرفوض ، وفي اللحظة التي يقمع الأنا الأعلى فيها غرائز الهو يفتح أفقا للتواصل المشترك مع الآخرين من نفس المجتمع .

ذلك هو الكائن حسب فرويد وحسب هذا العرض المبتسر الذي أسوقه للنظرية والتي حاولت تبسيطها إلى الحد الممكن ، إن العالم النفسي للإنسان يقوم على ثلاثة أنظمة هي : الممثل الغريزي (الهو)، والممثل القيمي (الأنا الأعلى)، وجهاز الإدارة الواقعي (الأنا).

الشديد الوضوح هو أننا أمام صراعات مستمرة بين هذه الأنظمة ، قد تكتب الغلبة فيها لأحد هذه الأنظمة فيسم الكائن بسماته التي تظهر في السلوك ، الإنسان الطبيعي – العادي أو الغالبية الكبرى – هو من يمتلك أناه القوة بحيث ترضي الهو دون أن تزعج الأنا الأعلى ، بصياغة أخرى ؛ لو مثّلنا هذه الأنظمة بيانيا بثلاث دوائر متداخلة لبدت دائرة الأنا أكبر من لِدَّاتها ، بلغة أكثر تبسيطا – على حساب المعنى – من يستطيع التوفيق بين مبدأ اللذة والمبدأ الأخلاقي.

ملاحظة قصيرة ومهمة على ما سبق هي أن هذه الأنظمة ليست متمايزة بالدرجة التي تظهر في هذا العرض ، إنها متداخلة أكثر مما قد نتصور!ملاحظة أطول على ما قد يلحق هي أنني لن أمارس دورا من أدوار التحليل على كائن محدد ماثل أمامي بل كائن افتراضي ، أعرض سيرة مفترضة وإن لم أنجح في ذلك فيكفي أن تتخذ النظرية وسطا تعبيريا شارحا (اللغة الوسيط) ، بالطريقة ذاتها التي نستعير فيها مصطلحا من حقل معرفي معين للتعبير عن ظاهرة لكن ما أستعيره هنا هو نظرية (عدة مصطلحات).

مسار تطوري

يوظف الأنا جزء من طاقة الهو في تطوير وتقوية العمليات المنطقية الواقعية ، في مجتمع يقيم شبكة الحقيقة الخاصة به على مفاهيم غير مادية ، امتدادات غيبية من نوع ما ، فيما تُسْتدمج هذه الأخيرة في بنية الأنا الواعية على أنها جزء من الواقع ، ويظهر ذلك في ممارسات خارجية مثل – والأمثلة كثيرة وإن اخترنا على حذر – الاستشفاء بالطلاسم السحرية وما شابه مما يستتبع المنظومة المفهومية الغيبية للمجتمع ، في حين يُنمّى الأنا الأعلى على هيئة مدعومة من قبل هذه الشبكة المفهومية وإن بانفصال في الصورة والآلية ، حيث يستدمج الأنا “الواقعيَ” في حين يستدمج الأنا الأعلى الأفعالَ القامعة (العقاب) والمثالية (الثواب).

ما يحدث هنا هو تطابق بين الواقعي والأخلاقي .. إن الأنا يحفظ الكائن بعيد عن حتفه ، وبالتالي فما يشكل خطر واقعيا مثل شفرة سكين أو أفعى أو شرطة مكافحة الجرائم يدفع الأنا للانحياز بالكائن عن التهديد ، وبالمثل في الواقعي الغيبي مثل ساحر أو رماد أو جني أو العذاب أو.. أو ..الخ ، كل ذلك يوجب على الأنا حفظ الكائن من الخطر المحتمل .

وفي حين يجد الأنا مبررات وجهته الأخلاقية (الاحترازية) من خلال قانون تجنب الألم “الواقعي” ، فإن الأنا الأعلى – الذي لا يدرك فنون الجدل ولا المنطق – والذي يطور ويستدمج تحريمات ومثاليات المجتمع يتوقف عن التطور بسبب اختفاء السلوك اللاأخلاقي ، السلوك المقموع سلفا من قبل “واقع” الأنا الغيبي ، وينصرف المجتمع عن ممارساته المربية بسبب حصوله على احتياجاته من الأنا ، نستطيع القول أن الأنا الأعلى موجود ضعيف قوي بغيره .

في ظل هذا القمع المشترك من قبل الأنا والأنا الأعلى يكبت “الهو” بشدة ، مما يسمح للأنا بتطوير أكبر لعملياته المنطقية من خلال الانغماس في معارف ذهنية “واقعية” ، وسيبدو الكائن متمثلا أكثر لمثاليات المجتمع ومنغمسا أكثر في تفاصيلها ، وقد يلمح بعض التناقضات في الواقع الغيبي لكن دفعات الأنا الأعلى ما تزال قادرة على رده إلى الطريق القويم.

صدمة اكتشاف

في المجتمع الذي نتحدث عنه يبدو فيه الواقعي المادي مختلطا بالغيبي ، وهو ليس مجتمعا بسيطا البتة ، بل متطور إلى حدود هائلة فيما يخص بناه المختلفة ، وعندما يكون هذا المجتمع متسع جغرافيا ومتصل إعلاميا ، يكتسب مثقفنا – موضوع الحديث – وعيا مبنيا على المقارنة ، حيث تتداخل ثقافات عدة تتقاطع مع تصوراته في المستوى ذاته ، إن هذا الوضع الذي نتحدث عنه يحدث الآن بصورة مذهلة كما كان يحدث في أوج الحضارة العباسية ، إنها فقط مسألة أدوات سريعة وبطيئة ، إن وعي المقارنة بين المجتمعات معرفيا يظهر عند مفكرين عدة بصورة واضحة كما في كتابات المعري مثلا .

شبكة المفاهيم المكتملة عند مثقفنا تواجه إعادة تقييم على ضوء معارف منتجه من قبل مفكرين ينتمون لمجتمع آخر ، إنه نمط من النقد الذاتي الذي يتوسع فيه المثقف رأسيا وأفقيا في الواقع الذهني ، إنه توسيع للرؤية تماما كما يحدث للكائن الذي يدخل مجتمعا مختلفا فيشهد بأم عينيه أن محرماته الاجتماعية مثاليات هذا المجتمع وذلك يجعله في وضع رفض أو تبني أو قرف أو حيرة أو تفوق أو ضعف .

ما يحدث للكائن الذي نفترضه الآن هو إعادة فلترة لشبكة الحقيقة الخاصة به ، رفض جانب من الحقائق التي لم تعد واقعية وسينتهي به الأمر إلى اكتشاف أن المشترك بين المجتمعات المعرفية المختلفة هو ذلك البعد المادي الصِرف ، وسنفترض أن ذلك سيؤدي إلى تعميق رؤية مادية وسينتج من ذلك إعادة بناء لجهازه المنطقي ولمنظومة إنتاج الحقائق .

حرب الأنظمة الداخلية والتعزيزات الخارجية

ما من شك أن انهيار شبكة المفاهيم الذهنية التي تمثل الحقيقة كما أملاها المجتمع لن تمر بسهولة هكذا ، حيث أن هناك مستفيدين هما النظام الاجتماعي المحلي وحليفه الداخلي الأنا الأعلى ، وبما أن الأنا الأعلى لا علاقة له بالوعي المنطقي ولا صراع المفاهيم وإنما بالمحرمات والمثاليات ، وفي حالة وجود أنا أعلى ضخم فإن تغيرات الأنا على مستوى الممكنات والمُهلكات لن يؤثر في السلوك الخارج حيث يظل الأنا الأعلى محافظا على إرسال دفعاته القامعة وسيدرك الكائن بالطبع أنه متناقض في العمق ، يتبنى فكرة على المستوى الذهني يعجز عن تنفيذها على مستوى السلوك ، وتلك حالة مشهورة في أفراد المجتمعات المعاصرة المواجهة بمد حضاري خارجي ضخم ، وفي حالات معينة سيظهر الصراع على السطح على هيئة سلوكات عنادية تستهدف قيم المجتمع فيما هي في الأصل تحاول مواجهة القلق المثار والمشاغب من قبل الأنا الأعلى كما أن المجتمع وبسبب اللحمة الرابطة بينه وبين الأنا الأعلى سيمارس دورا قامعا هو الآخر ضمن آليات الإقصاء الضرورية من أجل إبقاء المجتمع متجانسا فيما لا يبصر الكائن حجم الخطر القادم من الخارج بسبب الحجم الأضخم للخطر القادم من الداخل وهذا يدفع الأنا إلى إعادة التواصل مع الهو المكبوتة سابقا وسيبدو هذا الكائن عنصرا قلقا ومثيرا للمتاعب على الدوام ، إنها حالة ثقافية أكثر منها زخما سالبا وهي ضرورية من أجل التغيرات المستقبلية الدائمة للمجتمع .

سيظهر هذا السلوك الظاهري على حالة المثقف الذي نتحدث عنه في البداية على الأقل ، وكما أسلفنا فإن أناه الأعلى ضامرة ، خصوصا فيما يتعلق بنظام الوعي الناشيء عن آليات العقاب المجتمعية في حين يبدو نظام الأنا المثالي أكثر ضخامة وهو ما سيمارس دورا قامعا أكثر من خلال دفعات الشعور بالنقص عن ملاقاة ما هو مثالي على مستوى السلوك ، سيقوم الأنا بالاستعانة بالهو من أجل تدبيج دعامات صادة لدفعات الأنا الأعلى وبتطوير آليات تلقي احتوائية ، لا من خلال الشبكة المفهومية المنهارة بل من خلال النظام الجديد ، وهو ما يستدعي بناء أنا أعلى جديد على الأقل عبر الانغماس في الإنتاج المعرفي والتنظيري الذي أفترض في الأساس أنه عمل المثقف .

بالطبع فإن الطابع النكد والمشاكس الذي سيسم سلوكه ، سيتم تطويره من خلال تجارب المواجهة وهو مفتوح على عدة احتمالات ؛ نفيا دائما أو عملية مصالحة مبنية على مقايسات خاصة أو ربما رؤية عدمية أو برجماتية من نوع ما .

أرشيف مقالات الكتاب

عن الكاتب

عبدالله المعمري

عبدالله حمد سعيد المعمري

شاعر وكاتب

بكالوريوس هندسة ميكانيكية

الكتب :

صهيل فرس حروري، مجموعة شعرية، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2005 -

سفر المنظومات، دراسة، مؤسسة الانتشار العربي، بيروت، 2009