القراءة بين الحراك والجمود

وهذه المعرفة تنطبق أيضاً على قراءة الأفكار الخطيرة، والكتب الخطيرة كما ينظر إليها البعض، بيد أن المبتديء حينما يقرأ ما يحسبه البعض خطيراً من الأفكار والكتب، يوجه ويناقش ويحاور فيما قرأ، لا لفرض الآراء عليه، ولكن ليستوعب الموضوع بأكمله، ولتوضيح الرؤى له، والأخذ بيده إلى القراءة الجادة الواعية، وحينها سيتكون لديه عبر الوعي القرائي جهاز مناعة لمعرفة الأفكار الصحيحة من الخاطئة، وهذا الجهاز المناعي لا يتكون إلا حينما يكثر القاريء من القراءة الواعية، لثقافة مجتمعه ودينه ولثقافة الآخرين

O-064-0102

القراءة بين الحراك والجمود


أحمد بن مبارك النوفلي


لا ينكر ولا يستنكر أحد ما للقراءة من تطلعات عظيمة في إحداث تحولات تقدمية جوهرية للأمم والأفراد، ومن ثمة فهي ظاهرة إيجابية نحو الارتقاء الثقافي والحضاري والإنساني، ارتقاء على المستويين: الفردي والجمعي، وعلى الصعيدين: الروحي والعمراني، وأصبحت القراءة ضرورية للأمم والمجتمعات والأشخاص، لا لكونها تملئ الفراغ فحسب، بل لأنها المقياس الذي تقاس به العقليات والحضارات، ومن هنا جاء القول المأثور عن الفيلسوف الإغريقي سقراط: “إذا أردت أن أحكم على إنسان، فإني أسأله كم كتاباً قرأت؟ وماذا قرأت؟”، وفي الحقيقة القراءة تختزل في ذاتها وتأثيراتها شخصية المرء وحينها يروم معرفة ذاته ومعرفة الآخرين.

والمعرفة اليوم متجددة ترصد أنواع الرؤى العالمية عبر الوسائل والإمكانات المتاحة في العصر الحديث، وتشكل في الوقت ذاته حراكاً ثقافياً عالمياً، لا تعرف التوقف ولا الهون، ومن لم يرم مجاراة الواقع والوقائع المحدثة الجديدة فسيقع ضحية الإخفاق والمسالك المسدودة وبؤرة الجهل والتخلف، حينها سيصاب بداء شيخوخة الفكر والمعرفة، وهو لا شك داء خطير، لكونه يؤدي إلى تقادم الثقافة، وتزمت الفكر، وكلاسيكية المنهج، ولله درّ المفكر العماني زكريا المحرمي حينما قال: ” كل أمة اتجهت نحو الصعود الحضاري انطلقت من وعي أن الجمود المعرفي يؤدي إلى التقادم والتزمت تلك الأمم شعارها (تجدد معرفياً أو تبدد)”، ويلحظ أن بعض التقديرات تفيد أن نحواً من 90% من جميع المعارف العلمية قد تم استحداثه في العقود الثلاثة الأخيرة، وسوف تتضاعف هذه المعارف خلال (12) سنة، ويفيد بعض الباحثين أن على المتخصص المعاصر أن يضع في حسبانه دائماً أن نحواً من 10 – 20% من المعلومات التي في حوزته قد شاخ، وعليه أن يجدده، وهذا لا ينطبق على المعلومات العامة فحسب، بل يشمل المنظومة الثقافية كلياً في جميع أنواع المعرفة التراثية والحديثة، سواء تمثلت هذه الثقافة والمعرفة في المعلومات الفقهية أو العقائدية أو اللغوية أو الفلسفية أو التاريخية أو الجغرافية أو الطبية أو الإعلامية… وهلم جرى، ويرى بعض الباحثين أن أعراض الشيخوخة تعتري المعلومات بنسبة 10% في اليوم بالنسبة للجرائد، و10% في الشهر بالنسبة للمجلات و10% في السنة بالنسبة للكتب.

ومن الملاحظ أن ظاهرة التآكل الفكري تقع على الذين لا يقرؤون أو الذين لا يستحدثون قراءتهم، فتجديد الفكر والثقافة لا يكون بلعبة الشطرنج ولا بحفظ المتون والأقوال، بل بقراءة واعية متجددة لكل جديد، ومن المعلوم أن الأفكار تولد الأفكار، وتخرج بأفكار جديدة واعية، تحمل في مضامينها المناهج التحليلية الموضوعية، والتصورات الواقعية للأحداث المستجدة، والقراءات النقدية التنموية، والاختيارات الممكنة المتوائمة لحل أزمات الأمة بجهود دراسات جادة نظرية وتطبيقية، فكم الأمة بحاجة إلى تجديد الفكر والثقافة والمعلومة، وبالتالي تتجدد لديها المناهج والمخرجات، ولا ريب أن أصحاب الأيديولوجيات المتصلبة لن يتحملوا هذه القراءات والدراسات الجديدة والجادة لأحل أزمات الأمة، وثمة هناك أسباب واقعية هواجسية تعشش في فكر الراديكاليين لتقف حجر عثرة بينهم وبين القراءة الواعية المتجددة، فيلبثون في كهفهم إلى يبعثون، ومنها:

1- إلقاء وصايا على الأفكار والقراءة، ففي خضم تضخم التدفق القوي المعرفي والثقافي قد يكون البعض يعيش حيرة فكرية في اختيار الكتاب المناسب لقراءته، مما يلجئه إلى استشارة شخص ما، في ماذا يقرأ، ولمن يقرأ، والمستشار بدافع حسن النية والقصد يريد أن يقدم لمستشيريه النافع من الأفكار والعلوم والثقافات، فلا يريد البعض من قرائه ومستشيريه قراءة الأفكار المتعفنة التي أكل عليها الدهر، كما لا يريد بعضهم من قرائه قراءة الأفكار المضللة والمبعدة عن الصواب، وكل له وجهة نظر في الوصية على الأفكار والقراءة، ولكن بكل تأكيد تجاوزت الإنسانية النظرة الضيقة التي تفرض وصايا القمع والمنع والأحادية الفكرية لترسم مني ومنك شخصية تقليدية لفكرها، لكونها ترى أنها على الحق الذي لا شك فيه، وغيرها على الباطل، وهذه النظرة هي التي ستؤدي بالأمة إلى الجمود والتخلف، فكرياً وثقافياً وعملياً كما هو الواقع الآن.

والواقف على النص الإلهي يرى أنه أعطى الإنسان الحرية المطلقة في القراءة، ففي قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق: 1-5، تدرك حرية القراءة والتفكير إلى أبعد الحدود في الفضاءات الثوابتية والمعطيات المتغيّرة، لا قراءة السطور فحسب، بل قراءة ما هو مسطور وما وراء السطور، وما بين تلك السطور، إضافة إلى قراءة الكتاب المنظور، وذلك ليسلك بالعقل البشري إلى إدراك الحقيقة والتطلعات الفكرية والثقافية الحرة، ليمارس الإنسان إنسانيته وفق القوى والمعطيات الكونية التي تعتري كل زمن، ليوجه مداركه وقواه الفكرية والروحية والجسدية قُبالة استشرافات عامة للمستقبل المنظور، لا لتصوير ثابت جامد للمستقبل المنشود، بل بعمق النظر والحراك الفكري لقضايا وتطورات الوقائع والمستجدات.

ومن هنا تلحظ أن النص القرآني لم يمارس الوصايا الفكرية ولا القرائية، بل أطلق الأمر الرباني للإنسانية أن تقرأ ما تشاء، والمنع تحكم، والتحكم بحاجة إلى دليل، ولا دليل في النص، بل حينما طرح النص كتب أهل الكتاب في سطوره اليقينية نوه إلى ما وقع فيها من تحريف، بيد أنه لم يمنع من قراءتها، وإنما أعطى النص القرآني حكمه فيها، وأطلق للقاريء حرية النظر والبحث والقراءة لمعرفة هذه الحقيقة وغيرها من حقائق الوجود.

وحرية القراءة والثقافة تؤسس في المجتمع روح الإبداع وقوة الإنتاج، وبلورة المفاهيم، واستحداث الجديد، وتبني أفكاراً نحو التقدم والتطور لمعايشة الواقع والمستقبل، بينما يلحظ أن جميع أشكال الوصاية والحجر الفكري، على جميع الأصعدة الثقافية الروحية والعمرانية، إن هي إلا نوع من الخناق المعرفي والحصار الفكري، والأدهى والأمر حينما يُعطى المرء وصية المنع من قراءة كتاب ما، وهو ما لم يعرفه الفكر العماني على مر التاريخ، ومن هنا ترى بعض الكتّاب سواء من العمانيين أو من غيرهم مَن انتقد ظاهرة القمع الفكري والحجر الذهني على القراء، فمحمد بن شامس البطاشي في كتابه “الكشف عن الإصابة في اختلاف الصحابة” وهو ممن يمثل فكر المدرسة الإباضية، تلحظه يهتف ويعيب وينتقد من أفتى بحرق كتب المدرسة الإباضية لكونها في نظر صاحب الفتوى أنها على باطل، فكذلك باقي المدارس تنظر إلى بعضها البعض، فالنظرة هنا لا ينبغي لها أن تتجاوز هذا الحكم الدوغمائي إلى منع وقمع الأفكار وحرق وتمزيق كتب باقي المدارس والأيدلوجيات، والمنع تارة يأتي من قوة استغلال المناصب والسلطات وهو استغلال في غير محله، نابع من رؤية وممارسة موغلة في التراكيب الانتهازية والاستبدادية العضوضية، والذي ينبغي التأكيد عليه وتثقيف المجتمعات به هو أن حرية القراءة والرأي والفكر والفكرة لا يملكها أحد سوى القاريء فهو من يحدد لمن يقرأ؟ وماذا يقرأ؟ ومتي يقرأ؟ وكيف يقرأ؟ ولماذا يقرأ؟، وماذا يقبل ويرفض ويصحح ويصيغ.

قد يطرح البعض سؤالاً متعجباً، أأجعل المبتديء يقرأ ما يشاء من الكتب، وهذا يعني أنه سيقع في أفكار خطيرة، قد تمس معتقده، وتؤثر على سلوكه؟!.

ومن الواضح أنه سؤال وجيه يصدر من الذين لا يعرفون كيف يقرؤون، أو من الذين يعيشون حياة اغتراب أو قطيعة مع المصلحة العامة للإنسانية، بل مع الواقع ككل، ولذا حينما سئل فولتير عمن الذي سيقود الجنس البشري أجاب: “الذين يعرفون كيف يقرؤون”، فالقراءة ليست صنماً يعبد، ولا هي غاية في ذاتها، ولكنها حراك وتفاعل وتأثير مع عقل ومشاعر القاريء، وإذا لم تهزهز القراءة الفكر، وتدغدغ العواطف، وتكشف الزيف، وتبني الصروح، وتؤسس المعالم، فهي إذن كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئاً، والخطاب القرآني حينما نزل وسمعه الذين عايشوا لحظة النزول، أصيبوا بالارتجاج والهزهزة والتعجب والتأثر العاطفي والذهني، مما قاد البعض إلى التسليم والإيمان به اقتناعاً، والبعض لم يؤمن به مكابرة وجهلاً وعناداً، والشاهد أنه أحدث ضجة كبيرة في الفكر على الصعيدين الفردي والجمعي لأولئك القوم آنذاك، وما زالت نصوصه تحدث التغيرات والتحولات في الأفكار والعواطف، من هنا فالكتاب الذي يستحق القراءة هو الكتاب الذي يخلق تغييراً في الإنسان والكون، ويبدل الأرض غير الأرض، والفكر غير الفكر، فليس كل كتاب يستحق أن يسمى كتاباً، كتب كافكا عام 1904م إلى صديقه أوسكار بولاك “على المرء ألا يقرأ إلا تلك الكتب التي تعضّه وتخزه، إذا كان الكتاب الذي نقرأه لا يوقظنا بخبطة على جماجمنا فلماذا نقرأ الكتاب إذن؟… على الكتاب أن يكون كالفأس التي تهشم البحر المتجمد في داخلنا”، والواضح أنه مخطيء من يمارس دكتاتورية المنع والقمع للمبتديء وغير المبتديء، فالقاريء الواعي والمستشار ينبغي منه ترك حرية القراءة للقاريء، فالذين يخشون من الأفكار الخطيرة، سيقعون في السلوك الخطر، وفي المثل المعروف (كل ممنوع مرغوب)، ولذا قال الشاعر:

عرفت الشر لا للشر ولكن لتوقيه ومن لا يعرف الشر من الناس وقع فيه.

وهذه المعرفة تنطبق أيضاً على قراءة الأفكار الخطيرة، والكتب الخطيرة كما ينظر إليها البعض، بيد أن المبتديء حينما يقرأ ما يحسبه البعض خطيراً من الأفكار والكتب، يوجه ويناقش ويحاور فيما قرأ، لا لفرض الآراء عليه، ولكن ليستوعب الموضوع بأكمله، ولتوضيح الرؤى له، والأخذ بيده إلى القراءة الجادة الواعية، وحينها سيتكون لديه عبر الوعي القرائي جهاز مناعة لمعرفة الأفكار الصحيحة من الخاطئة، وهذا الجهاز المناعي لا يتكون إلا حينما يكثر القاريء من القراءة الواعية، لثقافة مجتمعه ودينه ولثقافة الآخرين، وأنى له أن يعرف الصواب إذا لم يعرف الخطأ؟! وأنى له أن يعرف الحق إذا لم يعرف الباطل؟!، يقول آلبرتو مانغويل: “عندما كنت في الثانية عشرة أو الثالثة عشرة من عمري، كنت مستغرقاً وأنا جالس على أحد الكراسي الوثيرة، في قراءة الآثار الوخيمة التي يخلّفها مرض السيلان، وإذا بوالدي يدخل الغرفة بصورة مفاجئة ويجلس إلى طاولة الكتابة، ومن شدة الدهشة والرعب أحسست وكأنني قد أُصبتُ بالشلل لفترة وجيزة نظراً لأنني ظننت أنه سيلاحظ ما كنت أقرأه، إلا أنني سرعان ما أدركت بأنه لا يوجد أحد، ولا حتى والدي الذي كان يجلس على مبعدة خطوات قليلة مني، كان يستطيع التوغل في عالم قراءتي، أو قراءة البذاءات التي كانت الكتب تزفها إلي أحياناً وكيف أن الاطلاع على هذه الشؤون يعتبر من الأمور الخاصة بي وحدي فقط. حدثت هذه الأعجوبة الصغيرة في هدوء وصمت مطبقين، الأعجوبة التي كانت ملك يدي، وهكذا قرأت المقال عن أخطار السيلان حتى نهايته بشعور من الزهو والخيلاء لا بوضع المصدوم”.

فممارسة الوصايا الفكرية والقرائية تعني الهون والغطرسة الفكرية، وتنتج أفراداً ومجتمعات منكمشة الثقافة والفكر، وعاجزة الفعل والحراك والإنتاج والإبداع، وفي الحقيقة أن القاريء الموصى والمنكمش في قراءة أثرية بحتة لا يعيش الواقع ولا الوجود الفعلي لشخصه، بل أفكاره وقراءته بمثابة نقود سحبت من الأسواق، ولم تعد صالحة للتعامل، ومن هذه القراءة الكلاسيكية صدرت بعض الفتاوى والآراء من قبل بعض المدارس والأيديولوجيات لا يسلم بها المجتمع ولا تستسيغها الحضارة، ومن ثمة النتيجة لا تطبيق ولا ممارسة لها على الواقع المعاش لا لكون الزمن تجاوزها فحسب، وإنما لكون أصحاب هذه القراءات الوصائية يعيشون خارج دائرة الفلسفة النقدية الموضوعية للذات وللأصالة والمعاصرة، فالممارسة للعملية الاجتهادية والفقهية من المنظور التراثي القديم دون مراجعة له ولا قراءة للواقع، هي ممارسة لا تقرها النصوص الثابتة ولا قراءات عقول الرجالات الإصلاحية عبر التاريخ.

2- الدفاع عن التراث، فالأثريون ينظرون إلى الفكر التراثي على أنه الفكر الأقوى والأنجع في العملية الإصلاحية، ويتخذون منه أحكاماً مسبقة، أو منهجاً كلياً، لا يقبل النقد ولا التصحيح، ومن هذه القراءة فالأثريون يريدون مخرجات فكرية تراثية كلاسيكية، في زمن الحداثة وما بعد الحداثة، ولذا فهم لا يقرؤون الجديد، ومن قرأ منهم الجديد فقد يجعل بينه وبين الفكر الجديد فجوة عميقة، بحكم مسبق، أو باتخاذ من قراءته المسبقة ثوابت لا تقبل التغيير، وهذه القراءة منطلقة من عاطفة التقديس في زمن لا يسير المرء فيه إلا مداحاً، أو من اللجوء إلى الماضي الزاهر الذي يرى فيه المتنفس عن الواقع المأساوي المضني الصعب، وهي قراءة ضيقة تبقي صاحبها على الجمود والتخلف، وتعرضه لخطر التضاؤل والعزلة أو الركون في زاوية بعيدة عن الواقع، يقول بكار: “إن القاريء الجيد يتمتع بقابلية جيدة لاستيعاب الجديد ويمتلك بنية عقلية متفتحة، تقبل التحوير، وتستفيد من المراجعة”.

لا ريب أن التراث هو نقطة بداية الانطلاق، ومن لا تراث له لا حضارة له، والذي ينبغي من القراء والمثقفين إعطاء التراث شرعية معرفية وظيفية لقراءة الحداثة، لكونه ممتداً في الوعي الإسلامي والعربي وحاضراً بقوة في جميع أشكاله وأطيافه، بيد أنه ليس متحفاً للأفكار الأثرية، للتعامل بها مع الأفراد والأمم، وهو ليس وجوداً مستقلاً عن الواقع، بل ينظر إليه بنظرة الواقع المعاش، فما صلح منه لهذا الزمن أخذ وقبل، وما لا يصلح رفض ورد، أو أعيدت صياغته من جديد، والقاريء الجيد هو من يتخذ من النص القرآني والسنة النبوية والسنن الكونية ثوابت لا تقبل التغيير، وفيها يعمل العقل، فمن أهم المقاييس المعرفية، بين التقدم والتخلف، وبين الحقيقة والشك، المنهج، فإن كان القاريء المثقف ينطلق من منهج صارم في التعامل مع القضايا والمستجدات بمنظار يستطيع التفريق فيه بين ما هو قطعي وما هو ظني، وبين ما هو حقيقة وما هو خيال ووهم، وبين الموضوعي والذاتي، حينها تعرف أنه رجل يحمل ثقافة ومعرفة وعلماً وقصداً نزيهاً ورفيعاً نحو التغيير والإصلاح، والأوائل من الأسلاف أعملوا عقولهم في فهم النص والسنة والكون، فقرءوا كل ذلك بالعقل المحلل للماضي والمستوعب للواقع والمستعد للمستقبل، فكانوا عظماء، أما اليوم فالنظرة أصبحت قاصرة، ولا ترى إلا بما رآها الأسلاف، وهي نظرة آبائية يرفضها النص القرآني،(بَلْ قَالُوا إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُهْتَدُونَ) الزخرف:22.

وعلى كل حال، فمجتمعاتنا بحاجة إلى قراءة مكثفة في جميع فنون العلم والثقافة، وهذه الدعوة لا يقصد بها العوام فحسب، كما يسميهم البعض، بل تتجه بداية إلى الشريحة الأكاديمية والنخبة، كما يسميهم البعض، وهي التي بحاجة إلى أن تقرأ قراءة واعية متجددة، فهناك من الشريحة الأكاديمية والنخبة التي لا تقرأ إلا لوظيفة فحسب، ولذا يقول العقاد: “إن القراءة لم تزل عندنا سخرة يساق إليها الأكثرون طلباً لوظيفة أو منفعة ولم تزل عند أمم الحضارة حركة نفسية كحركة العضو الذي لا يطيق الجمود”، فمن لا يقرأ لن يرقى، ومن قرأ الموروث فقط وترك الجديد، فسيبقى في كهفه إلى يوم البعث، ولا يقصد بالجديد، كما يفعل البعض، جديد الطبعة الملونة والمزخرفة، والتي تحمل بين طياتها آراء وأقوال لا تروم مجارة الواقع، فكم من آراء ووجهات نظر هي بحاجة إلى إعادة صياغة وتجديد، لا تجديد المظاهر، بل تجديد المضامين والجواهر، ومن يقرأ الجديد والحديث ويترك التراث فسيقع في مزالق الليبرالية المسرفة، والجمع بين القراءتين بوعي وتعقل وتفعيل تنتج تواصلاً بين الأصالة والمعاصرة، وإبداعاً وتأسيساً لحياة الحاضر والمستقبل.

ومن المهم في هذه العجالة الوقوف مع المعنى الاصطلاحي للقراءة، لكي لا يفهم ما ذكر فهماً خاطئاً، فالقراءة تأتي بمعاني كثيرة وعديدة، وأفضل منهل تنهل منه المعارف والمعاني هو النص القرآني، الذي يقول الله عنه: (لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ) فصلت:42، فحينما يقف الإنسان مع النص القرآني يجد المعنى الحقيقي للقراءة والذي يتسق مع الفطرة البشرية والنواميس الكونية، فالله تعالى يقول: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) العلق: 1-5، ما يفهم من هذه الآيات الخمس أن القراءة تعني، قراءة الخلق أولاً، وقراءة المسطور ثانياً، بمعنى قراءة الكتاب الكوني، وقراءة كل ما سطر وكتب، ويفهم من ذلك إعمال العقل، فالقراءة في الحقيقة هي إعمال العقل في المقروء.

فقراءة الكون تؤخذ من قوله تعالى: (اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ)، وقراءة المسطور تؤخذ من قوله تعالى: (وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ)، وبهاتين القراءتين يتحقق للإنسان العلم والمعرفة والثقافة، (عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ)، ومن الواضح أن الخطاب القرآني يحرض البشرية إلى إعمال عقلها في فهم الكتابين المسطور والمنظور، وهما الأساس لقياس باقي الأشياء عليها لمعرفة صحتها من خطئها، وحقها من باطلها، وخيرها من شرها، ومن هنا فالمرء حينما يقرأ لا يمنع من قراءة شيء، ولكن ليكن الكتابان هما مرجعه لفهم الحياة وملابساتها.

ومن العلوم أن الهدف من القراءة الارتقاء، أي ارتقاء في الروح والعقل والحضارة والإنسانية، وهي متطلبات الدار الآخرة، ولا يتحقق هذا الارتقاء إلا بإعمال الحواس والعقل، ولذا يقول إيتالو كالفينو: (القراءة تعني الاقتراب من شيء، هو قيد الصيرورة)، وما لم يقرأ الإنسان فلن يقترب من الحقيقة ولا من الحق، ولن يروم فهم نفسه وخالقه والكون والآخرين.

—————————————————————————–

المراجع:

1- مدخل إلى التنمية المتكاملة، عبد الكريم بكار.

2- القراءة المثمرة، عبد الكريم بكار.

3- القراءة أولاً، محمد عدنان سالم.

4- تاريخ القراءة، آلبرتو مانغويل.

5- الكشف عن الإصابة في اختلاف الصحابة، محمد بن شامس البطاشي.

6- جريدة الوطن، ملحق أشرعة

العدد الثاني ثقافة وفكر

عن الكاتب

أحمد بن مبارك النوفلي

كاتب عماني