مملكة جرنان

كتب بواسطة يعقوب الريامي

استنفروا حواسهم حين دخل عليهم جندي يُرى عليه أثر السفر ورهق الطريق .
استعاد أنفاسه ثم قال برهبة انعكستعلى ملامح وجهه :
– أيها الملك العظيم لقد رأيت مقاتلي القبيلة المعادية يلبسون جلود النمور ، لقد أعدوا جيشا جرارا وجمعوا له عتادا وافرا ، كانوا ملتهبين شوقا للقاء معبودنا العجل الذهبي والثأر لمقتل سيدهم ، فإما موتٌعزيزٌ أو نصرٌ مؤزرٌ .
علمتُ أنهم حثوا القبائل المجاورة على الانضواء لصفوفهم ضدنا .
يا مولاي إن الأرض ترجف تحت أقدامهم والسماء تكاد تنفطر من أصوات هتافهم .

الملك بجبهته العريضة وبدنه الممتلئ يجلس على كرسيه محتقن التفكير ، وكبار مستشاريه متحلقين حوله ، كانوا جميعا في حالة انتظار مُمّض ، وترقب لمجهول اختلفوا في تأويله .

استنفروا حواسهم حين دخل عليهم جندي يُرى عليه أثر السفر ورهق الطريق .

استعاد أنفاسه ثم قال برهبة انعكستعلى ملامح وجهه :

– أيها الملك العظيم لقد رأيت مقاتلي القبيلة المعادية يلبسون جلود النمور ، لقد أعدوا جيشا جرارا وجمعوا له عتادا وافرا ، كانوا ملتهبين شوقا للقاء معبودنا العجل الذهبي والثأر لمقتل سيدهم ، فإما موتٌعزيزٌ أو نصرٌ مؤزرٌ .

علمتُ أنهم حثوا القبائل المجاورة على الانضواء لصفوفهم ضدنا .

يا مولاي إن الأرض ترجف تحت أقدامهم والسماء تكاد تنفطر من أصوات هتافهم .

عظم على الملك ما سمعه من العين المرسلة إلى أرض القبيلة التي أعلنت الحرب عليهم .

فارعد وأزبد ، واعدا إياهم بالويل والثبور .

وأنه لكذلك إذ به يقوم من كرسيه ويتحرك نحو العين ، فيقف أمامه وجها لوجه ، بعينين ينبثق منهما ما يريب ، على نحو مباغت استل خنجره المسموم ثم بقر به بطن العين .

فاح الدم من فمه إلى أن خارت رجلاه ، فسقط صريعا .

احتقنت وجوه البقية ، معتصمين بالصمت .

قال الملك وهو يمسح الدم من شفرة خنجره :

– دمك من أجل نصرة الإله العجل الذهبي . أخشى أن يصل كلامك إلى جنودنا فَـيُقذف الرعب في قلوبهم ثم تتهاوى عزائمهم .

التفت لمن حوله وصرخ فيهم بحدة :

– أغلقوا أفواهكم .

* * * * * * * *

كان يوماً حافلا بالزوار الذين أتوا من أنحاء مملكة جرنانللقيام بطقوس عبادة العجل .

تزاحم الحجاج حوله يصدحون بالتراتيل و يرددون الأناشيد ، ورائحة البخور تعبق بالمكان .

عندما أزفت الشمسبالغروب أنفض الجمع وتفرق الناس .

راح سدنة العجل يعيدون ترتيب المعبد ، لاحظ أحدهم كسراً في ذنب العجل مع اختفاء قطعة ذهبية كبيرة ، فهرع إلى إبلاغ رئيس الحرس .

انطلق رهط من الفرسان تعدو بهم الأحصنة يسابقون الريح لتتبع آخر الزائرين .

عند محاصرتهم وتفتيش أوعيتهم ، وجدوا القطعة الذهبية في متاع أحدهم وهو عم لزعيم قبيلة كبيرة ذات شرف ومهابة ، تقطن على تخوم مملكة جرنان .

اقتيد صاحب الجريمة مقرنا بالأصفاد .

انتفخت أوداج الملك وقال مغضبا :

– لقد اعتديت على إلهنا وأهنت قدسيته ، سأجعلك عبرة لغيرك .

تكلم الفاعل بلسان الندم :

– لقد سحرني بريق الذهب ، فسول لي شيطاني اقتراف السوء . أرجوك اصفح عن خطيئتي أيها الملك الكريم .

أصر الملك على الزج به خلف القضبان .

جاء وفد من القبيلة شفعاء ، يطلبون من الملك العفو عن صاحبهم ، مؤكدين له أن الفاعل يعاني من مرض السرقة ، بالرغم من ضخامة ثروته وتوسع جاهه .

بكبرياءالملوك رفض مقابلتهم ثم أعلن حكمه على الجاني بضرب عنقه ، وحظر على أفراد القبيلة القيام بعبادة العجل الذهبي لعام كامل .

أثارت أحكام الملك حنق القبيلة ، واهتاجت صدورهم حقدا ، فعقدوا اجتماعا طارئا ،خرجوا على أثره بقرار الحرب ، انتقاما وردا لكرامتهم .

* * * * * * * *

عند انشقاق الفجر .. استيقظ الملك من مخدعه متكدرا .

سار إلى المعبد ، ظل جاثيا على ركبتيه بين يدي العجل الذهبي ، خاشعا مبتهلا .

تحركت شفتاه ..

إلهنا المقدس اعفو عن زلاتنا وبرحمتك اشملنا .

نسألك أن تنير عقولنا بالحكمة وأن تكسب أبداننا القوة .

أجلب لنا خير الولاء وارفع عنا كل بلاء .

إلهنا قد علمت أني جمعت لك من الذهب أنقاه ومن المجوهرات أنفسها ..

وجندت حولك من الفرسان أشجعهم ..

فأرسل الوهن في أعدائنا وانشر الفرقة بين أحزابهم .

لن ينالوا منا ، إلى  الرمق الأخير سنقاتلهم ..

لن نتركهم يدنسوا أرضنا ويعبثوا بمقدساتنا , سنسحقهم .

أنصرنا .. أنصرنا …

ثم أخذ الملك ينتحب إلى أن رفعه الوزير برفق  :

– هون عليك أيها الملك .. الإله سينصرنا بإخلاصك له .

سارا معا جنبا إلى جنب ، بعد خطوات توقف الملك ، وغمامة من القلق تعصف به :

– أيها الوزير ثلاث ليالٍ وذات الحلم يتكرر في منامي ، استشعرت منه خوفا لا أدري ما حقيقته .

رد الوزير :

– لا تكترث بها ، ربما تكون أضغاث أحلام  ، ولكي تطمئن سآتي إليك بأشهر المعبرين .

حين أقترب المعبر من مجلس الملك همس الوزير في أذنه :

– أنت تعلم أن نذر الحرب مقبلة على أرضنا فالجم لسانك من ذكر ما يغضب الملك لتحفظ رقبتك ! .

ظلت عينيّ المعبر مضطربتين إلى أن تكلم الملك :

– رأيت العجل الذهبي يلمع منه بريقٌ جذابٌ والأضواء الصفراء تسطع من جوانبه ، ثم بعد حين خفت نوره ثم اختفى الذهب منه ، إلى أن تحول إلى هيكل حديدي بشع المنظر .

تعرق وجه المعبر و طاش فكره .. فتفسير الحلم ينذر بالشر ويلوح بعاقبة مخزية .

أخذ يتحسس رقبته وهو ينظر إلى الوزير من طرف خفي .

استجمع قواه وقال برباطة جأش :

– أيها الملك .. أبشر فنصرنا على الأعداء محسوم ، والإله في عزة ، ودلالة ذلك الحديد فهو ذو بأس ومنعة ، فقد خلع العجل حلته الفاخرة ولبس درع الحرب .

ابتهج الملك وتهللت أساريره .. فأجزل العطاء للمعبر .. وأصدر أمرا بإقامة احتفالٍ عامًّ لقدوم إرهاصات النصر .

* * * * * * * * *

قرع الأعداء طبول الحرب ، فوصل دويها أرض الملك ، فأعلن قادة الجيش التعبئة وحثوا المقاتلين على الاستبسال .

التحم الجيشان وأشتد الطعن .

كانت المعركة حامية الوطيس  ، يكاد النقع يحجب نور الشمس .

تبادل الجيشان الكر و الفر ، وتكايدوا بينهم بفن الخداع والتظليل .

في اليوم الثالث من المعركة استحر القتل في جيش الملك ، فقتل من القادة العدد الكثير مما جعل الجنود تخور هممهم وتضعف قواهم .

انقلبت موازين المعركة لصالح جيش القبائل ، حيث استطاعوا اختراق القلب بعد أن تداعت الميمنة وأحدثوا كسرا في الميسرة .

جلس الملك على كرسيه مهموما ضائق الصدر من أنباء تقهقر جنوده ، وتقدم العدو نحو مملكته .

دخل عليه الوزير منفردا ، ليفصح عن أمريجول في خلده  :

– أيها المبجل .. القبائل المعادية شنت الحرب لطمعها في الاستيلاء على معبودنا ، لهذا أرى أن نخفيه في كهف بعيد الغور ، فإذا دارت الدائرة علينا حرموا من أن يقع في أيديهم الآثمة ، وأما إذا استأصلنا شأفتهم و قضينا عليهم أظهرناه .

رد الملك بنغمة اليائس :

– افعل ما تراه صوابا .. فقد عهدت منك الحكمة وحسن التدبير .

* * * * * *

في جنح الظلام تحرك عشرة من الرجال الأشداء المخلصين اختارهم الوزير على عين ، قاموا بحمل العجل الذهبي .

اجتازوا وادي حلفين ثم دلفوا فوهة كهف أسفل جبل .

راحوا يتوغلون في الكهف إلى نهاية عمقه ثم أنزلوا العجل الذهبي من على أكتافهم .

كانت أضواء المشاعل تعكس ظل الوزير على الجدار الحجري ، وهو يقف قبالة العجل في سكينة ، متمتما بكلمات الصلاة ، قبل أن يغادر الكهف .

* * * * * * * *

في نفس الليلة كان الملك في قصره   يكابد مخاوف الهزيمة وآلام فراق الرئاسة .

ظل متأرقا يعصره التفكير ..

قام يذرع غرفته جيئة وذهابا ، في الخطوة الأولى يرفع أمرا ثم في الأخرى يحطه .

حانت منه التفاته ناحية الخزانة ، راح ينظر إليها بعينيين متقدتين ، التقط منها لفافة ، أفرغ محتواها في قدح ماء ثم دلقه في جوفه .

قفلوا راجعين إلى خارج الكهف ، لم يفتهم إغلاق مدخله بالحجارة .

في طريق عودتهم أحست بهم فرقة استطلاعية من القبيلة المعادية ، فوقعت بينهم صكه عظيمة ، أبلى الوزير وجنوده في القتال بلاءً حسنا  ، غير أن قوات العدو كانت أكثر عددا , فقتلوا جميعا .

في اليوم التالي سقطت مملكة جرنان ، وتميزوا غيظا حين لم يجدوا العجل الذهبي ، ولم يعلموا بمكان اختفائه .

ظل العجل الذهبي سرا غامضا . الذين يعلمون بمكانه غيبهم الموت ، فالملك انتحر بالسم لينجو من ذل الأسر ، والوزير وجنوده تمت تصفيتهم .

بعد عقود من الزمن اعتقد الناس بوجود العجل الذهبي في أكبر كهف في جرنان إلا أنه لم يجرؤ أحدٌ على دخوله خوفا مما شاع وقتها أن لعنة العجل ستفتك بهم .

* * * * * * * *

* جرنان : اسم لولاية إزكي قديما .

أدب التاسع والأربعون

عن الكاتب

يعقوب الريامي

كاتب عماني