المجتمع العماني.. وجدلية الثابت والمتغير

كتب بواسطة نبال خماش

التجربة المعرفية العمانية، واحدة من هذه الاستثناءات وأبرزها، وهي تجربة لها تميزها وفرادتها على نحو واضح، والتي لم تسلط الأضواء عليها أو تعالج المعالجة التي تستحقها، على نحو مؤسسي وفردي، سوى هذه الجهود النشطة التي أخذت تبرز في العقد الأخير. وإحدى مزايا وخصائص هذه الثقافة أنها لا تصدر إطلاقا عن دعوة للتقليد، وتحفيز له، ودعوة إلى التمسك به، بل نجد العكس من ذلك تماما، فجوهر هذه الثقافة يدعو ويلح في دعوته على التنوع والتعدد والتجديد، بل إن عددا من القواعد الفقهية العمانية، ومن خلال مصادرها المعتبرة أنكرت التقليد

عميقة ومتشعبة هي التحولات بمجالاتها الدينية / الدنيوية التي تحققت بفضل انتصار الدعوة الإسلامية وانتشارها على نحو سريع في كافة أنحاء جزيرة العرب. ويأتي في  مقدمة هذه النتائج وأبرزها على الإطلاق، هذا التحول الحضاري على الصعيد المجتمعي للمكون السكاني على أرض جزيرة العرب، إذ تمكنت خاتم الرسالات والديانات السماوية من تحقيق معجزة حقيقية في هذا المجال، من خلال إسباغ صفة أمة على الكيانات القبلية المتنازعة المتناحرة، الملتزمة بالنمط  العصبوي والقبلي، وخلال فترة وجيزة تمكنت هذه الأمة الناشئة من تأسيس واحدة من أعظم الإمبراطوريات والحضارات التي سادت العالم، فكانت لها تأثيراتها العميقة على مستوى الإنسانية  جمعاء.

    وما لبثت القواعد والأسس الأصيلة التي أحدثت هذا التغيير المدهش، أن جرى عليها الكثير من التعديل والتبديل، الاستبعاد لقيم ومثُل رفيعة ومتقدمة، وإحلال قيم مغايرة، وجرى تقديم وتعميم هذا البديل المصطنع باعتباره الفهم الصحيح والوحيد للرسالة السماوية السمحاء، وكان الدافع الأكبر لعملية حذف المقصود الإسلامي الأولي عن مساره الحقيقي، سياسي بالدرجة الأولى. وبناء على ذلك جرى تعميم نمط وأسلوب جديدين في التفكير، من خلال استخدام  أساليب وأدوات معرفية جديدة ومغايرة على نحو ممنهج ومدروس.

    من جملة هذه التعميمات والاستبدالات الطارئة على معاني ومقاصد الدين الحقيقية، أنه جرى تعميم ثقافة الاتباع والتأكيد على الالتزام بالتقليد، ومحاربة أي جهد أو نزعة عقلية تسعى لتقديم رؤى وتصورات جديدة مغايرة لما تم اشاعته وتعميمه باعتباره النهج الصحيح والطريق القويم، وكل الذي يخالفه إنما هو زيغ وضلال.

   مجمل الموروث الإسلامي على الصعيد التاريخي اتسم بهذه المضامين الكبرى لهذا التوجه الفكري المفتعل، إلا أن استثناءات قليلة برزت في مرحلة تاريخية مبكرة رافضة هذا التحول وهذه الإزاحة المعرفية عن المنهج والمقصد الإسلامي الحقيقي، نجد مثل هذه الاستثناءات بارزة على نحو راسخ هنا وهناك على امتداد خارطة العالم الاسلامي،  لتحقق أحيانا انتصارات معرفية، وفي فترات أخرى تصاب بانتكاسات وتراجع،  إلا أن تأثير هذه المدارس الفقهية والفكرية بقي ماثلا وحاضرا إلى اليوم.

   التجربة المعرفية العمانية، واحدة من هذه الاستثناءات وأبرزها، وهي تجربة لها تميزها وفرادتها على نحو واضح، والتي لم تسلط الأضواء عليها أو تعالج المعالجة التي تستحقها، على نحو مؤسسي وفردي، سوى هذه الجهود النشطة  التي أخذت تبرز في العقد الأخير.  وإحدى مزايا وخصائص هذه الثقافة أنها لا تصدر إطلاقا عن دعوة للتقليد، وتحفيز له، ودعوة إلى التمسك به، بل نجد العكس من ذلك تماما، فجوهر هذه الثقافة يدعو ويلح في دعوته على التنوع والتعدد والتجديد، بل إن عددا من القواعد الفقهية العمانية، ومن خلال مصادرها المعتبرة أنكرت التقليد، ونجد مؤسسي المنظومة القانونية والفقهية العمانية عندما نسترجع آثارهم ومنجزهم المعرفي الموسوعي، ونقرأ آثارهم الفكرية هذه الأيام، نجد مدى الحرص والجهد الذي بذلوه في سبيل وضع  أطر ومحددات معرفية تتعامل مع التقليد باعتباره مسألة منهي عنها بالبعدين الشرعي والعقلي كما سنرى لاحقا.

   كانت هذه المدرسة، وعلى نحو مدرك وواع تسعى إلى بلوغ الحقيقة ما أمكنها، وهذه مسألة تستدعي بالضرورة استحضارا للعقل وإعمالا له، ولاكتشاف المزيد والمزيد من الحقائق في كافة المجالات. وكان المحرك والمحفزالفكري لهذا الاجتهاد المتقدم مبني بالأساس على بديهة تتوافق وتنسجم مع الناموس الكوني، فالاكتشاف والخروج بنتائج لقضايا ونوازل حديثة، مسألة تقتضي بالضرورة إعادة نظر، وإمعان في التفكير، واستخدام أدوات ذهنية مبتكرة ومتطورة غير تلك التي استخدمها السابقون أو التي يحاكيها المقلدون. فالسلف قدموا حلولا واكتشافات لمسائل صحيحة ومناسبة، ولكن لعصرهم وزمانهم، غير أن حركة الزمن ماضية الى الأمام دونما توقف، وقضايا الإنسان ومشاكله تزداد تعقيدا جيلا إثر جيل، وهذا يستدعي إقرارا لحقيقة أن المشاكل الجديدة تتطلب بالضرورة حلولا جديدة.

   الفقيه أبو سعيد الكدمي، الذي يعد من أجلّة العلم البارزين والمعتمدين في المذهب الإباضي، اعتبر التقليد في إحدى مواطن السؤال الفقهي، من القضايا والمسائل ” المهلكة”، وأضاف في موقع آخر باعتباره :” في الدين حرام محجور.” وأن: ” الله تبارك وتعالى أمرهم أن يتبعوا ما أنزل اليهم من ربهم ولا يتبعون من دونه أولياء”.

    واستعاذ العالم، أحمد بن عبد الله الكندي في مستهل كتابه ” المصنّف” من ” غلبة الأهواء… وتقليد الآباء”. وفي القضاء حيث الحكم بين الناس بالعدل والإنصاف، اعتبر العالم محمد بن ابرهيم الكندي في موسوعته الفقهية والأخلاقية “بيان الشرع”، أن من أسس ومرتكزات قواعد التفكير كي يصل القاضي وهو ينظر في قضايا الناس وخلافاتهم، الى حكم عادل، أوصى القاضي أن:” يُغمض فكره في أعقاب السالفين”. ورغم دقة هذه العبارة، الا أن آفاقها ومعانيها رحبة بلا حدود، أبسط معانيها ودلالاتها أن اسقاط منهج  الاستنساخ في الأحكام اعتمادا على  حلول وأحكام  سابقة، حتى وإن كان بعض هذه الوقائع أو جلها متشابهة، من الأخطاء ومواطن الزلل االتي يفترض على القاضي تجنبها، فالزمان غير الزمان، والثقافات غير الثقافات.

   واليوم.. فإن المجتمعات العربية بمجملها، ومن بينها المجتمع العماني، يتجاذبها تياران كبيران: تيار يبدع ويدعو إلى التحديث والتجديد  انطلاقا من القواعد والثوابت الأصيلة  المثبتة بصحتها ويقينيتها،  وتيار يدعو إلى الاتباع والتقليد في كل شأن من شؤون الحياة استنادا الى حزمة من التنظيرات البشرية التي تحتمل الصواب والخطأ، ولسان حال هذا التيار يردد مقولة: “ليس بالإمكان أحسن مما كان”، علما بأن هذا التيار  من الناحية العملية يجني ثمار التحديث والتجديد على نحو مباشر وعملي  في كافة مجالات وأوجه نشاطاته الحياتية، ولا يملك الجرأة في الإفصاح عن تخليه واستغنائه عن هذه التجديدات أو حتى عن بعض هذه الآثار، ليدخله هذا الموقف المتعارض  في حرج معرفي وسلوكي لم يستطع الى اليوم الفكاك منه، أو تقديم تبرير قادر على الصمود أمام أي حجاج منطقي.  فهو من الناحية العملية غارق إلى أذنيه بالنتائج الكبرى للحداثة والتجديد، وهو من الناحية النظرية يرفض وبضراوة الاعتراف بفوائد التجديد ونعمائه.

   

   إلا أن الميزة الكبرى التي يمتاز بها المجتمع العماني، أنه يحوز قاعدة معرفية صلبة، ومؤسسة على نحو راسخ ومنذ مدى زمني بعيد، تدعوه أبدا الى التجدد وتحفز عليه، وبذلك تتحقق له أفضلية الانسجام والتناغم بين الرغبة المعاصرة في الذهاب بذواتنا على نحو تدريجي وواثق في مجالات التفكير والتوقع، والتخلي عن منهجية الارتجال. هذا  الإرث المعرفي يهيؤه تماما وقادر على تحفيزه أبدا لاستكشاف آيات الله ونواميسه التي لا تنقضي ولا تحدها حدود وفي كافة المجالات، المادية والمعنوية.

 وصدق العظيم القدير حيث يقول:” وإذا قيل لهم تعالوا الى ما أنزل الله والرسول قالوا حسبنا ما وجدنا عليه آباءنا”.

 

 

الخمسون ثقافة وفكر

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني