ناقصة عقل ونبي

كتب بواسطة اسماعيل المقبالي

عند هذه النقطة رأيت انني احتاج ان اعيد قراءة القصة القرآنية الواردة في سورة النمل بعقلية أكثر انفتاحا تتجاوز سلطة الموروث الديني والثقافي, فتبينت لي بعض الدقائق التي لا أجزم بأنها حقائق وانما نقاط تستحق ان نبذل من اجلها مزيد من البحث والتمحيص.

في ضوء التطور الهائل للعلوم الانسانية أصبحت دراسة الحالة الدينية ونصوصها مجال خصب للدراسات المقارنة بين العقائد والايمانيات السائدة في عالمنا, فعلى الرغم من الهالة القدسية التي يحاول رجال الدين اضفائها على الحالة الدينية ومرجعياتها المتجاوزة لكن الدراسات الاجتماعية أوضحت أن الظاهرة الدينية ما هي الا افراز لاحتكاك العقل الانساني بالموجودات الكونية ويمكن اخضاعها لمشرط البحث العلمي. فقديما كانت كل ديانة تبني معتقداتها وتراثها ضمن اطار تجربة تاريخيه وثقافيه منعزلة او قليله التواصل مع الافكار والمعتقدات السائدة في تلك العصور, وكان كلما يحدث صدام او تداخل بين معتقدين نتيجة التواصل التجاري او من خلال الحروب  تنتج حالة وسطى من الافكار التي سرعان ما تدخل تعديلات على المعتقدات القائمة او تنشأ معتقدات جديدة , فعلى سبيل المثال الحالة الدينية والثقافية ما قبل فتوحات الاسكندر الأكبر كانت إقليمية ومنعزلة نتيجة لانحسارها  في مساحات جغرافية محدودة او ضمن جماعة اثنية معينة, وانعكس ذلك على الالهة المعبودة والمقدسات نفسها حيث نرى ارتباطها في اغلب الاديان بأشكال اجتماعية وحدود جغرافية خاصة -الهندوسية, الزرادشتية ,اليهودية , الفرعونية-. ويمكن ملاحظة هذه الظاهرة بشكل واضح في الثقافة التوراتية من تصنيفها للبشر الى شعب الله المختار وهم بنو إسرائيل وشعب الأغيار او الأمميين الذي يطلق على غير اليهودي. لكن في عهد فتوحات الاسكندر الاكبر وبالتحديد بعد معركة اسوس 333 ق.م , استطاع الاسكندر بجيشة الفتي ان يهزم جحافل جيوش الفرس بقيادة الملك الاخميني داريوس او داريوش, فهذه المعركة شبيهة بسقوط جدار برلين حيث شكلت نقطة فارقة من تداخل الديانات والثقافات اختلفت عن المرحلة التي سبقتها خصوصا في ظل نوع من التسامح واحترام ثقافات وديانات الشعوب المفتوحة الذي ميزت تلك الفتوحات , حيث توفر مناخ جديد امتزجت فيه اليونانية والفارسية والفرعونية والهندية وحضارات بلاد ما بين النهرين والشام, وهذا ما ميز الثقافة الهلينستية التي هي نتاج تلاقح الثقافة الغربية الهيلينية بمدارسها الفلسفية المتعددة والثقافة الروحانية للشرق بعاداته وعلومه. ولم يكتب لهذا المشروع الازدهار فسرعان ما تفتت بعد وفاة او اغتيال الاسكندر  وقسمت الامبراطورية بين قادة جيشة الى أربعة أقسام, لكن بقيت أهم فكرة أوجدتها الثقافة الهلينستية الا وهي العالمية كعلامة فارقة عن الثقافات المحلية في الحضارات السابقة, وتبلورت فكرة العالمية بشكل واضح في الاديان التبشيرية اللاحقة (المسيحية والاسلام) التي يدرك المتخصصون حجم التأثير الهلينستي التي رافق نشوئها ( بولس, افلوطين, المعتزلة).

ليس هذا ما اردت ان ابسط النقاش حوله في هذا المقال لكن رأيت انه مدخل مهم لفتح افق التفكير ونحن نغوص في أعماق النص الديني, فبحكم الخلفية الاسلامية يعتبر القرآن المكون الأول والأساسي للوعي الجمعي في مجتمعاتنا, لذلك من المهم غربلة افكارنا وتصوراتنا التي تخضع لهيمنة الشكل الذكوري الذي بلا شك صاغ حتى تفسيرنا للنص القرائي وشكّل نسقنا  الثقافي والاجتماعي, هذه الافكار كانت حاضرة في ذهني وانا اقرأ في قصة النبي سليمان مع بلقيس ملكة سبأ كما استعرضتها سورة النمل, اتذكر جيدا حيرتي من الصورة المتناقضة التي رسمتها السورة بين شخصية سليمان الرحيمة والمرهفة مع مخلوق حقير كالنملة والشخصية الاستعلائية الاستبدادية لسليمان مع الملكة الحكيمة بلقيس لمجرد الاختلاف العقائدي كما لخصت ذلك رسالته ( أَلاَّ تَعْلُواْ عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ(, فقد خلت الرسالة من الدعوة بالحسنى واقامة الحجة بالدليل والبرهان الذي ميز دعوة الانبياء وتكررت مرارا على لسانهم كما رسمتها سورة الاعراف, زاد هذا التناقض في ذهني بعد مراجعتي لأمهات التفاسير القديمة التي لم يستفزها هذا الاسلوب الفض بتاتا ربما بحكم هيمنة نمط التفكير الذي يرى في استخدام القوة وسيلة شرعية للتحاكم, وهذه النمط من التفكير مفهوم في  ظل سيادة العقلية الصراعية على تفكير الانسان القديم وغياب مفهوم الحقوق الطبيعية كما تبلورت لاحقا في العصر الحديث. ويمكن ملاحظة اختلاف نمطي التفسير بشكل واضح وانت تتصفح التفاسير الحديثة لهذه الآية التي حاولت ان تبرر هذه الشدة التي لم تعد مستساغة في خطاب الحرية والديمقراطية لأنسان العصر الحديث ,فها هو الاْلوسي في (روح المعاني) في معرض تفسيره لهذه الآية يسوق عدد من التبريرات لرفع هذا التناقض, فيقول رحمة الله:

((ولا يرد أنه يلزم عليه أن يكون الأمر بالإيمان قبل إقامة الحجة على رسالته فيكون استدعاء للتقليد لأن الدعوة المذكورة هي الدعوة الأولى التي لا تستدعي إظهار المعجزة وإقامة الحجة، وعادة الأنبياء عليهم السلام الدعوة إلى الإيمان أولاً فإذا عورضوا أقاموا الدليل وأظهروا المعجزة؛ وفيما نحن فيه لم يصدر معارضة، وقيل: إن الدعوة ما كانت إلا مقرونة بإقامة الحجة لأن إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة التي ذكرت فيما مر أولاً معجزة باهرة دالة على رسالته عليه السلام دلالة بينة. وتعقب بأن كون الإلقاء المذكور معجزة غير واضح خصوصاً وهي لم تقارن التحدي، ورجح / الثاني بأن قولها:
(إِنَّ ٱلْمُلُوكَ (النمل: 34 الخ صريح في دعوة الملك والسلطنة. واجيب بأن ذاك لعدم تيقنها رسالته عليه السلام حينئذٍ أو هو من باب الاحتيال لجلب القوم إلى الإجابة بإدخال الروع عليهم من حيثية كونه عليه السلام ملكاً وهذا كما ترى.))

 وفي تفسير (في ظلال القرآن) لسيد قطب نراه يقر أن لغة الخطاب الذي بعثه سليمان فيه شيء من الاستعلاء, فيقول ((ولغة الكتاب التي يحكيها القرآن فيها استعلاء وحزم وجزم. مما قد يوحي إليها بهذا الوصف الذي أعلنته(), ويؤكد على هذا الوصف فضيلة الشيخ الشعراوي في خواطره فيقول ( وكونه يخاطبها بهذه اللهجة المختصرة البعيدة عن النقاش والجدال، هذا أمر يحتاج منها إلى نظر وإلى أَنَاةٍ(, وهذا التناول المختلف للآية بين مفسري العصر الاسلامي القديم والحديث يسلط الضوء على فكرة تأثير الخطاب السائد في حقبة من الحقب على نمط تفسير النص القرآني, وهذا الامر بحد ذاته يفتح الباب على مصراعيه في قضية حجية التفاسير الموروثة والاحاديث المروية التي ليس هنا محل التفصيل فيها.

عند هذه النقطة رأيت انني احتاج ان اعيد قراءة القصة القرآنية الواردة في سورة النمل بعقلية أكثر انفتاحا تتجاوز سلطة الموروث الديني والثقافي, فتبينت لي بعض الدقائق التي لا أجزم بأنها حقائق وانما نقاط تستحق ان نبذل من اجلها مزيد من البحث والتمحيص. ربما المفتاح الذي سيساعدنا في فك طلاسم هذه القصة هي الاشارة الذكية لسيد قطب حينما افتتح تفسيره لهذه السورة في الظلال بقوله ((وهكذا تبرز صفه العلم في جو السورة تظللها بشتى الظلال في سياقها كله من المطلع الى الختام, ويمضي سياق السورة كله في هذا الظل)), لهذا يكون العلم هو المحرك العام لأحداث السورة ولا بد من اعادة قراءة سياق القصة ضمن هذا النسق الاصلي الذي نزلت فيه اذا كنا بالفعل ساعين لاستخلاص الحقيقة لذاتها وليس للتوافق مع سياق خطاب مهيمن يختلف من عصر لعصر, فيتبين لنا أن نبره الاستعلاء في خطاب سليمان المقتضب والمبهم كان مقصودة لذاتها بل تتناغم مع الآيات السابقة حينما ساق الهدهد العجيبة التي رآها في مملكة سبأ بقوله (انِّي وَجَدتُّ ٱمْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِن كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ( , لذلك يكون اختبار ذكاء هذه الملكة هو الهدف لكل رجل دولة وسياسي محنك كسليمان من خلال دراسة ردة الفعل اثناء وقوع الصدمة لقراءة مكامن القوة والضعف عند الخصم, وتكون دراسة ردة الفعل ذات قيمة أكبر حينما تكون الصدمة تتعلق بأمور مصيرية كبقاء شعب أو قرار الحرب, وهذه القراءة تختلف مع ما ذهب اليه المفسرون الاوائل الذين استساغوا واحتفوا بالعنجهية التبشيرية في رسالة سليمان وانها مقصودة لذاتها أو حاولوا تلطيفها وتبرريها كما فعل المفسرون المحدثون,  والذي يؤكد حرص سليمان على دراسة تأثير الرسالة وردة فعل الملكة عليها هو ما يمكن استخلاصه من أمر سليمان للهدهد حينما حمله الرسالة ) أذهب بِّكِتَابِي هَـٰذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَٱنْظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ), فما سوف تحدثه الرسالة العنيفة من مراجعة بين الملكة وشعبها هو ما كان يشغل العقل السياسي لسليمان لذلك اعطى الهدهد أمر مباشر بنقل وقائع تلك المراجعة التي سيكون فيها مفاتيح التعامل مع هذه الملكة الاستثنائية, ولا يخفى على الدارسين لعلوم السياسة والنفس والتربية ما في اختبار الصدمة من فائدة لفهم الحالة محل الدراسة, وبالتالي يكون هذا التفسير متماشيا مع السياق العام للسورة الذي اشار اليه سيد قطب الا وهو العلم.

أكاد أجزم ان سليمان وقف مبهورا وهو يتلقى تقرير الهدهد حول ردة فعل الملكة , فهي لم تفقد حنكتها ورباطه جأشها أمام صدمة الرسالة المبهمة ونبرتها الاستعلائية بل تجاوزته بحنكه ودهاء منقطع النظير الى امتصاص ردة الفعل المتسرعة للحرب من قومها حينما استفتتهم في أمر الرسالة, وبالتالي رسم القرآن صورة لمرأه تمارس السلطة السياسية في قمة هرمها الاداري بشكل جعلت نبي عظيم لم يؤتى أحد كملكة الى يوم القيامة يحاول منافستها في الذكاء السياسي فيضع لها الاختبار الاول الذي تجاوزته بكل حنكة, بل بلغ بها الذكاء السياسي أنها قررت ان تدرس شخصية صاحب الرسالة قبل أن تقدم على اتخاذ أي قرار مصيري وبعثت له هدية تكون بمثابة بالون اختبار, وحالما تصل الهدية السياسية الى سليمان يقرر أن يصعد من حده الاختبار بأن يضع الملكة في موقف سياسي أكثر حرجا وارباكا بأن يرد الهدية بأسلوب أكثر استعلائية وبعنف وتهديد مباشر لسلطتها هي بالذات بأن ضرب على الوتر الذي خوفت به قومها سابقا بأن الملوك اذا دخلوا قرية افسدوها وجعلوا أعزة أهلها أذلة, ولو سرنا على طريقه المفسرين الاوائل الذين انطلقوا من الفلسفة الصراعية في الحكم فسوف ننتهي الى أن رغبة الإخضاع بالقوة التي أطلقها سليمان تؤكد مقولة بلقيس عن الملوك المتسلطين وهذا بحد ذاته يبعث سؤال الى مفسرينا الاوائل هل الانبياء حقا جاؤوا للإفساد في القرى واذلال الناس وتصغيرهم ؟

هنا تبرز العبقرية السياسية لبلقيس من جديد وتمتص الصدمة السياسية الثانية وتحاول ان تقلب الطاولة على سليمان بأن تقطع الطريق عليه وتقدم على مناورة سياسية مباغتة ستعرقل قرار الحرب على مملكة سبأ, فهي قامت بخطوة شجاعة بأن قدمت على سليمان شخصيا وبالتالي انتزعت من يد سليمان التفوق في اختيار منطقة الصراع التي سوف تدور رحاها الان في مملكة سليمان نفسه وليس في مملكة بلقيس, فلو نجحت في هذه المفاوضات مع سليمان فقد حفظت نفسها ومملكتها ولو كتب لها الفشل في هذه المفاوضات فهي ستعود بكنز من المعلومات عن هذا الملك ومملكته ستساعدها في اعداد استراتيجيتها الدفاعية. وهذا ما جعل سيد قطب في الظلال ينتشي  طربا من سياسة هذه المرأة التي تبحث عن أي وسيلة لتجنب العنف فيقول ((وهنا تظهر شخصية ” المرأة ” من وراء شخصية الملكة. المرأة التي تكره الحروب والتدمير، والتي تنضي سلاح الحيلة والملاينة قبل أن تنضي سلاح القوة والمخاشنة()

وهذه المناورة السياسية من بلقيس اضطرت سليمان ان يستغل الامكانات فوق البشرية لديه لقهر الذكاء السياسي لملكة سبأ بعد ان أعجزته الحيلة السياسية البشرية. فجاء الاختبار الثالث من خلال نقل عرش بلقيس الى مملكة اورشليم عله بذلك يسجل نقطة يكسر بها تفوق بلقيس في علم السياسة والدبلوماسية, ورغبه سليمان لهذا النصر يمكن استنتاجها بوضوح من إقدامه على تنكير عرش بلقيس علها تخلق حالة من الهزيمة النفسية والارباك تدفعها الى اجابة متسرعة تحقق نصر معنوي لسليمان, وهذه المسألة لا يمكن ان تكون واضحة اذا قرأت القصة حسب المنطق الصراعي الذي سار عليه المفسرون الاوائل والمنطق التبريري للمفسرين  المتأخرين, فلو كان المقصود هو اظهار السطوة والاستعلاء لكان ابقاء عرش بلقيس على حاله بلا تنكير هو اكثر تحقيقا للغاية المنشودة وامضى في اثبات قدرته التي اتت بعرشها كما هو من سبأ, لكن ما كان ينشده سليمان هو ان يضعها امام اختبار ثالث أكثر تعقيدا بحيث تكون فيه الاجابة بنعم أو لا كلاهما خاطئتين. في المقابل، ما زالت الجعبة السياسية لبلقيس لم تفرغ وما زالت ثابته الجنان ولم تفقدها المفاجئة رشدها حتى وهي ترى ما يفترض انه عرشها شاخص أمامها , فاستدركت الامر بسرعة البرق وردت الدهاء بدهاء أكبر منه واذابت بكلمة واحدة مفعول المعجزة حينما نطقت بعبارة جامعة مانعة فقالت (كأنه هو), وهنا يستحضرني ما كان يقوله لي زملائي الذين يعملون في السلك الدبلوماسي والمحاماة أن هذه الاجابة التي تحتمل النفي والايجاب تدرس على أنها أذكى إجابة حينما تكون معالم المشهد الذي أمامك غير واضحة ويحفها ضباب الشك, وكثيرا ما أقارن مشهد بلقيس المرأة الفطنة بمشهد فرعون الرجل المستبد حينما بلغ قمة غطرسته وأراد أن يصدح بألوهيته لمصر فنطق بلسانه عبارة ) مَا عَلِمْتُ لَكُم مِّنْ إِلَهٍ غَيْرِي  ( فأبطل بنفسة ألوهيته المزعومة بأول كلمة أراد الاعلان بها على ألوهيته, فنفي العلم كما وردت في عبارة (مَا عَلِمْتُ ) لا تليق أن ينطق بها من يفترض أن يكون الاله صاحب العلم المطلق الذي لا يعتريه نقصان او جهالة (لكن العتب في عقول الرعية).

  يبلغ المشهد الدرامي بين بلقيس وسليمان ذروته في قاعة العرش بعد أن كادت النبوة الذكورية المتعاونة مع القدرة السماوية ان تخضع لسلطان المرأة الغابر, ذلك المجد التي كانت فيه المرأة هي المعبودة الام في الارض قبل أن يتمرد عليها أبنائها ويلحقوها بسلطان الذكورة. كشفت بلقيس عن ساقها وهي تلج ساحة العرش التي ربما حسبته سطح مائي للتطهر قد يكون شبيه بما يراه الداخل الى المعبد الذهبي في منطقة امريستار الهندية الذي هو قدس اقداس الديانة السيخية, وارتباط الديانات بالماء ظاهر وجلي بشكل يبلغ حد التطابق, ولا يخفى علينا الارتباط الشديد بين سبأ والماء الذي خلده القرآن في قصة سد مأرب, فهل كانت حيلة سليمان لقهر ذكاء بلقيس هي مجرد رسالة فلسفية عميقة من خلال رمزية التطهر التي شغلت عقل انسان العصر القديم؟ . لم استطع فك هذا السر حتى الآن على الرغم ان ظاهر معجزة الصرح الممرد لم تقنعني لتكون سببا كافيا لإبهار عقل جبار كعقل بلقيس بحيث يقتنع ويعلن إسلامه, طبعا اذا استثنينا السخافات التي وردت في بعض التفاسير من أن الجن خشوا من سطوة بلقيس فبثوا شائعة أن رجلي بلقيس مملوءة بالشعر او هي كرجلي حمار فصنع سليمان هذه الحيلة حتى يتأكد!!! فمن وجهة نظري كانت معجزة اتيان العرش من سبأ في المقياس العجائبي هي اكثر ابهارا وادهاشا للعقل البشري من مجرد سطح زجاجي تجري من تحته الكائنات البحرية كما وصفته احد التفاسير, خصوصا وأن صناعة الزجاج كانت معروفة في بلاد الشام ومصر في تلك الحقبة ولا شك ان مملكة سبأ ذات الصيت التجاري قد اصابها شيء من هذا الإرث الإنساني, فلماذا توقفت بلقيس عند هذا المشهد واعلنت إسلامها؟ هل توقفت القصة هنا ام ان هناك مشاهد اخرى اسقطت من الحكاية؟ , فالرواية التوراتية تذكر القصة لكن بصورة مختلفة تماما, فقدوم ملكة سبأ على سليمان كما وردت في “سفر الملوك الأول 10 وردت ضمن سياق تجهيز سليمان لهيكل الرب في أورشليم وفي معرض الحديث عن الهدايا والتقدمات التي جاءت من ملوك الأرض, ولم تشير التوراة الى أن بلقيس آمنت بدعوة سليمان بسبب معجزة الصرح بل بينت ان قدومها جاء لطرح أسئلة عسيرة على سليمان وبعد أن فرغت من طرح جميع أسئلتها وسمعت الحكمة في أجوبة سليمان وشاهدت ما هو فيه من عزة وقصر مشيد ، مدحت حكمته وصلاحه وكان ختام القصة التوراتية ((وأعطى الملك سليمان ملكة سبأ كل ما رغبت فيه, فضلا عما أهداه إليها وفقا لكرمه, ثم انصرفت هي وحاشيتها الى أرضها)),وهذا المشهد يتطابق اكثر مع الشريعة اليهودية التي لا تؤمن بالتبشير ولا تعتقد بيهودية الا من جاء من بطن ام يهودية. لكن حتى الرواية التوراتية فيها شيء من الغموض فسليمان بعد هذه الزيارة تغير تماما بل انقلب الى عقيدة الكفر وعبادة الاصنام كعشتاروت آلهة الصيدونيين وملكوم إله العمونيين البغيض وشيد المرتفعات لكموش أله الموآبيين الفاسق ولمولك إله بني عمون البغيض, وشيد مرتفعات لجميع نسائه الغريبات, وغضب الرب على سليمان لان قلبه ضل عنه ومات سليمان على تلك العقيدة التي دخلت عليه من زوجاته فانتقم منه الرب بأن مزق أوصال مملكته كما هو مكتوب في “سفر الملوك الأول 11” , فهل كان لبلقيس دور في هذا الانتقام فتكون القصة التي نقلت عن انتصار سليمان هو عكس ما حصل في الحقيقة؟, ترد في القرآن أيه تحاول ان تدفع هذه المصير الغامض عن سيرة سليمان حينما تشير  ( وَاتَّبَعُوا مَا تَتْلُوا الشَّيَاطِينُ عَلَى مُلْكِ سُلَيْمَانَ وَمَا كَفَرَ سُلَيْمَانُ وَلَكِنَّ الشَّيَاطِينَ كَفَرُوا) آية 102 البقرة.

لا شك ان كلما حاولنا جمع شتات القصة من عدة مصادر زاد تعقدها وثارت علامات استفهام جديدة, وهو ما يستدعي اهمية إعادة تركيب الصورة السياسية والاجتماعية والدينية التي كانت عليها تلك الحضارات التي جاءنا شيء من اخبارها حتى تكون قراءتنا للقصة واضحة المعالم, وهو ما يجعل من علم الاثار وعلم الانسان وعلم الاجتماع وباقي العلوم الانسانية بالإضافة للأديان المقارنة  أدوات مهمة لإعادة تركيب المشاهد التي وردت في النصوص الدينية , كما تبرز ايضا أهمية الغوص في اثار الديانات الشرقية القديمة كالهندوسية والصابئية والمجوسية التي ما زالت محتفظة  بقوامها الديني لتكون مراجع مهمة للدين المقارن وفهم العقلية التي كانت سائدة في تلك العصور السحيقة, كما اود الإشارة الى التناقض الغريب بين حرمان المرأة من الولاية السياسية عند فقهاء الاسلام بسبب دعوى القصور الديني والعقلي كما تدفع به العقلية الذكورية على الرغم من وجود هذا الشاهد القرآني المبهر لنموذج المرأة السياسية المحنكة التي كادت او ربما بزت أحد أعظم الانبياء الملوك. فلو عقدت مقارنة قرآنية بين افضل واسوء  نموذج للحكم وردت في القرآن فحتما بلقيس الانثى ستكون على رأس هذه القائمة وفرعون الذكر في قاعها, لكن حفيدات بلقيس في واقعنا الاسلامي الحالي هن مشروع معطل ومحمول بكثير من الدناسات والمحرمات التي تجعل من مجرد اقترابها من الولاية السياسية امر موجب للعقوبة الالهية. كل ذلك التراث من التفاسير تطور خلال حقب سادت فيها خطابات سياسية ونفسية هيمن عليها خطاب ذكوري ونظرة محلية في التفسير ولدت الازمة الحالية في عالمنا الاسلامي بين التراث والحداثة.

التاسع والأربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

اسماعيل المقبالي