أســادٌ غيــرُ آســاد

كتب بواسطة يحيى الرواحي

اجتمعت تلك الحيوانات أعداءُ الأسود يوماً لتبحثَ عن طريقةٍ تستطيعُ بها هزيمةَ الآساد، و تفتتحُ بها طريقَ العرين و تجوسُ بها للأُسْدِ كلّ بلاد، فقال قائلُهم: “إنكم لا تستطيعون هزيمةَ أمّة الأسود إلا إن استطعتم أن تنزعوا منها حقيقةَ الأُسْدِ و روحَها، حتّى تغدوَ أسوداً اسماً لا رسما، أو شكلاً لا مضمونا! و لا أراكم بالغين ذلك حتّى تفسدوا إناثَها اللبؤات، و تهدموا تعليمَ صغارها الأشبال، و تزعزعوا مكانةَ قادتها من كلّ غضنفرٍ رئبال، حتى يتطاولَ عليهم كل شبلٍ غرير، أو أُسيدٍ مغرور، و لتسعَوا إلى أن يزهدَ عامّتُهم في “أسديّتهم”، و لتشيعوا بينهم أنّ “الحيوانيّة” أصلٌ مشتركٌ تجتمعُ عليه كلّ الحيوانات، و تعودُ إليه كل طوائفها و فصائلها، فلا ينبغي أن يكون المقياس في التعامل بينها إلاّ في أنها “حيوان” لا أنّها أسدٌ و ذئاب، أو ضبعٌ و كلاب”!

قالَ كليلةُ العصر لدمنةِ عصره: ألا تعجبُ ممّن يناوئُ أسبابَ قوّته، و يجافي سبيلَ عزّته، فلا ينثني إلا محارباً لها، و صاداً عنها؟ و هل سمعتَ بمثلِه في الآخِرين، أو قد بلغَك مَثَلُه في الأوّلين؟
قال دمنةُ العصر: تلك فئةٌ لا يخلو منها عصرٌ أو مِصر، إذ لا تفتأ تظهرُ في كلّ أمّةٍ تريدُ النهوض من غفلة، و القيام من عثرة، فتكون لنهضتها مثبّطة، و عن طريق رفعتها صادفة، و لا تكونُ دعوتُها إلا دعوةَ فساد، و لا حالُها إلا حالَ الآسادِ غيرِ الآساد.
قال كليلةُ: و ما الآسادُ غيرُ الآساد؟!
قال دمنة: يُروى أنّ أمّةً من الآساد كانت تعيشُ في جانبٍ من الأرض، و كانت عزيزةَ الدار، مهيبةَ الجناب، فدانت لها كلّ الحيوانات، و اعترفت بفضلها و قوّتها، و شرفها و سؤددِها، و كحالِ كلّ شريفٍ و سيّد؛ كثرَ حسّادُها و عظمَ أعداؤُها، من الذئابِ و الضباع و الثعالب، و كلّ حيوانٍ مرذولٍ ضعيفِ الجانب، فناوشتها و حاربتها، لكنّها كانت جميعاً ترتدّ خاسئةً خائبة، مهزومةً ذليلة، فأنّى لها أن تقاومَ آسادا؛ أو أن تهدمَ لها أسّاً و عِمادا؟!
اجتمعت تلك الحيوانات أعداءُ الأسود يوماً لتبحثَ عن طريقةٍ تستطيعُ بها هزيمةَ الآساد، و تفتتحُ بها طريقَ العرين و تجوسُ بها للأُسْدِ كلّ بلاد، فقال قائلُهم: “إنكم لا تستطيعون هزيمةَ أمّة الأسود إلا إن استطعتم أن تنزعوا منها حقيقةَ الأُسْدِ و روحَها، حتّى تغدوَ أسوداً اسماً لا رسما، أو شكلاً لا مضمونا! و لا أراكم بالغين ذلك حتّى تفسدوا إناثَها اللبؤات، و تهدموا تعليمَ صغارها الأشبال، و تزعزعوا مكانةَ قادتها من كلّ غضنفرٍ رئبال، حتى يتطاولَ عليهم كل شبلٍ غرير، أو أُسيدٍ مغرور، و لتسعَوا إلى أن يزهدَ عامّتُهم في “أسديّتهم”، و لتشيعوا بينهم أنّ “الحيوانيّة” أصلٌ مشتركٌ تجتمعُ عليه كلّ الحيوانات، و تعودُ إليه كل طوائفها و فصائلها، فلا ينبغي أن يكون المقياس في التعامل بينها إلاّ في أنها “حيوان” لا أنّها أسدٌ و ذئاب، أو ضبعٌ و كلاب”!
فسأل سائلُهم: “و كيف لنا أن نبلغَ ذلك، و ما فينا من يجرؤ على اقتحام دارهم، أو يملكُ من الشجاعةِ أن يناديَ بتلك الأفكار في أوساطِهم؟!”
فأجابَ ناصحُهم: “إنّكم لن تُعدَموا في أمّة الأسود من يكونُ الجهلُ حليفَه، و الغرورُ خدينَه، أو من يكونُ ذا همّةٍ ضعيفةٍ تقصرُ عن أن توصلَه لمراتب الآساد، و منازل الأمجاد، أو من يكون طالبَ شهوةٍ و دعة، و ربيبَ كسلٍ و خمول، فابحثوا عنهم و أظهروا التودّدَ لهم، و التقرّبَ منهم، و بثّوا إليهم بتلك الدعاوى مغلّفةً برداء النّصح و الإشفاق، و ملبسَةً لبوسَ العلمِ و التجرّد، فإنّ جهلَهم -لا شكّ- سيجعلُهم يؤمنون بها، و غرورَهم -لا ريبَ- سيوقعهم في شراكها، فإذا آمنوا بها، و وقعوا في شراكِها؛ فلا تقعدوا دون أن تنفثوا في روعِهم، و تبثّوا في نفوسِهم، أنّهم هم المتنوّرون المثقّفون، و المصلحون المجدّدون، الذين يحملون لواء التجديد و التنوير لأمّة الأسود، و يبنون لها طارفاً من المجد يربو على التليد! فإنّكم إذا فعلتُم؛ انقلبوا إلى أمّتهم أمّة الأسود، فكانوا سيوفَكم التي تقاتلون بها، و مديّكم التي تفرون بها أديمَها، و كفَوكُم مؤونةَ مواجهتهم؛ إذ أصبحوا كالتي تنقض غزلَها، و تحفر قبرَها بأظفارها”.
انفضّ أعداءُ الأسود متعاقدين على تمثّلِ تلك الخطّة، و مبادرين إلى تطبيقها، فوجدوا بعضَ المنتمين إلى أمّة الأسود خالطوا الخنازيرَ فاختلبَهم تقلّبُها في كلّ وحل، و أكلُها من كلّ سقطٍ و رذل، فتمنّوا لو أنّهم يستطيعون العيشَ مثلها، و الترغّدَ شبهها، فتلقّفتهم أعداؤهم من السباع و أوحت إليهم أنّ ما يحولُ بينهم و بين رغد العيش كالخنازير هو طبيعةُ الأسود فيهم، و أنّهم مهما طلّقوا تلك الطبيعة و هذّبوها، و فتحوا بابَ “الحرّيةَ” و أطلقوها؛ فُتحَ لهم بابُ العيشِ الرغيد، و دخلوا مسكنَ “الحرّية الشخصية” السعيد، و وجد أعداءُ الأسود طائفةً أخرى من المنتمين لها عششّ في عقولهم الجهل، و تحكّمَ في نفوسهم الغرور، فصاروا يحسبون أنّهم هم الأسود و غيرهم مدّعون، و أنّهم هم القادةُ و غيرُهم متّبعون، و أنّهم هم الأحرار و غيرهم عبيد، فاحتفوا بهم و قرّبوهم، و أخذوا يرضون غرورهم و ينفخونه بإظهار إعجابهم بهم و بأفكارهم و أقوالهم، و يكيلون لهم من المديح ما جعلهم يحسبون جهلَهم علماً لا يبارى، و غباءَهم عبقريّةً لا تُجارى!
طفقت تلك الأصنافُ من الأسود سيئة النيّة، خبيثة الطويّة، و تلك الأخرى الجاهلةُ المغرورة، تنشرُ بين أمّة الأسود أفكارَها الهدّامة عن قصدٍ و تربّص أو عن جهلٍ و غرور، فبدأت أوّلَ ما بدأت به أن ادّعت أن “الأسديّة” لها لبٌّ و قشور، و أنّه لا ينبغي الالتفات إلى القشور؛ و من ذلك مثلاً أن اللّبدةَ لذكور الأسود إنّما هي من القشور التي لا ينبغي المبالغة في الاهتمام بها؛ فقامت بحلقها و الدعوة إلى حلقها! و حين استنكرت الأسود ذلك، جابهتها بدعوة أنّ الأسَدَ أسدٌ بجوهره لا بمظهره، و أن أمورَ المظهرِ لا علاقةَ لها بالمخبر، و لم تلقِ بالاً لحجّة الأسود الأخرى حين أجابتها قائلةَ: “ويحك! و هل علمنا الأسدَ أسداً إلا بمظهره و جوهره، و هل رأيتُم أسداً من قبلُ مظهرُه يوحي بخلاف أسديّته، و هل الاستخفاف بالقشر -كما تسمّونه- إلا بدايةُ التفريط في اللبّ و الجوهر؟!!”
ثمّ أخذت تلك الطوائف الهدّامة تسير بين اللبؤات باثّةً بينها دعوى أنّ مجتمعَ الأسود مجتمعٌ “ذكوريٌّ” يحتقرُ اللبؤات و يهينُها، إذ كيف توكلُ مهمّةُ العناية بالأشبال و اصطياد الفرائس لها؟ و أخذت تدعوهنّ إلى الثورة على “الظلم” و المطالبة بـ”المساواة” مع الليوث؛ فالذكرُ مثلُ الأنثى لا فرقَ بينهما في مخبرٍ أو مظهر، و كلّ ادّعاءٍ سوى ذلك إنّما هو امتهانٌ لكرامةِ اللبؤات!!
ثم انثنت تلك الطوائف تهاجمُ الأسودَ التي تتعاهدُ الأشبالَ بالتربية و التنشئة على ما يجعلُها أسودا، فأخذت تتهمهما بـ”الأدلجة” الممقوتة التي “تؤدلج” عقولَ الأشبال، و تدعو إلى عدم تنشئة الأشبال إلا على ما يجعلُها تعرف أنّها “حيوانٌ” فقط، و أمّا ما فوق ذلك ممّا هو من خصائص الأسود فهو “أدلجةٌ” نحو هدفٍ معيّنٍ يمثّلُ فكراً ضيّقاً إقصائيا!!! و حين أجابتها الأسود الأخرى: “ويحك! و هل تنشئُ الذئابُ صغارَها إلا على ما يجعلُها ذئابا، و كذا كلّ جنسٍ حيوانيٍّ آخر، فإحلال عليها حرامٌ على الأسود؟ و هل معنى دعوتكم سوى إنشاءُ أجيالٍ من الأسودِ لا تعرفُ من “الأسدية” إلا اسمها، حتى إذا اجتاحتها الجوائح، و أحدقت بها النوائب؛ لم تُحسن مواجهتها، و لم تدرِ كيف تجابهها؟!”، لم تعرها إلا أذناً صمّاء، و أجابَ سفيهُها قائلا: “لا أريد لأشبالي أن تلبس جلدَ الأسد ولا أن تتعلّمَ كيف تصيدُ فرائسَها، فتلك عاداتٌ بالية، و إنّما أريد تركهم لحالهم ليقرّروا حياتهم”!
ثمّ أخذ الزهو بتلك الطوائف الغريرة المغرورة؛ حتى بدأت تناوش الأسودَ القادة من كل غضنفرٍ رئبال، و عالمٍ بمناهج “الأسدية” مفضال، فأخذت تدّعي أن تلك الأسود القادة، و العالمة بدين الأسود و مناهجها؛ إنّما هي مجرّدُ أفرادٍ تحاولُ أن تفرض وصايتَها على جموعِ الأسود، و أنّها تسعى إلى أن تكون أمّةُ الأسود مجرّد قطيعٍ منقادٍ لها، فأخذت تشنّعُ عليها، و تسفّهُ آراءَها، و تُظهرُ عدمَ الاحترام لها، ضاربةً عرضَ الحائط في كل ذلك بكلّ خلقٍ أسديٍّ نبيل، أو منهجٍ علميٍّ جميل! و حين أُسديَ لها النصح، و طولبت أن تملكَ من العلم و الخبرة ما يؤهّلُها لكي تتحدّث فيما تتحدّثُ فيه، أو تشاغبُ عليه؛ ازورّت و احرنجمت، و ادّعت أنّ هذه الدعوةَ إنّما هي حجرٌ لحرّيّة التفكير و التعبير، و إقصاءٌ للآراء المخالفة، و قتلٌ للإبداع في سبيل تكريس منهج الاتّباع!
سادَ الهرجُ أمّةَ الأسود، و انبتّ حبلُ آجامِها، و انفرطَ عقدُ نظامها، فتركت الليوثُ ما يميّزها عن اللبؤات، و اقتحمت اللبؤات مجالَ الليوث، حتى أصبح الناظرُ لا يكادُ يميّزُ بين ليثٍ و لبؤة، و تُركتِ الأشبالُ هائمةً على وجوهها، ينشأ ناشؤها و هو لا يدري هويّته الأسديّة؛ فطفق يتابعُ مقلّداً شتّى حيوانات الأرض، فتارةً يحاكي القردَ في تنطّطه، و حيناً يتابعُ الديكَ في مشيته! وتطاول الأغرار الجهّالُ على كلّ أسدٍ عالم، أو غضنفرٍ حازم، فاحتقروا آراءَهم، و سفّهوا أحلامَهم، و تضاءلَ زئيرُ الأسود، و حلَ محلّه أصواتٌ نشاز لا تمتّ للزئيرِ بصلة، و لا للّيوثِ بنسب، بل هي أصواتٌ شتّى جُمعت من هنا و هناك، تسمعُ فيها نهيق الحمير، و نقيق الضفادع!
ظلّ أعداءُ الأسود يتابعون كلّ ذلك عن بعدٍ و كثب، و أعينهم قريرةٌ بما تراه، و نفوسُهم فرحةٌ جذلى، و هم يتوثّبون الفرصة لينقضّوا على أمّة الأسود فيستبيحوا حماها، و يُبلغوا أنفسَهم مُناها؛ بالقضاءِ عليها و استئصال شأفتها، ثمّ اجتمعوا أخيراً ليبحثوا أمرَهم، فقال قائلُهم: “أهنؤكم جميعاً بنجاح خطّتنا الباهر الذي فاق توقّعاتنا، فكما ترون؛ أصبحت الأسودُ كلّ شيء إلاّ أن تكون أسودا، فسوادُها لا يحمل من روح الأسدية أمرا، و لا يعلمُ من حقيقتها شيئا، و أصبحوا لا يحفلون بمبدأٍ و لا ثوابت، فكلّ شيء معهم قابلٌ للنقد و التشكيك، فلذلك صاروا لا يثبتون على أمر، و لا يستقرّون على رأي، و أصبحوا يجرون خلفَ كلّ ناعق، و يتبعون كل منافق، و فسدت لبؤاتُها و ضاعت أشبالُها، و من بقي فيها من أسدٍ رشيد، أو غضنفرٍ شديد، أصبحَ لا يملكُ أمرا، و لا يُسمعُ له في أيّ شأنٍ رأي، بل أصبحَ متّهماً في نيّته، و مشكّكاً في طويّته، فأمّا و قد أصبح هذا هو حالُ أمّة الأسود؛ فإنّ الفرصةَ الآن مواتيةٌ لتنقضّوا عليها، و تبيدوا جموعَها و تستأصلوا شأفتها”
انفرجت أساريرُ جموع الأعداء و صاحوا مهلّلين: “بمن نبدأ في هجومنا؟”
أجابهم ناصحُهم: “ابدؤوا بالحمير”
صاحت الجموعُ داهشةً: “الحمير؟!!! أيّ حميرٍ تقصد؟!”
فأجابهم ناصحُهم بابتسامة خبيثة: “أولئك الذين كانوا جنوداً لكم ضدّ قومهم و هم لا يشعرون”

أدب الحادي والخمسون

عن الكاتب

يحيى الرواحي

كاتب عماني