الكيان السعودي الإماراتي وإضاعة الفرصة التاريخية

كتب بواسطة المعتصم البهلاني

الخلاف السعودي الإماراتي القطري أخذ منحاً مختلفاً عندما أعلنت السعودية والإمارات عن إنشاء لجنة عليا تعمل على “تنفيذ الرؤية الاستراتيجية لقيادة البلدين” في إطار “كيانٍ قويٍ متماسك” يدعم “مسيرة العمل الخليجي المشترك” مثلما ذكرت وكالة الأنباء الإماراتية. هذا التصريح هو تطور طبيعي في سياق الرغبة السعودية الجامحة لتكوين” الاتحاد الخليجي” – أو إن شئم ” السعودية الكبرى”- والتي تمكن الساسة في السعودية من استغلال الخلاف الخليجي-الخليجي لإيجاد كيانات مصغرة لتحقيق هيمنتها على المنطقة.

منذ أن اندلعت الأزمة الدبلوماسية بين دول مجلس التعاون في مارس من العام الحالي بسحب السعودية والإمارات والبحرين سفراءها من قطر وأعمدة البيت الخليجي تزداد وهناً، وعلى الرغم من المحاولات الكويتية العمانية لإعادة العلاقات بين الأشقاء، وعلى الرغم من التصريحات التي أدلى بها معالي يوسف بن علوي – الوزير المسؤول عن الشؤون الخارجية في عمان- عن انتهاء الخلاف، إلا أننا لا نرى أي مؤشر في الأفق يدل على قرب انتهاء هذا الخلاف القائم بين الأشقاء، خصوصًا بعد تصريح الخارجية البحرينية أن عودة سفيرها ليس وارداً الآن.

حدة هذا الخلاف تذكرنا بالمخاوف العربية الأولى عند قيام المجلس ككيان مستقل عن الجامعة العربية. أهم هذه المخاوف – مثلما ذكرها رياض الريس في كتابه رياح الخليج – هو تقديم مصلحة دول مجلس التعاون على مصلحة بقية الدول العربية. إلا أن القضية اليوم تجاوزت المخاوف من تقديم المصالح الداخلية إلى تصدير صراعاتها إلى خارج البيت الخليجي وتقويض مصالح الدول العربية لتحقيق مكاسب آنية لبعض دول المجلس.

الخلاف الخليجي الحالي ليس خلافًا سطحيًا يمكن أن يحل بسياسة “تبويس البشوت” مثلما ذكر الكاتب زاهر المحروقي في مقال تداعيات سحب السفراء من الدوحة (الرابط) ، وإنما هو خلاف جذري في تحديد العلاقة مع تنظيمات الإسلام السياسي عمومًا، والتنظيم العالمي للإخوان المسلمين خصوصًا، ففي الوقت الذي ترى فيه قطر تنظيم الإخوان رصيدًا استراتيجيًا، تراه السعودية والإمارات تهديدا حقيقيًا على أنظمة الحكم الخليجية القائمة. النظرة الإماراتية العدائية تجاه تنظيم الإخوان ليست جديدة وإنما هي امتداد لرؤية الشيخ زايد مؤسس دولة الإمارات تجاه التنظيم، الأمر الذي ساهم في تعزيز وحدة الجبهة الداخلية الإماراتية  تجاه تنظيم الإخوان، وبالتالي عدم مساءلة – أو إن شئتم مناقشة – السياسات الخارجية المترتبة على هذه الرؤية كدعم الانقلاب في مصر ودعم منفذه عبدالفتاح السيسي. إن هذا الدعم المقدم للمشير السابق ومرشح الرئاسة الحالية ليس بسبب ثقة القيادة الإماراتية في قدرته على إخراج مصر من مآزقها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الداخلية، وإنما لقدرة السيسي على إبادة تنظيم الإخوان بدم بارد مثلما حدث في فض الاعتصامات التي قامت في ميدان رابعة.

 

 

الخلاف السعودي الإماراتي القطري أخذ منحى مختلفاً عندما أعلنت السعودية والإمارات عن إنشاء لجنة عليا تعمل على “تنفيذ الرؤية الاستراتيجية لقيادة البلدين” في إطار “كيانٍ قويٍ متماسك” يدعم “مسيرة العمل الخليجي المشترك” مثلما ذكرت وكالة الأنباء الإماراتية. هذا التصريح هو تطور طبيعي في سياق الرغبة السعودية الجامحة لتكوين” الاتحاد الخليجي” – أو إن شئم ” السعودية الكبرى”- والتي تمكن الساسة في السعودية من استغلال الخلاف الخليجي-الخليجي لإيجاد كيانات مصغرة لتحقيق هيمنتها على المنطقة.

الإعلان السعودي الإماراتي جاء بعد مقابلة وزير الخارجية السعودي سعود الفيصل برفقة محمد بن نايف وزير الداخلية السعودي لمحمد بن زايد ولي ععهد أبو ظبي ونائب القائد الأعلى للقوات المسلحة – المعروف بتنامي حسه الأمني – وليس رئيس الدولة خليفة بن زايد الذي تكاثرت الأنباء حول تدهور حالته الصحية، أو رئيس الوزراء محمد بن راشد الذي يأتي بروتوكولياً بعد رئيس الدولة مباشرة. لذا، يبدو أن السعودية استخدمت الورقة الأمنية لإغراء القيادة الإماراتية الأمنية ممثلة في محمد بن زايد بقبول إقامة هذا “الكيان المشترك” والذي سيمكنهم من التصدي للتحديات الأمنية التي تمر بها المنطقة خصوصًا الملفين الإيراني وتنظيم الإخوان. كما أن تكوين كيانٍ ثنائيٍ في المنطقة يعيد إلى ذاكرة القيادة الإماراتية النشأة الأولى للدولة الاتحادية من خلال الإعلان عن اتحادٍ ثنائيٍ بين إمارتي أبوظبي ودبي، الأمر الذي حدا ببقية إمارات ساحل عمان المتصالح – عدا قطر – تجاوز تحفظاتها والدخول في الدولة الاتحادية. ومن هنا ارتمت الإمارات في الحضن السعودي ويبدو أنها ستسلم استقلالية قرارها السياسي الخارجي للسعودية.

هذا “التكامل” السعودي الإماراتي – مثلما يحلو لبعض المحللين السياسيين تسميته – لم يُبنَ على وجود عمقٍ استراتيجيٍ لصالح الإمارات بقدر ما بني من أجل إيجاد عمقٍ إستراتيجيٍ للسعودية، فالأخيرة كانت وما تزال تبحث عن منفذٍ لها نحو الساحل الشرقي من شبه الجزيرة العربية (بحر العرب وخليج عمان)، وهذا الأمر لن يتحقق إلا بوجود دولةٍ مطلةٍ على الساحل الشرقي من شبه الجزيرة العربية وتابعةٍ في قراراتها السياسية للسعودية، لذا عملت السعودية جاهدة على إيجاد هذا العمق الاستراتيجي في اليمن من خلال الانحياز لأحد أطراف الصراع تارةً، وتارةً أخرى عن طريق لعب دور الوسيط مثلما حصل بعد اندلاع الثورة حيث أطلقت مبادرة عبر مجلس التعاون الخليجي واستدعت أطراف الأزمة السياسية في اليمن، كما تواصلت مع مراكز القوة التي تشكل بالأساس الأذرع السعودية في اليمن لضمان الإبقاء على نفوذها السياسي هناك، إلا أن هذه الرغبة لم تتحصل بعد – على الرغم من وجود رئيسٍ  موالٍ للسعودية – بسبب عدم استقرار الحالة السياسية في اليمن السعيد. وقد عملت إيران هي الأخرى على تقويض الامتداد السعودي داخل اليمن من خلال دعم الجماعات المسلحة في اليمن ؛مثلما صرح الرئيس عبد ربه منصور لصحيفة الحياة السعودية.

يبدو أن السعودية قررت إيجاد أكثر من منفذٍ نحو الساحل الشرقي من خلال التركيز على علاقتها مع الإمارات راكنةً على الرف – مؤقتاً – ملفي حقل الشيبة وخور العيديد الحدوديين، وذلك للموقع الجيوسياسي الذي تمتاز به الإمارات، حيث أنها تطل على كل من خليج عمان والخليج العربي، وبذا تشكل أهميتها الاستراتيجية للسعودية درعًا أمام الزحف الإيراني القادم من الشمال خصوصًا بعد أن أحكمت قبضتها الأمنية على البحرين من خلال تدخلٍ عسكريٍ للقوات السعودية والإماراتية فيها.

خلال الأعوام الماضية لعبت عمان دور الوسيط الخفي بين إيران والدول الغربية، حيث احتضنت العاصمة مسقط مفاوضاتٍ سريةٍ بين إيران وبعض الدول الغربية، والتي أسفرت عن تخفيف حدة الخلاف القائم بين هذه الدول وإظهار حسن نوايا متبادلة من خلال الإفراج عن محتجزين في كلٍّ من إيران وأمريكا، وعند ظهور الدور العُماني إلى العلن أبرزت الإمارات والسعودية – والبحرين تبعاً – غضباً عارماً تجاه السياسة العُمانية، خصوصًا بعد رفضها القاطع الدخول تحت عباءة السعودية في أي تحالفٍ يُفقد عمان استقلالية القرار السياسي الخارجي فيها. بعد كل هذا الغضب شاهدنا “هرولة إماراتية” نحو إيران التي اتهمتها الأولى باحتلال أراضيها، والتي رأت فيها تهديدًا لأمن الخليج.

هذا الانقلاب في المواقف السياسية حدث في فترةٍ وجيزة، وتحولت إيران إلى “شريكٍ استراتيجيٍ لدولة الإمارات، ولا يقتصر الأمر على التجارة والعلاقات الاقتصادية فحسب رغم أهميتها بل يعود إلى روابطٍ ثقافيةٍ وحضاريةٍ مشتركة” مثلما صرح وزير خارجيتها عبدالله بن زايد (المصدر)تبعت هذه الهرولة الإماراتية تصريحات سعودية عن إمكانية قيام أرضية حوارٍ مشتركةٍ بين السعودية وإيران لتسوية الخلافات القائمة، أهمها ملف أمن الخليج والصراع السوري.

يبدو جليًا أن الإمارات تطرح نفسها بديلاً عن عمان للسعودية؛ لإقامة علاقاتٍ سعوديةٍ إيرانية، الأمر الذي يعطي السعودية مرونةً أكثر في مفاوضاتها، وخط رجعةٍ واضحٍ في حال عدلت عن المفاوضات. السؤال المهم هو؛ هل هنالك مصالحٌ استراتيجية لدى الإمارات للدخول في تحالف سيادي مع دولة كبيرة في مواردها وفي ثقلها العربي والعالمي دون التأثير على استقلالية القرار الإماراتي؟ إذا كانت المصالح القائمة بين الإمارات والسعودية هي في مواجهة ملف الإسلام السياسي عمومًا والأخوان خصوصًا، فإن هذه المصالح مرحليةٌ وليست عميقة، وستنتهي بانتهاء هذه الأزمة. من المهم أيضًا عدم تجاوز حقيقة أن الخلاف القطري الإماراتي هو خلاف مؤقت يتم تصعيده إعلاميًا من قبل الطرفين، حيث أن العمق الاستراتيجي بين قطر والإمارات على المدى البعيد أشد متانةً وقوةً من الخلاف الحالي القائم. لا ننسى أيضا أن كلا الدولتين كانتا جزءاً من عُمان التاريخية الممتدة من حضرموت إلى قطر، وبذا فهم أيضًا شركاءٌ في التاريخ مثلما هم شركاءٌ في المستقبل. المصالح بعيدة الأمد لعُمان والإمارات وقطر تقتضي وجود تكاملٍ سياسيٍ واقتصاديٍ واجتماعيٍ بين هذه الدول لتشكيل هلالٍ خليجيٍ نابعٍ من ثبات الحقيقة التاريخية بانتمائهم السابق إلى كيانٍ واحد، أقصد عُمان التاريخية. هذا الهلال الخليجي سيعيد توازن القوى إلى المنطقة، حيث سيكون أقوى من أي كيانٍ منفردٍ مستعدٍ لالتهام الكيانات السياسية المجاورة، حيث أن أنظمة الحكم في هذه الدول الثلاث أكثر استقرارًا من غيرها من دول الخليج. كما أن الحدود الجغرافية لهذه الدول تكسبها أهميةً سياسيةً واقتصاديةً من حيث انفتاحها على المحيط وبالتالي دول الشرق وتركيز سيطرتها على الخليج العربي وموارده. هذه الأهمية الجيوسياسية هي التي أكسبت عُمان التاريخية يومًا قوتها، وهي التي مكنتها من إنشاء امبراطوريتها الشرق-أفريقية ولذا فإن عدم استغلال هذه الأهمية والتحول إلى كياناتٍ سياسيةٍ آنية يضيع الفرص التاريخية التي يجب على القيادات الحالية لهذه الدول الثلاث استغلالها من أجل مستقبل أبنائها.

إن الإمارات تغامر بمستقبلها وسيادتها واستقلالية قراراتها السياسية الخارجية عند دخولها في تحالفٍ من هذا النوع مع السعودية في الوقت الذي يتراشق فيه إعلامها مع إعلام شقيقتها قطر والتي تتحمل هي أيضًا جزءاَ من المسؤولية. إن جميع المؤشرات السياسية الحالية تفيد إلى ضرورة إنهاء الخلاف القائم بين الإمارات وقطر وإعادة ترتيب القوى من خلال وجود تكاملٍ عمانيٍ قطريٍ إماراتيٍ يعيد توازن القوى إلى المنطقة، ويطرح بديلاً قوياً بإمكانه أن ينطلق بالمنطقة إلى آفاقٍ أرحب. على الإماراتيين والقطريين إعادة حساباتهم فيما يتعلق بالخلافات القائمة، وعلى عُمان أن تتحمل مسؤوليتها التاريخية تجاه إنهاء هذا الخلاف بين دولٍ كانت في يوم من الأيام جزءاً من كيانها السياسي والتاريخي.

التاسع والأربعون سياسة

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية