صورة النبي في مدائح أبي مسلم البهلاني

منتج أبي مسلم البهلاني الشعري أصابته أيديولوجيا المحبين –حذفاً وتقليماً وتأويلاً– بما كاد أن يجعله شعراً ناداً عن شاعرية أبي مسلم، لولا قرب العهد وقوة الإنشاء والانتشاء “المعجِز”، لم يكن البهلاني أقنوماً شعرياً فحسب، بل كان كذلك دينياً واجتماعياً وسياسياً، فنال من سهامها كلها، وأصبح غرضاً لأغراضها.

Mohammed Bg

صورة النبي محمد في مدائح أبي مسلم البهلاني

خميس بن راشد العدوي

أمسية الاحتفاء بديوان البهلاني

15 فبراير 2010م

في المنهج

أبو مسلم ناصر بن سالم بن عديّم البهلاني علامة فارقة في سماء عمان المليئة بنجوم المعرفة الإنسانية، ويأتي شعره المنجز الأكبر الذي يضعه مجلياً سابقه ومصلياً لاحقه، ولشاعريته الفذة وتنوع إنتاجه جعله قريباً من معظم العمانيين، بل ومن غير العمانيين، قريباً إلى حدِّ الوله بذاته فوق الافتتان بشعره، هذا الشعر الذي لم يجد غيره مثله عناية بالدراسة والتحقيق والتغني، فلو قيل إن العمانيين يشعرون بهلانياً كما يتفقهون سالمياً، لما كان القائل أبعد النجعة.

إلا أنه قد جرت العادة في الكبار أن عشق محبيهم لهم كثيراً ما يجني عليهم، فهم يصبحون الأقنوم الممتَثَل الذي لا يجوز في حقه إلا العصمة الفكرية، فيكون عند عاشقه من كائن كما كان، إلى كائن ما ينبغي أن يكون، ويتم تشذيبه وتقليمه –كل بطريقته ومعتقده– حتى يصبح رمزاً صنعه الآخرون على غير مثاله السابق، فضلاً أن يجري به الدهر على حاله الأول.

منتج أبي مسلم البهلاني الشعري أصابته أيديولوجيا المحبين –حذفاً وتقليماً وتأويلاً– بما كاد أن يجعله شعراً ناداً عن شاعرية أبي مسلم، لولا قرب العهد وقوة الإنشاء والانتشاء “المعجِز”، لم يكن البهلاني أقنوماً شعرياً فحسب، بل كان كذلك دينياً واجتماعياً وسياسياً، فنال من سهامها كلها، وأصبح غرضاً لأغراضها.

كانت مدائحه النبوية الأوفر حظاً على مستوى التفكير الديني في إثارة الحيرة –والعظيم بطبعه محيّر– حيرة جعلت (يسهر الخلق جراها ويختصموا)، ورغم تنائي أنظارهم إليها يجمعها أمر واحد وهو أنها لم تشأ أن تقرأ أبا مسلم كما هو ظاهراً، بل شاءت أن تقرأه –لمن قرأه منها– كما هي تأويلاً، هذه الورقة حاولت أن تقرأه بعيداً عن الأحكام السالفة، أولاً لعدم قدرة مقدم الورقة أن يطال أقواس أبي مسلم القزحية بله أن يطأ سماءه جيئة أو ذهاباً، وثانياً لأن هذا المقام ليس مقام الأحكام الكاشفة وإنما مقام التفيء بالظلال الوارفة، وثالثاً لأنه عمل شعري يتعالى عن الأدلجة، فعلينا أن نقرأ شعره لوحة فنية وجمالاً نفسياً ولذة معنوية، هذا ما حاولت أن أقوم به هنا.

حاولت هنا أن أستبين تلك اللوحة الفنية التي رسمها أبو مسلم لعظيم من عظماء الإنسانية، بل أقول: أعظمها على مستوى الضمير المسلم. ألا وهو النبي الأكرم محمد عليه السلام، هذا العظيم الذي لم تنل أي شخصية وجودية أخرى من التسجيل والدراسة والتحليل والحب –والبغض أحياناً– ما ناله عليه السلام، حتى تشكلت له صور في المعرفة لا تكاد تحصى، فهناك الصورة القرآنية وهي أقربها للنبي لتعاليها عن المخيال، وهناك صور روائية، وصور تأريخية، وصور شعبية، وصور فنية، وصور شعرية، وصور نفسية، وصور أسطورية … الخ.

إنه طيف المخيال اللانهائي الذي يولد صوراً لانهائية.

أحاول أن ألمس هنا صورة النبي محمد كما رسمها مخيال أبي مسلم الشعري.

بين الحب والإيمان

مع كل هذا لا يمنع أن نلمس دواعي التخيّل البهلاني للشخص النبوي؛ الذي قد يراه البعض مرتفعاً فوق هضبة المسموح به إيمانياً، كما علينا أيضاً أن نضع أصبعنا على حدود هذا المسموح به، ليس تأويلاً مني لطرفي المعادلة، وإنما استنطاقاً لها من لسان أبي مسلم.

كل ما سنراه من صورة رسمها أبو مسلم للنبي عليه السلام مشعة من مشكاة النبوية، أو دعنا نقل إنه استخدام فلسفي للتعبير عن العشق النبوي بأبهى صور البيان العربي، وأسكر ثمالات العشق الصوفي، فعلاً وأنا أقرأ قصائد المديح النبوي مرات ومرات لم أتشيأ إلا هذه المدحة؛ بهاءً وسكراً دونما سواها من تجريدات التفلسف أو شطحات التصوف، وبعبارة الرواحي نفسه (ذُهِلْتُ عَنْ كُلِّ شَيءٍ مُذْ عَلِقتُ بهِ | فلا أفرِّقُ بَينَ الصَّفْوِ وَالكَدَرِ)، فهو لا يعنيه شيء من دلالات المصطلحات وإيحاء النظريات؛ صحيحها وسقيمها إلا علوق قلبه بالمحبوب النبوي:

هذا ما ينضخ به نص أبي مسلم المتغني بالوَجد النبوي:

أنوارُ حُبِّكَ في قَلْبِي قَدِ انْطَبَعَتْ | جِبِلَّةً كانْطِباعِ الشَّمْسِ في القَمَرِ

ما زَالَ حُبُّكَ في رُوحِي يُخَامِرُها | حتى تَجَرَّدْتُ عَنْ عَيْنِي وَعَنْ أَثرِي

ما للمَحَبَّةِ مِقْدَارٌ إذا اقْتَصَرَتْ | الحَقُّ حُبُّكَ حُبٌ غَيرُ مُقْتَصِرِ

تَجَرُّداً مِنْ هِناتٍ كُلُّها حُجُبٌ | لا وَصْلَ، وَالحُبُّ مَحْجُوبٌ بذي السُّتُرِ

أدْعُوكَ خَلْفَ حِجَابِ الكَوْنِ مُنْبَسِطاً | في بَسْطِ حُبِّكَ لم أَخْلُصْ مِنَ الأثرِ

ذُهِلْتُ عَنْ كُلِّ شَيءٍ مُذْ عَلِقتُ بهِ | فلا أفرِّقُ بَينَ الصَّفْوِ وَالكَدَرِ

لا أحْسَبُ الرُّوحَ إلاّ أنها خُلِقتْ | مِنَ الهَوَى فَاخْتَفتْ عَنْ عَالَم الصُّوَرِ

فلا عِلاجَ لها مِنْ أَصْلِ فِطْرَتها | إذا أُصِيبَتْ بِسَهْمِ الحُبِّ عَنْ قَدَرِ

وَجَدْتُ رُوحِي صَرِيعاً في مَصَارِعِهِ | يا حُبُّ لا تُبْقِ مِنْ رُوحِي وَلا تَذَرِ

نارُ المَحَبَّةِ نارٌ لا يُقامُ لها | لوَّاحَةٌ، قَسَماً بالحُبِّ، للبَشرِ

طَارَحْتُ أَهْلَ الهَوَى حَتَّى بُلِيتُ بِهِ | فَفُقْتُهُم وَمَشَوا خَلْفِي عَلَى أَثَرِي

لا يُصْدِق الحُبَّ إلاّ مَنْ يَمُوتُ بِهِ | ما للهَوَى دُونَ حَسْوِ المَوْتِ مِنْ قَدَرِ

وَلَيْتَها مَوْتةٌ فِي الحُبِّ مُوصَلَةٌ | بوَصْلَةٍ مِنْ حَبِيبِ اللهِ في العُمُرِ

وَلَسْتُ في الحُبِّ مِنْ نَفسِي على ثِقةٍ | مِنْ نَصْبِها للهَوَى طَوْراً عَلَى وَطَرِ

إنْ كَانَ حُبِّيَ مَعْلُولاً فأنتَ لها | أدْرِكْ عَلِيلَكَ قَبْلَ الأَخْذِ في الخَطَرِ

بقُدْسِ نُورِكَ أسْتشْفِي وَقد ضَنِيتْ | نَفسِي بآفاتِ هَذا العَالَمِ القَذِرِ

وَأنتَ طِبٌّ بَصِيرٌ قد بُعِثتَ بما | يَشفِي العُضَالَ؛ فأنْقِذْنِي مِنَ الضَّرَرِ

فِداً لكَ الكَوْنُ لا أَسْلُو بزَهْرَتِهِ | عَنْ فَرْطِ حُبِّكَ يا مَنْ حُبُّهُ وَزَرِي

بيد أن هذا العشق في أخطر تجلياته لا يخرج عن كون صاحبه عليه السلام مخلوقاً لله تعالى سائراً بأمره، داعياً إلى دينه:

أهْلاً بِأَحْمَدَ حَيثُ كَانَ مُحَمَّداً | خَلْقاً وَخُلْقاً في هُدىً وَكَمَالِ

……

يَهْدِي إلى اللهِ لا تَثْنِيهِ كَارِثةٌ | عَنْ أَمْرِهِ مِنْ غُمُومِ الأَزْمَةِ النُّكُرِ

يَدعُو إلى اللهِ فرداً في عَوَالِمِهِ | بِعَزْم مُضْطَلِعٍ للهِ مُصْطَبِرِ

أتى على فَترَةٍ وَالدِّينُ مُشْتَرَكٌ | بَينَ الكَوَاكِبِ وَالأَمْلاكِ وَالحَجَرِ

فقامَ للهِ لا يَألو مُجَاهَدَةً | فيهِ حَنِيفاً على السَّراءِ وَالضَّرَرِ

إذن كأنما يقول لنا شاعرنا أبو مسلم الرواحي اقرأوا ما تجدونه من مدحي للمقام المحمدي بعلو اللساني البياني بين لهيب العشق والجذب وبين ضابط الإيمان واحترازه.

التدرج في رسم الصورة النبوية

بحسب العمل الحارثي [نسبة إلى الشاعر محمد الحارثي] على أعمال أبي مسلم الشعرية تأتي المدائح النبوية وفق هذه الجدولة هكذا:

– الغوث السريع بالحبيب الشفيع.

– النشأة المحمدية.

– القلائد الدرية في مدح خير البرية.

– نسب الرسول.

– شفيع المذنبين.

– ذكرك في الغيب القديم.

وباستثناء القصيدتين الأخيرتين لأنهما قصيرتان جداً لا ينبئان عن ملامح صورة النبي شيئاً يذكر هنا، سأقوم بجدولة أخرى لهذه القصائد قائمة على التدرج المعرفي –وليس الفني، أو الزمني– في رسم الصورة النبوية، وهي؛ أي الجدولة تأتي هكذا:

– القلائد الدرية في مدح خير البرية.

– نسب الرسول.

– الغوث السريع بالحبيب الشفيع.

– النشأة المحمدية.

تعتمد هذه الجدولة على الرؤية المعرفية والفلسفية، حيث تبتدئ من الرؤية الروائية التقليدية صاعدة باتجاه الرؤية العرفانية منتهية بالفلسفية الصوفية.

قصيدة القلائد الدرية في مدح خير البرية

تأتي هذه القصيدة في أول السلّم المعرفي، حيث رسم شاعرنا البهلاني الرواحي فيها صورة النبي صلى الله عليه وسلم بحسب ما أوردته الروايات التقليدية بشأن ميلاد النبي، والخوارق التي صاحبته، وتلك التي صحبت مسير حياته، فيمكننا أن نلحظ منها هذه التقاطيع:

– محمد النبي الرسول المؤيد بالخوارق من مثل:

وَأَشْبَعَ يَومَ الخَندَقِ الناسَ كُلَّهُم | مِنَ البُرْمَةِ الصَّفرَاءِ لَحْماً بِتَفْلَةِ

هَمَتْ يَومَ حَلَّ الغِلُّ في الصَّحْبِ كَفُّهُ | يَنابيعَ سَلْسَالٍ مِنَ المَاءِ أَرْوَتِ

……

أتتْ نَحْوَهُ الأملاكُ مِنْ أَمْرِ رَبِّهِ | وَما كَانَ أَمْرُ اللهِ إلاّ لِرَحْمَةِ

بِطَسْتٍ مُلِي حِكْماً وَنُوراً فَأَبْقرَتْ | عَنِ القلْبِ حتى أَفْعَمَتهُ بحِكْمَةِ

……

وَكم قد أتى مِنْ خَارِقَاتِ عَوَائِدٍ | وَبَاهرِ آياتٍ وَرَدِّ بَلِيَّةِ

أتى نَحْوَهُ آتٍ بِسَاقٍ كَسِيرَةٍ | فَأَبْرَأَها مِنهُ بِأَكْرَمِ مَسْحَةِ

وَرَدَّ على بَعضِ الصَّحَابَةِ عَينَهُ | وَقد دُخِشَتْ بالرُّمْحِ أَعْظَمَ دَخْشَةِ

تَوَضَّأَ في بِئرٍ فأغْزَرَ مَاؤُها | وَلَم تَكُ، قَبْلاً، قَطُّ تَنْدَى بِقَطْرَةِ

وَجَاءَ بَعِيرٌ نَحْوَهُ يَشْتكِي لَهُ | العَياءَ وَتنْكِيداً لَهُ في العُلُوفَةِ

وَمَرَّ على بَعضِ المِياهِ بِمَرْأَةٍ | لدَيْهَا صَبِيٌّ ذُو اعْتِرَاءٍ بِجِنَّةِ

فَألقى على المَجْنونِ كَفاً كَرِيمةً | بها خَرَجَ الجِنِّيُّ مِنْ بَعدِ ثَعَّةِ

وَكم شَجَرَاتٍ قد أَتَتْهُ فَسَلَّمتْ | عَلَيهِ، وَحَيَّتهُ بِأَزْكَى تَحيَّةِ

وَفِيما رَآهُ الناسُ في الزَّبْرَقانِ مِنْ | تَشقُّقِهِ مِنْ أَكْبَرِيَّةِ حُجَّةِ

وَظلَّلَتِ الصَّهْبا عَلَيهِ وَبَرَّدَتْ | لَهِيبَ هَجيرٍ عِندَ وَقْتِ الظَّهِيرَةِ

وَرَاوَدَهُ شُمُّ الجِبَالِ فآنسَتْ | نِفاراً بِتَحْويلٍ لِتِبرٍ وَفِضَّةِ

وَسَمَّتْ لَهُ لَحْمَ الذِّراعِ عَدُوَّةٌ | فَأخْبَرَهُ نُطْقاً بِمَا فِيهِ دَسَّتِ

وَما لَيْلةُ الإسْرَاءِ عَنكَ خَفِيَّةٌ | أَتَاهُ أَمِينُ اللهِ في بَطْنِ مَكَّةِ

فَأرْكبَهُ ظَهْرَ البُرَاقِ وَلم تِكُنْ | لِغَيرِ رَسُولِ اللهِ أَوْطَى رَكُوبَةِ

فأعْلَى بِهِ السَّبعَ الطِّبَاقَ فَمَا انْتَهَى | سُرَاهُ بِهِ حَتى انْتَهَى تَحْتَ سِدْرَةِ

وَشَاهَدَ أَنْوَارَ الجَلالِ بِعَينِهِ | وَأَثْبَتَ جِبرَائِيلُ أَوْضَحَ رُؤْيَةِ

فَمَا زَاغَ مِنْ تِلكَ البَوَاهِرِ جَأشُهُ | وَلَكِنَّهُ مُسْتَوْطِنٌ للألُوكَةِ

وَأَوْعَبَهُ الرَّحَمَنُ فَيضَ مَعارِفٍ | وَأَوْحَى إِليهِ ما أَرَادَ بِقُدْرَةِ

وَطِيفَ بِهِ الجَنَّاتِ بَينَ قُصُورِها | فَشَاهَدَ ما في الخُلْدِ مِنْ كُلِّ لَذَّةِ

وَطَافَ بِأقْطَارِ السَّمَواتِ كُلِّها | وَأبْصَرَ ما في الكَوْنِ مِنْ كُلِّ آيةِ

أبو مسلم في هذه الصورة لم يخرج عن التقليد الإسلامي العام بما في ذلك مذهبه الفقهعقدي الإباضي الذي درج منذ أواخر المدرسة الجابرية على استحضار هذه الصورة للنبي الكريم أو أجزاء منها.

– الصورة البشرية المعتادة؛ سواء تلك التي تحلى بها النبي في أخلاقه العظيم، أو في استقباله الوحي، أو ردود فعل المشركين حيال دعوته الجديدة:

ثَمَالُ اليَتامَى وَالأَرَامِلِ مُثْمِلٌ | إذا عَضَّ نَابُ الدَّهرِ وَالقَومُ ثُلَّتِ

جَبابرَةُ الأمْصَارِ خَرَّتْ وَنُكِّسَتْ | لِطَلْعَتهِ الأصْنامُ تَحْتَ الأَسِرَّةِ

حَليمٌ عَنِ الزَّلاتِ غَيرُ مُعَاقِبٍ | على الحَوبِ إلاّ بالتَّرَفُّقِ وَالتي..

خَلائِقهُ مَعْشُوقةٌ وفِعالُهُ الــــ | ــــحَميدُة عَزَّتْ أنْ تُدَانى وَجَلَّتِ

وَقد كانَ في مَبدَاهُ يَعْتزِلُ الوَرَى | وَيَطْوِي ثلاثاً لا يَهُمُّ بِشَهْوَةِ

وَكانَ أمِيناً في قُرَيشَ مُحَبَّباً | إليها بِصِدقِ الوَعْدِ قَبلَ النُّبوَّةِ

إلى أنْ أتى جِبْريلُ بالحَقِّ مِنْ لَدَى | الإلهِ وَنَالَ الجهدُ مِنهُ بِغَطَّةِ

فقالَ له: “اقرَأ” قال: ما أنا قَارِىءٌ | فقال له: “اقرأ باسْمِ رَبِّكَ” وَأثْبُتِ

وقمْ وادْعُ واصْدَعْ بالذي جَاءَ في الوَرَى | وَلا تَبْتئِسْ وَاصْبِرُ على كُلِّ نَكْبَةِ

فلما دَعَاها للإلَهِ وَأُرْهِقتْ | أَباطِيلُها وَابْلَوْلَجَ الحَقُ وَلَّتِ

وَأَغْرَتْ بِهِ صِبْيانَها وَعَبيدَها | فكم خَضَّبُوهُ بالدِّما فَوقَ وَجْنةِ

وَقالتْ: أَمَجْنُونٌ يُريدُ يَصُدَّنا | عَنِ اللاتِ وَالعُزَّى وَلم تَتلَفَّتِ

فلما أرادَ اللهُ إبْرَازَ شَمْسِهِ | أتى الوَحْيُ: أَنْ قُمْ وَاشْحَذِ السَّيفَ وَاصْلتِ

وَجَاهِدْهُمُ تُنصَرْ عَلَيهِم بحَوْلِنا | وَبَدِّدْهُمُ في كُلِّ صَحْرَاءَ أَصْمَتِ

فَكَمْ أَدْهَمَتهُم غَارةٌ أَحْمَدَيةٌ | فجُندِلَ فيها مِنهُمُ كُلُّ عُتعُتِ

كأنَّ عَليهِم في العَرِيكَةِ بَعْدَما | سَقاهُم كُؤوسَ المَوتِ مِنْ صَبْغ قُوَّةِ

مُخَرْدَلةٌ أَشْلاؤُهُم بِسِيُوفِهِ | أُتيحُوا قِرًى للوَحْشِ في كُلِّ عِصْمَةِ

فأضْحَى رَسولُ اللهِ في أيِّ عزةٍ | عَلَيهِم، وَأَهْلُ الشِّرْكِ في أَيِّ مَحْوَةِ

– الصورة القرآنية، وإن جاءت ضامرة أمام الصور الأخرى، من مثل تبشير الأنبياء السابقين به:

وَعُصْبَةُ سُوءٍ كذَّبُوهُ وَقد أَتَى | بِكُتْبِهِمُ في كُلِّ آيٍ وَسُورَةِ

وَبَشَّرَهُم عِيسَى المَسِيحُ وَقَبلَهُ | بِتَوْرَاتِهِ مُوسَى، فَحَادَتْ وَضَلَّتِ

– الصورة الإباضية في بعدها العقدي الكلاسيكي، التي تعد مرجعاً معيارياً لأبي مسلم في تصويره النبي في هذه القصيدة، هذا المرجع الذي يرفض أن يكون للنبي كغيره من الخلق القدرة على رؤية الله، فالنبي عند البهلاني ذو قدرات خارقة؛ للإنسان أن يتمادى بخياله فيها، إلا أنها لا تبلغ به القدرة على رؤية ربه؛ دنيا وأخرى:

وَما يَأخُذُ المَدَّاحُ مِنْ وَصْفِ أَحْمَدٍ | كما يَأخُذُ المِنقارُ مِنْ وَسْط لُجَّةِ

تأدَّبْ بِجَنْبِ اللهِ عَنْ قَولِ رُؤْيَةٍ | وَقُلْ ما تَشا مِنْ مَدْحِ خَيرِ البَرِيَّةِ

فَذاكَ اعْتِقادُ المُبْطِلِينَ بِرَبِّهم | وَما قَولُهُم في ذلِكُمْ غَير رِيبَةِ

تَنزَّهَ مَولانا، وَلَيسَ اعْتقادُنا | اعْتقادَ افْتِرَاءٍ مِن حُلُولٍ وَرُؤْيَةِ

فما في كِتابِ اللهِ أنَّ مُحَمَّداً | رَأى رَبَّهُ بالعَيْنِ أَكْمَلَ نَظْرَةِ

وَلِكنَّ آياتِ القُران بِغيرِ ذا | شَوَاهِدُهُ طُراً على الأفْضَليَّةِ

– لم تظهر صورة النبي في هذه القصيدة بأنه حي بعد رحيل جسده، وكل ما جاء فيه من خطاب –وهو قليل جداً– هو من قبيل المجاز السائر في البيان العربي:

أَتَيْتُ رَسُولَ اللهِ مَدْحاً لِشَأْنِكُم | وَجُهْدِيَ هَذا، فَاعْذُرُوا فَوْقَ قُدْرَةِ

وإنِّيَ قد أَقْرَرْتُ أنِّي مُقصِّرٌ | بِشَأنِكَ مَدْحاً فاعْفُ عَنِّي لِزَلَّتي

أَتَيتُ ذُنُوباً أَبْعَدَتْنِي بِفِعْلِها | عَنِ اللهِ فَاسْتَوْحَشْتُ عَنْهُ بِنُفْرَةِ

فَضَاقَتْ بيَ الدنيا وَضَاقَتْ مَسَالِكِي | بِهَا فَجَفانِي، عِندَ ذاكَ، أَخِلَّتي

وَأنتَ رَسُولُ اللهِ خَيرُ مُشَفِّعٍ | جَعَلْتكَ في دَفْعِ البَلاءِ ذريعَتِي

قصيدة نسب الرسول

– في هذه القصيدة وظّف شاعرنا أبو مسلم البهلاني الدلالات الروائية في الخوارق لفكرة “النور المحمدي”، حيث يذهب إلى أن النبي هو نور تقلّب في الأصلاب والأرحام حتى ظهر متجسداً عندما حملت به أمه السيدة آمنة، وأن الخوارق كاشفة لهذا النور، وهنا تطور في النظر إلى الخارقة عما شهدناه في القصيدة السابقة، حيث كانت الخوارق شاهدة له على فضله على العالمين بما فيهم الأنبياء والملائكة:

أيُّ نُورِ تَقيَّلَتْ أمُّ وَهْبٍ | كانَ مِنهُ الأَمْلاكُ وَالأَنْبِياءُ

غَبَطَتْها السَّمَاءُ فِيهِ فَكَادَتْ | غِبْطةً فِيهِ أنْ تَمُورَ السَّماءُ

حَضَنتْهُ حَوَاضِنُ اللطْفِ في الغَــــ | ــــيْبِ، وَلا آدَمٌ وَلا حَوَّاءُ

في شُهُودٍ يُسَبِّحُ اللهَ وَالأمْــــ | ــــلاكُ والرُّسْلُ، وَالوُجُودُ خَلاءُ

……

قَذَفتْهُ فِي قَالَبِ البَشَرِ الحِكْــــ | ــــمَةُ نُوراً تَصُونُهُ الأَحْشاءُ

مِنْ مَجيدٍ إلى مَجيدٍ إلى أنْ | أمْجَدَتْهُ زُهْرِيَّةٌ زَهْرَاءُ

فأضَاءَتْ نُوراً وَبَشّرَها الحُو | رُ وَزَارَتْ مَكَانَها الأَنبياءُ

وَتَنادتْ بِقِصَّةِ الحَمْلِ أَمْلا | كُ السَّمَوات، وَالسُّرُورُ النِّدَاءُ

كَبَيَانِ العَجْمَاءِ نُطْقاً عَنِ الــــ | ــــحَمْلِ وَبِدْعٌ أنْ تَنْطِقَ العَجْمَاءُ

وَتحَلَّت بالزُّخْرُفِ الأرضُ إذ زُ | فَّتْ إليها عَرُوسُها السَّرَّاءُ

وَسَقتْهَا المُبشِّرَاتُ بما فِــــ | ــــيهِ لِبُشْرَى بَشِيرِها إِيمَاءُ

وَتَهَاوَتْ أَسِرَّةُ المُلكِ وَالأصْــــ | ــــنامِ وَاسْتَوْحَشَتْ بِهِ الأَهْواءُ

رَفَعَتْ حُجْبَها الغُيُوبُ عن النو | رِ الذي أشْرَقت بِهِ الأضْواءُ

……

خَاطباً في مَلائِكِ اللهِ وَالنو | رِ بِهِ مِنْ مُحَمَّدٍ وَالبَهَاءُ

ثم طَافوا بِهِ العَوَالِمَ وَالأر | ضُونَ تَهْتزُّ فَرْحَةً وَالسَّمَاءُ

وَتَسَابيحُ اللهِ تُتلى مِنَ الإيجَا | دِ شُكْراً، إذْ جَلَّتِ النَّعْمَاءُ

وَعَرَى الكَعْبَةَ الحَرامَ انْتِشَاءٌ | وَاهْتِزَازٌ كَأنهُ العَرْوَاءُ

وَاسْتطالتْ لِحَضْنِهِ الوَحْشُ وَالــــ | ــــطَّيرُ، وَفِي عَينِ اللهِ عَنْها غِنَاءُ

– نجده أيضاً يقول بنظرية “الفيض المحمدي”، وملخصها أن النبي أول الخلق والأصل الكلي الذي انبثقت منه الخلائق كلها:

لا تَسَلْ عَنْ تأخُّرِ الشَّكْلِ عَنهُ | هُوَ كُلٌّ وَهُم لَهُ أَجْزَاءُ

سَبَقوا في الدُّنيا، وفي عَالَم الغَــــ | ــــيبِ لَهُ السَّبقُ دُونَهُم وَالجَلاءُ

فَهُوَ السَّابقُ الأخِيرُ ليَمْتا | زَ لَهُ بَينَ حَالَتيهِ العَلاءُ

قَذَفتْهُ فِي قَالَبِ البَشَرِ الحِكْــــ | ــــمَةُ نُوراً تَصُونُهُ الأَحْشاءُ

مِنْ مَجيدٍ إلى مَجيدٍ إلى أنْ | أمْجَدَتْهُ زُهْرِيَّةٌ زَهْرَاءُ

فأضَاءَتْ نُوراً وَبَشّرَها الحُو | رُ وَزَارَتْ مَكَانَها الأَنبياءُ

……

قَلَمُ اللهِ حُجَّةُ اللهِ في اللو | حِ الذي فِيهِ الثَّبْتُ وَالانْمِحَاءُ

نُقْطَةُ الاخْتِيارِ وَالألِفُ الــــ | ــــقَائِمُ قَبْلَ الظُّهُورِ، بَلْ وَالبَاءُ

مَظْهَرُ العَينِ وَالذي ظَهَرَتْ | مِنهُ وَفِيهِ الصِّفاتُ وَالأسْمَاءُ

– بروز الصورة المسيحية [نسبة إلى المسيح عليه السلام]، وهي وإن كانت في بدايتها ولم تتضح جلية، إلا أن نظرية “التجسد” كانت حاضرة، وإن اختلفت عن التفكير المسيحي في كونها عند أبي مسلم “تجسد نوري” فيما في النظرية المسيحية هي “تجسد إلهي”، ظهرت هذه النظرية في ذكر طهارة أصل النبي محمد عليه الصلاة والسلام من جهة أمه وأبيه، بل وفي التصريح أن النبي محمداً هو “مسيح” بيد الله، وفي الإلماح إلى نسبه مقاربة بما يرد في الأناجيل من ذكر نسب عيسى، وكذلك في كونه نوراً حل الجسد البشري وحملت به السيدة آمنة كما أن المسيح –عند النصارى– إلهاً حل في الناسوت حملت به السيدة مريم:

نَسَبٌ صَانَهُ الجَمالُ الإلــــ | ــــهِيُّ لِسِرٍّ بِهِ عَلَيْهِ انْطِوَاءُ

مَسَحَتْ بالزَّكَا عَلَيهِ يَدُ اللهِ | فلا بِدْعَ مِنْهُ ذاكَ الزَّكَاءُ

لم تُشنَّعْ أُمٌّ بِلؤْمٍ وَفُحْشٍ | لا، وَلا شُنِّعَتْ بِهِ الآبَاءُ

……

قَذَفتْهُ فِي قَالَبِ البَشَرِ الحِكْــــ | ــــمَةُ نُوراً تَصُونُهُ الأَحْشاءُ

مِنْ مَجيدٍ إلى مَجيدٍ إلى أنْ | أمْجَدَتْهُ زُهْرِيَّةٌ زَهْرَاءُ

– لم يتضح في هذه القصيدة موقف أبي مسلم من ماهية نور النبي بعد رحيل جسده، هل هو حي خالد؟ هل لديه القدرة على تصريف الأمور؟ مع وضوح رؤيته بأنه كان سابقاً لغيره من المخلوقات ومنه انبثقت، ولذلك خلت القصيدة من خطاب مباشر من الشاعر البهلاني للنبي عليه السلام.

قصيدة الغوث السريع بالحبيب الشفيع

– نجد هنا تطويراً لنظرية “النور المحمدي” إلى القول بأن النبي محمد صلى الله عليه وسلم “علة الوجود”، بعد أن رأينا في القصيدة السابقة أن النبي هو نور تناقلته الآباء والأمهات، ومنه كذلك فاضت الكائنات، نراه هنا يقول بأن هذا الوجود ما وجد إلا لأجل هذا النور المحمدي:

وَكَيفَ تُفدَى بكَوْنٍ أَنتَ عِلَّتُهُ | لَولاكَ ما أُوْجِدَتْ مَوجُودَةُ الفِطَرِ

ثم قال إن الأنوار بل أصل جنسها لما كان “لم ينر” لولا النور المحمدي:

شَمسُ النبُوَّةِ إجْلالاً وَمَرْتَبَةً | لولاهُ قِندِيلُ جِنْسِ النُّورِ لَمْ يُنِرِ

– فصّل كثيراً في نظرية “الفيض المحمدي” حتى قال بأن الرحمة التي تغمر الكون هي منه، وأن النظام الكوني بأسره فاض منه عليه السلام:

لا عَرْشَ لا فرَشَ لا كُرْسِيَّ لا مَلَكاً | لا إنسَ لا جِنَّ لم يَمْدُدْهُ بِالخِيَرِ

أَبٌ لِكُلِّ وُجُودٍ أَصْلُ مَبْدَئهِ | مِنهُ، وَمِنهُ مِدَادُ الأنفُسِ الطُّهُرِ

لا بِدْعَ أنْ تَغْمُرَ الأكْوانَ رَحْمَتُهُ | لأنها مِنهُ كالأَغْصَانِ لِلثَّمَرِ

– صورة النبي قبل حلوله في الجسد البشري:

هذا النور متقدم لآدم ومغاير للبشر؛ إذ هو نور من حضائر نور الله حلَّ في أبي البشر آدم، وكان في كل ذلك قائماً بالعبودية لله فهو يحج ويعتمر ويصلي:

يا مَنْ تَقدَّمَ نُوراً في حَظائِر نُو | رِ اللهِ حَتى تَلَقاهُ أَبُو البَشَرِ

فلم يَزلْ تَتلَقَّاهُ الكِرَامُ على | طَهَارَةِ الشَّرْعِ حتى حَلَّ في مُضَرِ

وَمِنهُ في صُلْبِ إِلْيَاسٍ فَأَسْمَعَهُ | في الصُّلْبِ لَبَّيكَ بَينَ الرُّكْنِ وَالحَجَرِ

……

في عَالَم النُّورِ لم تَفْتُرْ مَسَاجِدُهُ | مِنهُ، فَلا تَفْتَكِرْ في عَالَمِ الصُّوَرِ

– تطورت نظرة شاعرنا أيضاً إلى الخوارق، بعد أن كانت مؤيدة للنبي أولاً، ثم كاشفة للنور المحمدي، نجد أنه يجعل النبي في مرتبة هو أعلى من يحتاج إليها، لا بصفته نبياً ولا بصفته نوراً، وإنما هي تكريم للرحم الذي حمل بتجسده البشري؛ أي تكريم لآمنة؛ وإن كان هذا التكريم هو تكريماً له على وجه الحقيقة، كما أنه لا يمنع أن يكون تبصرة لمن لم يبصر هذا النور:

حتى تَهلَّلَ في مِشْكَاةِ آمِنةٍ | يا أخْتَ زُهْرَةَ حِزْتِ النُّورَ فازْدَهِرِي

وَزَارَها أَنْبِياءُ اللهِ قَاطِبةً | فَبَشَّرُوها بِهِ في نَوْمَة السَّحَرِ

وَكمْ لها مِنْ خُصُوصَاتٍ وَخَارِقةٍ | في حَمْلِهِ شَاهَدَتْهَا رُؤيَةُ البَصَرِ

وَللخَوَارِق في لَوْحِ الوُجُودِ لَهُ | في بُرْهَةِ الحَمْلِ شَأنٌ غَيرُ مُسْتَتِرِ

ما صَدْعُ إِيْوَانِ كِسْرَى في تَزلْزُلِهِ | إلاّ لِنازِلةٍ مِنْ مُعْجِزِ القَدَرِ

وهيَ التي طَيَّرَتْ إِكْلِيلَ مَفْرِقِهِ | يا طَيرُ قَدْ عِشْتَ دَهْراً قَبْلُ لمْ تَطِرِ

وَما لِسَاوَةَ غَاضَتْ هَلْ تَقيَّلَها | وَادِي سَمَاوَةَ حَتى فَاضَ بالقَفَرِ

وَما دَهَى النارَ مِنْ خَطْبٍ إذ انْطَفأتْ | يا نارُ في كَبِدِ الإشْرَاكِ فَاسْتعِري

حتى إذا آنَ إتْحَافُ الوُجُودِ بِهِ | وَأن يُبَاشِرَهُ بِالفَوزِ وَالظَّفَرِ

تهلّلَ العَرْشُ وَالكُرْسِيُّ وَالمَلأُ الــــ | أعلى وَزُخْرِفَتِ الجَنَّاتُ بالبُشَرِ

وَجاءَ جِبْرِيلُ بالتَّمْجِيدِ مُبْتَدِراً | مَشاعِرَ اللهِ وَالأمْلاكِ في زُمَرِ

وَحَفَّتِ الحُورُ وَالعَذْرَاءُ مَرْيمَ وَالــــ | ــــغَرَّاءُ آسِيَةٌ في الدَّلِّ وَالخَفَرِ

بِبنْتِ وَهْبٍ وَرَوحُ اللهِ يَمْسَحُها | بالرُّوحِ وَالنُّورِ مِنْ أَنْفاسِهِ العُطُرِ

وَالبَيتُ يَهْتزُّ وَالأَمْلاكُ خَافِقةٌ | شرقاً وَغرباً وَكَوْنُ اللهِ في حَبَرِ

تنزَّلتْ في غَوَاشِي الرُّوحِ لائِحَةُ الــــ | إِذْن الإلَهِيِّ بَينَ الفَجْرِ وَالسَّحَرِ

……

ما للمَعَاجِزِ قَدْرٌ في مَرَاتِبهِ | الشَّأنُ أَغْنَى عَنِ التَّدْلِيلِ وَالنَّظَرِ

مَجْدُ الرِّسَالَةِ وَالشأنُ المُضَافُ لَهُ | شَهَادَةُ اللهِ أَغْنَتهُ عَنِ العِبَرِ

عِزُّ المَكَانَةِ عِندَ اللهِ مُتَّصِلٌ | بحُجَّةِ اللهِ لا تَسْبِيحَةِ الحَجَرِ

وَإنَّما سِيقتِ الآياتُ تَكْرِمَةً | لَهُ وَتَبْصِرةً للسَّيءِ البَصَرِ

– صورة النبي بكونه قائد جيش الملائكة والملأ الأعلى، وجبريل أحد جنوده:

كم فَيلَقٍ جَرَّهُ مِنْ تَحْتِ رَايَتِهِ | جُيُوشُ جِبريلَ فَوقَ الشُّزَّبِ الضُّمُرِ

مُسَوَّمِينَ بنورِ اللهِ يَقْدُمُهُم | حَيزُومُ وَالمَلأُ الأعْلَى على الأثرِ

يُبَاشِرُونَ الوَغَى بُلْقاً خُيُولُهُمُ | صُفراً عَمَائِمُهُم في قَالب البَشرِ

نِعْمَ الكَتائِبُ رُوحُ الحَقِّ سَيِّدُها | وَالرُّوحُ جِبرِيلُ مِنْ فُرْسَانِها الذُّمُرِ

– صورة النبي بكونه مليك الأنبياء و”عاصم الكونين” و”سلطان العوالم” و”مولى الفطر”:

يَحْمِي حِمَاها مَلِيكُ الأَنْبياءِ أبِــــ | ــــيُّ الضَّيْمِ حَياً وَمَيتاً مِنهُ في وَزَرِ

لَيْثُ الرِّسَالةِ صِنْدِيدُ المَلاحِمِ سُلــــ | ــــطانُ العَوَالِمِ مَوْلى سَائِرِ الفِطَرِ

شَمسُ النبُوَّةِ إجْلالاً وَمَرْتَبَةً | لولاهُ قِندِيلُ جِنْسِ النُّورِ لَمْ يُنِرِ

مُحَمَّدٌ عَاصِمُ الكَوْنَينِ فَاتحُ كُــــ | ــــلِّ الخَيرِ قَائدُ كُلِّ البِرِّ وَالخِيَرِ

فَتحُ السعادةِ في الدَّارَين مَوْهِبَةٌ | مِنهُ، وَإِنْعاشُ جَدِّ العَاثِرِ الذَّعِرِ

– صورة النبي الباقي وإن غاب عنا شخصه، ويستخدم شاعرنا البهلاني لفظة “غاب” دون مات توطئة بأنه باق على الحقيقة، وأن الكون تحت سمعه وبصره:

إنْ غَابَ شَخْصاً، فَمَا غَابَتْ شَهَادَتُهُ | الكَوْنُ مِنهُ مَحَلُّ السَّمْعِ وَالبَصَرِ

سَرَتْ عِنايتُهُ في كُلِّ ناشِئةٍ | وَرَوحُهُ سَرَيان المَاءِ في الشَّجَرِ

مِهَادُ رَأْفَتِهِ عَدْنٌ وَنَحْنُ بها | في مِقْعَدِ الصِّدْقِ نَحْيا عِندَ مُقْتَدِرِ

مُحَصَّنِينَ بِحِصْنٍ مِنْ رِعَايَتِهِ | مُسْتعْصِمِينَ بِهِ في الصَّفْوِ وَالكَدَرِ

– خطاب النبي بلغة الخطاب الإلهي:

مما نلحظه في هذه القصيدة أنه يخاطب النبي بخطاب الله، وأنا هنا أتجنب عن عمد استخدام عبارة (يضفي على النبي صفات الله)، لأن هذا حكم قاطع قد لا يقصده أبو مسلم البهلاني، كما أن أبا مسلم وإن ارتفع في المديح النبوي وأطلق له عنان خياله فإنه توجد لديه مسافة جلية بين الله ونبيه كما سنرى ذلك في القصيدة اللاحقة، يقول في هذا الخطاب:

غَوْثَ الوُجُودِ أَغِثْنِي ضَاقَ مُصْطَبَري | سِرَّ الوُجُودِ اسْتلِمنِي مِن يَدِ الخَطَرِ

نُورَ الوُجُودِ تَدَارَكْني فَقدْ عَمِيَتْ | بَصِيرتي في ظَلامِ العَينِ وَالأثرِ

رُوحَ الوُجُودِ، حَيَاتِي إنَّها ذَهبَتْ | مِنْ جَهْلِها بَينَ سَمعِ الكونِ والبَصَرِ

رَوْحَ الوُجُودِ دَهَى الكَرْبُ العَظِيمُ وَفي | أَنْفَاسِ رَوْحِكَ رُوحُ المُحْرَجِ الحَصِرِ

أُنْسَ الوُجُودِ قَدِ اسْتوْحَشْتُ مِنْ زَلَلِي | وَأَنتَ أُنسِيَ في وِرْدِي وَفِي صَدَرِي

أَمْنَ الوُجُودِ أَجِرْني مِنْ مَخَاوِف ما | أَحْرَزْتُ نَفسِيَ مِنْها في حِمَى الحَذَرِ

عَينَ الوُجُودِ تَرَى بُؤسِي وَنَازِلَتي | وَفِي مَحَالِكَ إِنقاذِي مِنَ الضَّرَرِ

عِزَّ الوُجُودِ بِعِزِّ اللهِ أنتَ لها | فَوَاقِرٌ دَرَسَتْ أَعْيانُها أثري

……

أنتَ الحَياةُ التي نَفسُ البَقاءِ بها | بَلْ أنتَ مَكْنُونُ سِرِّ اللهِ في البَشرِ

مَولايَ مَنْ كُنتَ في الأزْمَاتِ نَاصِرَهُ | فليسَ يَغلِبُهُ شَيءٌ سِوَى القَدَرِ

تلقَّنِي في مَهَاوِي حَوْبَتِي فلقد | أوْقعْتُ نَفسِي بِبُعْدِي عَنكَ في الخَطَرِ

يا مُصْطَفى اللهِ يا مُخْتارَ نَظْرَتِهِ | يا أصْلَ ما أَظْهَرَ الإبْدَاعُ مِنْ فِطَرِ

يا رَحْمَةَ اللهِ يا مَبْعُوثَ رَأفَتِهِ | يا مُظْهِرَ اللطْفِ في الأرْوَاحِ وَالصُّورِ

يا أوَّلَ الكُلِّ بَعْدَ اللهِ مُبْتدَعاً | وَأوَّلَ الكُلِّ عِندَ اللهِ في الخَطَرِ

يا آخِرَ الرُّسْلِ، لا تَأخِيرَ مَرْتبَةٍ | وَإنما السِّرُّ مَطْوِيٌ عَنِ الفِكَرِ

يا ظَاهِراً بكَمَالاتِ الظُّهُورِ على | كُلِّ الظَّوَاهِرِ في سُلطانِ مُقْتَهِرِ

يا باطِناً لم تفُتْهُ الباطِناتُ ولم | يُدرِكْ مَقاماتِهِ عِلمٌ مِنَ الفِطَرِ

قصيدة النشأة المحمدية

في هذه القصيدة يبلغ شاعرنا أبو مسلم الرواحي الغاية القصوى في تصوير محبوبه عليه السلام، ويخلص في رؤيته الصوفية الفلسفية إلى إمكان استخدام كل أدوات المدح، مع التنبيه على عدم مساواته بالله تعالى حيث يقول:

قُلْ ما تَشاءُ وَحَاشَ مَجْدُ اللهِ في | تَمْجِيدِهِ لا تَقْتصِرْ في القَالِ

ولذلك يقدم لنا أبو مسلم صوراً نهاية للنبي لا يمكن تجاوزها إلى أبعد منها:

– يستخدم للكشف عن مجيء النبي ألفاظ “نزل” و”ظهر”:

أهْلاً بِمَنْ نَزَلَ البَسِيطةَ رَحْمةً | فالكُلُّ مِنهُ على يَدٍ وَنَوَالِ

أهْلاً بِمَنْ رَقِبَ الوُجُودُ ظُهُورَهُ | فَقراً إلى مَعْرُوفهِ الهَطَّالِ

إلا أن هذا النزول والظهور لا ينفي عنه الخلق، مما يذكرنا بالجدل الكلامي الدائر بين المسلمين بشأن القرآن الكريم، والمتفق عليه مؤخراً في الحقل الإباضي أنه مخلوق:

أهْلاً بِأَحْمَدَ حَيثُ كَانَ مُحَمَّداً | خَلْقاً وَخُلْقاً في هُدىً وَكَمَالِ

وهذا في نظري ما يستمسك به أبو مسلم في التفريق بين الله والنبي محمد، فكل ما انطوى عليه النبي محمد من مديح إنما هو من الله ومن خلقه وإذنه، وهذا هو الموقف العقدي الذي يحل الإشكال عند التنازع في هذه المدائح.

وليلة الميلاد “أظهرت” و”أبرزت” و”أسفرت من نور النبي”، وأنها أفضل من ليلة القدر التي قيل إنها الليلة التي أنزل فيها القرآن، وهنا مقارنة بين القرآن والنبي في دلالة الإنزال:

يا ليلةَ المِيلادِ ما أَظْهَرْتِ مِنْ | مَجْدٍ وَمَا أَبْرَزْتِ مِنْ إِجْلالِ

أسْفَرْتِ مِنْ نُورِ النَّبِي مُحَمَّدٍ | وَمَحَوتِ آيةَ لِيلِ كُلِّ ضَلالِ

فَفَضُلْتِ حتى لَيلَةَ القَدْرِ التي | هي للكتابِ مَظِنَّةُ الإِنْزَالِ

– الصورة الأزلية للنور المحمدي:

يصور لنا أبو مسلم أن النور المحمدي أزلي، فهو مسافر قادم من الأزل، بل هو النور الذي قبض منه الأزل:

بلَغَ المَدَى سَفَرٌ مِنَ الآزَالِ | بِمَوَاكِبِ الأَعْظَامِ وَالأَجْلالِ

حَلَّ المُسَافرُ بعد أَحْقابٍ خَلَتْ | مِنْ سِيرَةٍ سَبَقتْ على جِبْرَالِ

……

يا نُورَ أوَّلِ قَبْضَةٍ أَزَلِيَّةٍ | ما بِنتَ عَنهُ وَلا الرُّبُوعُ خَوَالِ

– صورة النور المتجسد في النبي، وهو الأمر الكلي الذي انطوت فيه التفاصيل، فبمجيئه كان الأمران:

فَتقبَّلتْ أُمُّ القُرَى مِنْ أُمِّهِ | أُمَّ الكِتابِ وَنسْخةَ الأشْكَالِ

– صورة المتصرف في الوجود:

النبي كما هو عند أبي مسلم في هذه القصيدة متصرف في الأكوان وبأرزاقها وحظوظها؛ قبل تجسده البشري وبعده، فهو يرعى هذا الوجود دائماً، طبعاً دون أن ينفي قيام النور المحمدي بكل ذلك بأمر رباني:

أهْلاً بِمَنْ خُلِقَ الوُجُودُ لأَجْلِهِ | سِرُّ الوُجُودِ وَفاتحُ الأَقْفَالِ

أهْلاً بِمُغْنِي العَالَمِينَ بِجُودِهِ | دُنْيا وَأُخْرَى غُنْيَةَ المِفْضَالِ

فَعَلَى يَدَيْهِ حُظُوظُهُم مَقْسُومَةٌ | حتى السَّعَادَةُ قِسْمةَ الأنْفالِ

وَعَطَاؤُهُم مِنهُ عَطاءُ مُبَرِّرٍ | وَحُقُوقُهُم مِنهُ حُقوقُ عِيَالِ

أهْلاً بِمَنْ نَزَلَ البَسِيطةَ رَحْمةً | فالكُلُّ مِنهُ على يَدٍ وَنَوَالِ

……

أمْضَى على المَنفُوذِ قُدْرَة حَاكمٍ | ما شَاءَ كَانَ بِقُدْرَةِ المُتعَالي

في السَّلبِ وَالإيجَابِ وَالإعْدَامِ وَالإ | يجَادِ وَالإيثارِ وَالإِقْلالِ

– لدى أبي مسلم في هذه القصيدة صورة بيانية تشيء بالقول بنظرية “عودة النبي”، وربما استخدام بلاغي لاستقباله في التجلي الجسدي ليلة الميلاد، إلا أنه يمتح من نظرية “عودة المسيح” و”ظهور المهدي المخلص”:

يا سَيِّدَ الرُّسْلِ اسْتقرَّ بك الرَّجَا | فانزلْ، فَدَيتكَ، رَاحِمَ النُّزَّالِ

انْزلْ، فَديتكَ، مُرْتَضًى مُتقبَّلاً | بِكَ، مِنكَ، فِيكَ بَشائرُ الإقْبَالِ

انْزِلْ، فَديتكَ، قيِّماً بالكائنا | تِ مُسَلَّطاً في القَبْضِ وَالإيصَالِ

انْزِلْ على نُزُلِ المَحَبَّةِ وَالصَّفا | وَالخُلَّةِ العُظْمَى وَعَرْشِ جَلالِ

انْزِلْ إمَامَ الاسْتِقامَةِ وَالهُدى | لِتُقِيمَ شَأْنَ المُعْوَجِ الميَّالِ

انْزِلْ أبا الأَكْوَانِ حَافِظَ شَأنِها | بِمَقامِ حِفظِ الليْثِ للأشْبَالِ

العدد الثاني ثقافة وفكر

عن الكاتب

خميس بن راشد العدوي

كاتب ومفكر اسلامي