ما قل ودلّ .. قراءة في التواصل غير المنطوق بالفكر العماني

كتب بواسطة نبال خماش

للسلوك المجتمعي المتحضر ملامح عامة ودلالات لا تكاد تخطئها عين أو تغفل عنها نبهة الذهن، من هذه الملامح أو السلوكيات المجتمعية أن يراعي الناس بعضهم البعض، يتحسسوا مشاعرهم وطبائع أمزجتهم من دون أن يفضي الآخر بمكنوناته ومشاعره أو يفصح عنها، سواء كان بموضع الفرح أو الحزن، الضيق أو السعة، تكفي النظرة أو الإشارة ليدرك أحدهم حال الآخر ويتفهمه، كل ذلك يتحقق من دون كلام أو لفظ، لتغدو آنذاك لغة الجسد هي اللغة المقروءة والمفهومة.

بديهي أن تختلف المجتمعات وتتمايز بقيمها ونمط معيشتها ومستويات تفاعلها ضمن الأطر المشتركة التي توافقت عليها وتآلفت، إضافة الى تمايزها في نمط تعاملها مع الآخر والنظر إليه، وأكثر من ذلك في نمط تعاملها مع المكان الذي يحتضن هذا المجتمع أو ذاك.

   وللسلوك المجتمعي المتحضر ملامح عامة  ودلالات لا تكاد تخطئها عين أو تغفل عنها نبهة الذهن، من هذه الملامح أو السلوكيات المجتمعية أن يراعي الناس بعضهم البعض، يتحسسوا مشاعرهم وطبائع أمزجتهم من دون أن يفضي الآخر بمكنوناته ومشاعره أو يفصح عنها، سواء كان بموضع  الفرح أو الحزن، الضيق أو السعة، تكفي النظرة أو الإشارة ليدرك أحدهم حال الآخر ويتفهمه، كل ذلك يتحقق من دون كلام أو لفظ، لتغدو آنذاك لغة الجسد هي اللغة المقروءة والمفهومة.

    هذا النمط حاضر في العديد من المجتمعات التي تعظّم من شأن القيم وتستشعر الدلالات المعنوية، مجتمع يراعي بعضه أحوال بعض وظروفهم في مختلف الأوقات،  ومن بين هذه المجتمعات التي تمتلك هذه الخاصية يأتي المجتمع العماني في صدارته، الذي يُجل ويقدر عاليا هذه الأنماط في السلوك الإنساني. غير أن سؤالا يبرز عن أصل هذا السلوك، مصادره المعرفية إن توافرت، مكتوبة أو متوارثة جيلا عن جيل، فاذا توافق مجتمع على مجموعة من القيم يتوارثها على مدى الأزمنة، فمن المؤكد أن له اصلا ومنبعا صدرت عنه مثل هذه القيم لتستقر على مدى العصور.

   الفكر العماني بتاريخيته، وعلى نحو أكثر تحديدا النتاج الفقهي لهذا الفكر، أعطى أولوية لهذه المسألة تحديدا، وأفرد لها مساحات في أعماله التي تتسم بالموسوعية والشمول، وأكدت هذه الأعمال  ضرورة أن يكون الإنسان فطنا لمّاحا، قادرا على التقاط الرسائل غير الكلامية بمختلف أدوات التعبير، عبر تعابير الوجه أو حركة الجسد أو نظرة العين وطبيعتها. وبمقتضى هذا الإدراك يأتي السلوك المناسب والمنسجم مع هذه اللغة غير المحكية، والتي تأتي في صدارتها فهم واستيعاب الكلمات والتعبيرات التي تنطق بها العيون، دون أن يتحرك اللسان. نقرأ في أصول الفقه العماني نصيحة ارساها الإمام جابر بن زيد قبل قرابة خمسة عشر قرنا، موجها خطابه لكل من تولى مهمة خطابة الناس والتحدث اليهم، مؤكدا ضرورة أن لا يطيل المتحدث في خطابه حتى لا يسأم الناس، وان اضطر للإطالة فليبقى منتبها للدلالات الجسدية لدى المتلقي،  حيث يقول:” حدّثوا الناس ما رمقوكم بالحدق”، فلغة العيون وفقا لهذا النص ترقى بتعبيراتها الى مرتبة الكلام الملفوظ، بل هي أكثر دلالة وبيانا، وليس على المتحدث سوى أن يلتقط هذه الإشارة، ويصغي لها، ويستجيب لمطلبها.

   ونظرة من تولى المسؤولية أو الحكم بين الناس يجب أن تكون عادلة، فلا يجوز النظر الى طرف أو شخص وتغافل الآخر، فهذا من شأنه أن يسبب ازعاجا وشعورا بعدم الرضى لمن جرى تجاهله، وها  هو أحمد بن عبدالله الكندي في ” المصنف” يضع قائمة طوية وتفصيلية للشروط الواجب توفرها فيمن اسندت اليه مهمة الحكم بين الناس،  من جملتها أنه لا يجوز له النظر إلى خصم دون آخر، والنظرة يجب أن تكون محايدة وعادلة، في عددها وتعبيراتها، كما لا يجوز له أن يبتسم في وجه أحد دون الآخر.

   ومظاهر شمولية الرسائل التواصلية غير المنطوقة في الفكر العماني عديدة ومتنوعة، وتعابير الوجه تأتي في مقدمتها، ونجد في العمل الفقهي الموسوعي” بيان الشرع” لصاحبه محمد بن ابراهيم الكندي، مقاطع نصية كثيرة في هذا الجانب، من جملتها تأكيده ضرورة أن تفضي تعابير الوجه الى معاني السماحة والبشاشة في الأحوال كافة، الا اذا كان الموقف يتطلب تعبيرا مغايرا، فيقول إن ” البشر في موضعه أفضل من الكشر”، والعكس صحيح.

   وفي دلالات الجسد بحالة المشي، فإن الفقه العماني أنكر على الإنسان حالة الجري دونما سبب أو مبرر، واعتبره من ” أفعال الجفاء”، وأوصى أن يمشي الإنسان على نحو متوازن دونما إبطاء أو اندفاع، الا اذا كان الجري مخافة عطب أو دفعا لضرر، فهذا الجري جرى تصنيفه باعتباره من الإحسان.

   إن منظومة القيم في المجتمع العماني ترتد بالحقيقة الى أصل نظري متسام وراق،  ويلمس كل من أتيحت له فرصة الاحتكاك والتواصل مع أفراده هذا الحرص الأكيد على التمسك والتعلق  بالأصول الثقافية التي أكسبته هذه المزايا والخصائص التي تجسدت بهذه الحالة الفريدة من التجانس والانسجام المجتمعيين، وهي مسائل يدرك الجميع أنها بدأت تتلاشى في العديد من المجتمعات المعاصرة، ما يضفي على المجتمع العماني خاصية حري به أن يقدرها ويعظم من شأنها ويتمسك بها، ويحرص أن تبقى هذه القيم متوارثة جيلا وراء جيل، باعتبارها المظلة الواسعة الممتدة، التي تتسع للجميع وتشمل الجميع.

التاسع والأربعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني