القضاء ليس خطا أحمرا وأشياء أخرى

الحالة القضائية في عمان لها أبعاد أخرى جاءت مجرد نتيجة لفكرة الدولة العمانية الحديثة والقوى التي تديرها، على مدى سنوات طويلة كان للسلطة التنفيذية متمثلة في الذراع الأمني المخابراتي ( جهاز الأمن الداخلي ) اليد الطولى في رسم سياسة الدولة والتغول المطلق في جميع مفاصل الدولة بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية وكنتيجة لذلك تأثرت المؤسسة القضائية وتم تشويه مكانتها وقيمتها الرمزية فإنه بالتأكيد لا يمكن تصور وجود سلطة قضائية مستقلة في ظل سلطة تنفيذية مطلقة،

مازالت قضية مظاهر التاجر أو كما يسميها البعض ( سراميك جيت ) ومنذ أيام تشغل الرأي العام العماني بشكل مكثف وبثقل يزداد يوما بعد يوم لدرجة الإنهاك، هذه القضية كشفت عوارا واضحا لم يكن ليشغل المواطن البسيط في ظل بحبوحة التوظيف الجماعي والزيادة الجيدة نسبيا للرواتب واليد الثقيلة للأجهزة الأمنية على حرية الرأي والتعبير في الفترة الماضية، و في ظل اللغط الذي خلقته هذه القضية انبرى البعض ليردد مقولة ( القضاء خط أحمر ) والبعض تجاوز ذلك ليشطح كذلك و يضيف بعض الخطوط على الادعاء العام وجهاز الأمن الداخلي .

قد يكون من المثير للسخرية أن المنادين بفكرة الخطوط الحمراء للقضاء نفسهم أولئك الذين يرفضون فكرة دولة المؤسسات ممثلة بدستور وطني واضح يؤسس لفصل السلطات مصرين في كل مناسبة أن لعمان خصوصيتها، وبالرغم من ذلك فإنني أوكد هنا أنه ليس من المقبول أن يوصف القاضي بالثقة والنزاهة المطلقة محصنا من أي نقد أو مراجعة، مطلق اليد يفعل ما يشاء لأن من شأن ذلك أن يحول المؤسسة القضائية إلى الممارسات الاستبدادية تحت ستار العدالة، وما يثبت أن القضاء وأحكامه ليست من المسلمات هي فكرة التقاضي على عدة درجات ووجود دائرة للتفتيش القضائي يخضع فيها القضاة للتقييم السنوي وكذلك فلسفة علانية الأحكام وإخضاعها للرأي العام، وأما ما يقصد بحصانة القضاة فإنها لحمايتهم من العزل أو بطش السلطة وليست لحماية القضاة من أخطائهم أو تجاوزاتهم للأنظمة والقوانين .

والأمثلة على فساد القضاة عديدة في العالم بشكل عام وخاصة في الدولة الأعلى نسبة في الشفافية، فعلى سبيل المثال إحدى التقارير المعدة من قبل وزارة العدل البريطانية تشير إلى إقالة ٢٩ قاض وإقدام ٢٥ آخرين على الاستقالة أثناء فترة التحقيق معهم، كانت تهم أغلبهم تتعلق بتصرفات أو تعليقات مسيئة أثناء ممارساتهم الوظيفية، واتهم قاض آخر بعلاقة مع شاذ جنسي، والبعض في قضايا غش وتنفع، وكذلك يتعرض العديد من القضاة للتأنيب القضائي بسبب تصريحاتهم السياسية المعادية لبعض الدول وكذلك لسياسة بريطانيا نفسها كالقاضي الذي انتقد سياسة بريطانيا المتساهلة في موضوع الهجرة، هذه المحاكمات للقضاة تكون بصورة علنية وبتصوير تلفزيوني مباشر وهناك العديد من هذه المحاكمات على موقع اليوتيوب، كذلك أجري مسح للمراجعين للمحاكم البريطانية أوضح أن واحد من خمسة أشخاص دفع رشى لهيئة المحكمة وكذلك فإن ربع البريطانيين يعتقدون أن المحاكم والقضاء لديهم يعتريه الفساد، مع العلم أن التقرير الأخير لمنظمة الشفافية الدولية يصنف المملكة المتحدة على أنها من الدول ال ١٤ الأقل فسادا، في المقابل جاءت سلطنة عمان في المرتبة ٦٤ من نفس التقرير.

الحالة القضائية في عمان لها أبعاد أخرى جاءت مجرد نتيجة لفكرة الدولة العمانية الحديثة والقوى التي تديرها، على مدى سنوات طويلة كان للسلطة التنفيذية متمثلة في الذراع الأمني المخابراتي ( جهاز الأمن الداخلي ) اليد الطولى في رسم سياسة الدولة والتغول المطلق في جميع مفاصل الدولة بمؤسساتها التنفيذية والتشريعية وكنتيجة لذلك تأثرت المؤسسة القضائية وتم تشويه مكانتها وقيمتها الرمزية فإنه بالتأكيد لا يمكن تصور وجود سلطة قضائية مستقلة في ظل سلطة تنفيذية مطلقة، الحياة بطبيعتها متغيرة باستمرار وأدوات الماضي لا تصلح للحاضر، وهذا ما لم يعيه صناع القرار في عمان وأصروا على الاستمرار في استخدام الكتالوج القديم رغم انتهاء صلاحيته في ظل المتغيرات والتحديات التي تواجه العالم الحديث، على سبيل المثال كان هناك اعتقاد أن السيطرة على أجهزة الإعلام ( تلفزيون، إذاعة، صحافة ) يسهل على الدولة التحكم في الرأي العام لذلك كانت وزارة الإعلام ومازالت ملحق تابع للجهاز الأمني، ولكن في ظل الثورة المعلوماتية أصبحت وسائل التواصل الاجتماعي أكثر توغلا وتأثيرا على الرأي العام مع عجز كامل من قبل السلطة على التحكم بها، وهذا الأمر ينطبق على كل أوجه الحياة، ولذلك يتوجب المسارعة في تجديد وتغيير طرق إدارة الدولة.
نعم دولة المؤسسات والقانون هي الحل وذلك بتطبيق مبدأ فصل السلطات لتنظيم العلاقة بين سلطات الدولة الثلاث ومنع استبداد سلطة على أخرى وخلق توازن يمنع بذور الخلاف والطغيان والتي لا محالة هي السبب الرئيسي للثورات كما نعلم، ولا يتأتى ذلك إلا بوجود دستور واضح وعادل يكون المرجعية الرئيسية في أي خلاف، تحت إشراف محكمة دستورية، إن المعايش للأحداث العمانية التي هزت الرأي العام وخاصة أحداث ٢٠١١م وما بعدها يتضح لدية حجم الإشكالات التي خلقها هذا التزاوج الغير شرعي بين السلطات، إذا نظرنا إلى قضية مظاهر وثبتت اتهاماته بالدليل القاطع فإنه لا توجد فعليا مؤسسة من الممكن أن تتولى التحقيق، لأنه بحسب المرسوم 10/2012 فإن رئيس المحكمة العلياء يساءل من قبل المدعي العام بناءا على طلب مجلس الشؤون الإدارية للقضاء الذي يرأسه رئيس المحكمة العلياء نفسه، وكذلك فإن المدعي العام يساءل من رئيس دائرة التفتيش في الادعاء بناءا على طلب مجلس الشؤون الإدارية الذي يرأسه رئيس المحكمة العلياء، وكذلك على سبيل المثال عند تحليل قضية كإعابة الذات السلطانية تظهر لدينا هذه الإشكالية كون السلطان طرف في القضية وفي نفس الوقت هو المسؤول المباشر عن القاضي الذي أصدر الحكم بصفته رئيس المجلس الأعلى للقضاء بالرغم من عدم تدخله المباشر ولكن بالطبع فإن الحكم سوف تشوبه شبهات قانونية بسبب الصفة الوظيفية لأطراف القضية، و في مثال آخر هناك العديد ممن حجزوا حبسا احتياطيا لفترات تزيد عن الشهر في سجون جهاز الأمن الداخلي رغم أن الحد الأقصى للحبس الاحتياطي يجب أن لا يتجاوز الشهر وفي قضايا أمن الدولة فقط، وهناك العديد من الممارسات قد لا يتسع المقال لذكرها، يحدث كل هذا في عجز تام من قبل المؤسسة القضائية، وقد تلاحظون في المقال أعلاه أنني لم أذكر مجلس الشورى لأنه باعتقادي لا يحمل أي صفة ولا ادري لماذا تصرف لأعضائه رواتب من دخل الدولة كان من الأجدى دفعها في أمور أكثر استحقاقا، في النهاية يجب أن نؤمن أن مثل هذه التجارب تخلق انطباعا ورأيا عاما ساخطا ينظر لأجهزة الدولة بشكل مهزوز لذلك آن الأوان للتأسيس لدولة المؤسسات والقوانين لإعادة ثقة الناس بالدولة وخلق جيل واعي مؤمن بأن الجميع سواسية كأسنان المشط في دولة القوانين لا الأفراد .

الخامس والخمسون سياسة

عن الكاتب

مبارك سعيد الهاشمي