كلمن

أبجد هوّز حطي كلمن… ترى كيف سيكون شكلها إذا تمثلت لنا بشرا سويا؟ أبجد سيكون رجلا متخنجرا يلوّح بعصاه جيدا في البرزة، هوّز أقرب إلى امرأة عجوز عابقة برائحة الزعفران و الورس، حطّي ليست إنسانا بالتأكيد إنها بلدة بعيدة تقع خلف هذه الجبال التي تحتل الأفق، يتخطى حارة القشع ليصل إلى الدروازة و هو يردد : أبجد، هوز حطي كلمن، لا يقطع شروده سوى ظهور عمامة الشايب سعيد وهو منحدر من جهة صوار البرنية يحمل كتابا

شيء ما يتغير للأبد في عمق الإنسان عندما يتعرف على الحروف في طفولته، و في التهجئة الأولى لإنسان هذا المجتمع تجتمع الحروف في أسماء يرددها صاحبنا كل شروق في مدرسة القرآن، كان وقع ألفاظها مهيبا في نفسه فتخيلها كائنات ما،توقّع أن تخرج له يوما من ضواحي النخيل أو قد تفاجئه وهو واقف وسط الفلج، ربما تكون شيئا يشبه الشّبا أو تلك الحشرات التي تخرج فجأة من الماء، يتذكر التلاوة الجماعية اليومية لأسماءها العجيبة ترددها المعلمة غالية و يرددها الجمع وراءها، حاول ربطها بصوت الأذان الذي يرن مشتتا أفكاره العجيبة، لكنها أقرب في نفسه إلى صدى صوت راعية الغنم وهي تعوّب عائدة بقطيعها من أقصى الأرض.
أبجد هوّز حطي كلمن… ترى كيف سيكون شكلها إذا تمثلت لنا بشرا سويا؟ أبجد سيكون رجلا متخنجرا يلوّح بعصاه جيدا في البرزة، هوّز أقرب إلى امرأة عجوز عابقة برائحة الزعفران و الورس، حطّي ليست إنسانا بالتأكيد إنها بلدة بعيدة تقع خلف هذه الجبال التي تحتل الأفق، يتخطى حارة القشع ليصل إلى الدروازة و هو يردد : أبجد، هوز حطي كلمن، لا يقطع شروده سوى ظهور عمامة الشايب سعيد وهو منحدر من جهة صوار البرنية يحمل كتابا، سلّم عليه بيدين اثنتين و نظر إلى عينيه في رهبة تستحقها سمعة الرجل، تزوّج جنية و اكتفى بها عن زواج آخر و لديه علم الحروف، يمشي بمحاذاة الشايب سعيد وهو يفكر في القوى التي تحكى عنه، يحوّر لاسترداد السرقة و يقرأ على من أصابته العين، دخلا المسجد معا، انشغل الشايب بصلاة تحية المسجد و انفرد هو بالكتاب، تجرأ على تصفحه فوجد الأسماء نفسها ، أبجد هوز حطي كلمن.
كبر الآن و هاهو يحمل مصباحه في ظلام دامس، يولّم صوار الفلج و يداه ترتعشان بردا وخوفا، يتخيل أن الشايب مسلّم يراقبه من ضاحيته الملتصقه بضاحية أبيه، يفكّر في الكائنات التي يعرف جميع أهل البلدة أنها محبوسة في غياهب الغرف القديمة تخرج ليلا هائمة تبحث عن طعام، يسترجع العداوة المعروفة بين مسلّم و سعيد، الأول ظالم كما يقول أهل البلد لديه الكتب التي تنطلق حروفها قاتلة و جالبة و مسيطرة، لكن سعيد بدوره لديه كتب و يعرف الحروف،الحروف نفسها ،أبجد هوز حطي كلمن،غير أن الناس يحترمون علمه،به يحمي نفسه ومن يشاء من ظلم يسوقه الليل، ربما هناك حروف شيطانية و أخرى نورانية إذن، جوهر واحد بطبيعتين متناقضتين.
كهيعص،في مرحلة يتذكرها أكثر من غيرها كان يحضر درس الشيخ الشاب الذي وضع النقاط على الحروف، أو هكذا تصور الأمر حينها، عمامته البيضاء أكثر أناقة من عمائم أسلافه، يتحدث عن عصر جديد قادم حيث ستحكم الناس حروف الله، فهم من خلال الدروس أن الحروف المقدسة تختلف عن غيرها، إنها كلمات الله و نطقه الخالد، و كل العلوم إنما تخرج من انعكاس حروف الله على الفهم البشري، و لأن الشيخ وحده يمكنه فهم المعنى فهو الوحيد الذي ينبغي اتباع طرقه و إن كانت وعرة وتقليد فهمه و إن كان يجر الابتلاءات، قال له يوما: حروفا متقطعة في بدايات السور تكفي دليلا على أن الفهم ليس أولية النص، الاتباع الإيماني وحسب ،كانت فترة جميلة لكن حروفا جديدة لم تولد على فم شيخه، فلم يصبر على حروفه الثابتة.
لاحقا، و لغرامه بالحروف بحث عن حروف أخرى ليجدها تحت عينيه و ملأ سمعه، مفارقة للسماء وتمتلأ فتنة،تعيش وتتوالد في كتب لم يسامرها يوما، أقل شأنا من الأولى فلا ترتبط بالمعجزة وأقل سحرا فلا تجترح أفعال الشياطين، حروف أرضية مقابل حروفه السماوية لا تحتاج إلى فقيه يسبر أغوار أسرارها و لا يجب الحذر أو الاغتسال عند احتضانها أو كشف مفاتنها، تبدت مع الأيام أكثر شبابا و أشد إغواء من حروفه، و لفترة ما بدأ ينسل من جلال أبجديته و أبدية مضامينها إلى شغف الحروف الأخرى و إثارتها الواقعية، بدا الانجذاب لا يقاوم رغم أن الحروف الجديدة لا تنتظم في أسماء غامضة إنها مجرد نطق يصدر من حباله الصوتية إثر تنبيهات عصبية، ع خ ك ن ر ب، و على إثر انجذابه تشكلت كائنات أخرى على أنقاض سابقتها، تبدد قلقه من صراع وجودي بين الأحرف بعد أن وجد أن التوحيد ليس سببا للوفاق دائما، التوحيد يؤدي إلى اضمحلال التعدد والتعدد هو منبع لولادة الحروف الجديدة ،ولمرة أخرى.. تغير في أعماقه أمر ما وإلى الأبد.

أدب الثاني والخمسون

عن الكاتب

صالح بن علي الفلاحي

كاتب عماني