الشرق والراحلون: ما همست به في أذني الطواحين

كتب بواسطة سعيد الحاتمي

هل الرحيل يا صديقتي خُلق مع الشرق ليرافق الشمس في سفرها الأبدي إلى الغرب؟، وهل المهاجرون لا ينبتون إلا في أرحام الشرق لتغص بهم الطرقات والنوافذ المؤدية إلى روما فيما بعد؟، وإلا لم الإصرار على اقتراف كل هذا الرحيل ولم كل أكوام الحقائب هذه المعدة للسفر؟، ولِمَ كل الأشياء في مدن الملح والأنبياء ابتداءاً من الزهور والنخيل والحالمين والبائسين والأطفال وليس انتهاءا بالياسمين والليمون والزيتون تريد أن تتخذ سبيلها في البحر سربا مع أول مركب يغادر إلى روما؟، أم هي الأشياء الجميلة فقط هي التي كتب عليها أن ترحل؟.

وأنت تتخذ زاوية جيدة للرؤية في ركن ما من ساحات روما الباذخة حيث النوافذ والأبواب مشرعة تفتح أذرعها وآذانها للقادمين والعابرين وكل الطيور والذئاب المهاجرة والعابرة، تستطيع أن ترى بوضوح ماذا فعلت وتفعل مدن الملح والأنبياء هنالك في الشرق بأبنائها وأجسادها وياسمينها وزيتونها ونخيلها وعيونها، تستطيع أن تلمس سُتَر ما ألقت الشياطين في سمعك طويلاً أنه غيب وتابوه وأن تقعد منها مقاعد كثيرة للسمع دون أن تجد شهاباً رصداً، هل قال أحد أجدادنا يوماً ان “الضد يُظهر حسنه الضد” وهو ربما يتأمل بشغف عيون الظباء الموغلة في السواد وهي تتألق على أجسادها البيضاء الشهية؟، وهل نسي ذلك الجد أن يقول لنا أيضاً -أو ربما لم يرد لنا أن نعرف- أن الضد من الجائز جداً أن يظهر قبح الضد وعوراته وآثامه ووجهه المشوه أكثر مما قد يُرينا من جانبه المشرق؟.

مع كل سنين الجفاف ومواسم القحط العجاف التي عرفتها مدن الملح والأنبياء، إلا أنه جرت مياه كثيرة وسفحت دموع أكثر ومع ذلك يبست أغصان أكثر بكثير من تلك المياه التي جرت وتلك الدموع التي سفحت، وكما جرت العادة في مدن الملح والأنبياء الأغصان التي ترفض الجفاف والقحط تَرحل أو تُرٓحَّل أو أنها تبقى بعد أن تُملأ أفواهها بماء كثير دون أن تتسرب تلك المياه إلى سيقانها وأوراقها وأزهارها فتشتعل بالحياة والألق.

فهل الرحيل يا صديقتي خُلق مع الشرق ليرافق الشمس في سفرها الأبدي إلى الغرب؟، وهل المهاجرون لا ينبتون إلا في أرحام الشرق لتغص بهم الطرقات والنوافذ المؤدية إلى روما فيما بعد؟، وإلا لم الإصرار على اقتراف كل هذا الرحيل ولم كل أكوام الحقائب هذه المعدة للسفر؟، ولِمَ كل الأشياء في مدن الملح والأنبياء ابتداءاً من الزهور والنخيل والحالمين والبائسين والأطفال وليس انتهاءا بالياسمين والليمون والزيتون تريد أن تتخذ سبيلها في البحر سربا مع أول مركب يغادر إلى روما؟، أم هي الأشياء الجميلة فقط هي التي كتب عليها أن ترحل؟.

هل قدر الراحلين أن يكونوا دائما هم الأجمل، أن يحملوا على كاهلهم كل خطايا الباقين وآثامهم وآلامهم وأحلامهم الصغيرة والكبيرة وحنينهم لأوطان بدون مخالب وأشواقهم الأبدية لظباء بعيون لا تروعها خناجر العسكر ولا تلوثها ضمائر الفاسدين وقيح العابثين، هل قدرهم أن يحتفظوا في أفواههم بنفس المياه التي اندلقت في أفواه الباقين، وهل كتب عليهم أن يجعلوا من خطواتهم ونظراتهم وألوان عيونهم لغة جديدة تشي بتفاصيل رحيلهم وتبعثر مذكرات غربتهم وكل أسرارها الصغيرة أمام المارة والعابرين كقصاصات الورق، هل قدرهم عندما تسقط آخر رصاصاتهم أن يجعلوا من عيون أطفالهم الغضة قماقم لكل الأحلام والحكايات التي رافقتهم في رحيلهم ولم تنبت بعد؟.

من يصمهم بالغرباء والمهاجرين والمشردين واللاجئين لا يغادر الحقيقة كثيراً ربما هو فقط أكثر صراحة من غيره لانه يسمي الأشياء بأسمائها الحقيقية دونما مواربة، فعيونهم لا تسكن هنا وقلوبهم لا تسكن هنا وحبيباتهم لا يسكنّ أيضاً هنا وأوطانهم قطعاً لا تسكن هنا، لا تنبت لهم أظافر ولا ريش ولا تزدهر قصائدهم هنا في غابات الشتاء والثلج، هل قلتُ لكِ أن الريش والأظافر تماماً كما القصائد تعشق الدفء والشمس وحوافر الخيل والعباءات؟
ينزعون أنفسهم وأجسادهم من الوطن، ولكن من ينزع الوطن منهم؟، من يحررهم من قيود ذلك المقيم فيهم؟، من يغسل أرواحهم الموشومة بعبق الطين والليمون والياسمين وكل توابل الشرق وروائح سجاده ونخيله وعيون حسناواته وكل خطاياه وعوراته؟.

من يذرع طرقات روما من السهل أن يدرك كم هم جميلون يا صديقتي هؤلاء الراحلون، بل هم الأجمل والأكثر أناقة، لم يتخلّوا عن التراب بقدر ما تخلى التراب عنهم، أرواحهم لم تغادر بعدُ الليمون ولا الزيتون ولا النخيل ولا عيون الظباء، من السهل أن تميزهم في طرقات روما وأزقتها لا يأبهون كثيراً بالنظرات المتسائلة:
لم لا تزال أقدامهم وأقدام نسائهم وأطفالهم وحتى كلماتهم عالقة في رمال الشرق وطينه؟
ولم لا يزال عبق الليمون والياسمين والنخيل يضوع من جلودهم وعيونهم وجباههم؟
هل حدثوكِ صديقتي يوما ما لِمَ؟ أم هل استطعتِ أن تقرأي ذلك في عيونهم؟.

هل أترك الراحلين وأخبرك أكثر يا صديقتي عن الشرق ومدنه، مدن الملح والأنبياء، حيث أنبثقوا وشاخت أحلامهم؟ وهل أحدثكِ لِمَ لَمْ يخبروكِ ولماذا لَمْ تستطيعي أن تقرأي قصة الشرق ومدنه على جلودهم وفي عيونهم وعلى جباههم؟
الشرق يا صديقتي كائن عجيب مزاجي ومتقلب ومخاتل، الشرق موطن الأنبياء والفاتحين وكل أبطال وحسناوات ألف ليلة وليلة وقبائل من العشاق والحالمين تماماً كما هو موطن قطعان من الطغاة وقطاع الطرق والكسالى والمشعوذين واللصوص ومؤخراً تجار الدين والليبرالية والحرية وحقوق الإنسان والقصائد والثقافة، الشرق يا صديقتي رغم حروفه التي توحي بالصباح والضياء والنور والدفء والشمس، لا زال لا يُعرف له مكان ولا اتجاه ولا قِبلة ولا موضع دقيق على الخارطة ، ولا زال الثرموميتر يعاني كثيراً إذا ما حاول قياس درجة حرارته المخاتلة، ولا يزال المذيع يتلعثم كثيراً عند قراءة نشرة أحواله وتوقعاته الجوية، ولا يزال جهاز قياس النبض يصاب بالدوار الشديد إذا ما حاول معرفة ماذا تخبيء نبضاته ومؤشراته الحيوية، ولا تزال طوابير من الأطباء والحكماء والمغامرين يغلقون أبواب مستشفياتهم وصيدلياتهم وحوانيتهم ويرحلون بعد أن يقفوا عاجزين عن فك طلاسم الشرق وخبايا مدنه العجيبة.

في الشرق يا صديقتي كما تتكاثر البكتيريا، تتكاثر بنفس المعدل الحوانيت واللغات والكرات السحرية وضاربو الرمل وقارئات الكف والفنجان، بينما تختفي بمعدل أسرع الحروف والمعادلات الكيميائية والرياضية والمجاهر وقواعد النحو والصرف ودواوين الشعر وكل الشعراء والفلاسفة والكيميائيون، في الشرق من السهل أن يُجلد حرف أو يُصلب على قارعة الطريق قبل أن تتسنى له الفرصة ليلتحم مع حرف آخر، في الشرق لا تجرؤ القصائد على الخروج بكامل زيها تماماً كما لا تجرؤ المعادلات الكيميائية على الخروج وهي موزونة الطرفين.
في فمي يا صديقتي ماءٌ كثير وروما كما عرفتِها دوماً لا تتورع عن المتاجرة بالقصائد والدماء وحتى قبعات الأطفال ولعبهم البلاستيكية وإلا لكنت أخبرتك أي الطرق سلكها آخر النخيل والياسمين والزيتون وآخر القصائد والمعادلات الكيميائية وآخر الشعراء والفلاسفة وهم يغادرون إلى روما، كنت سأخبرك من أين أتى ضاربو الرمل وقارئات الكف والفنجان وأصحاب الحوانيت والتجار وكيف تسللوا كالبكتيريا بين خلايانا وداخل أوعيتنا الدموية.

هل ستصدقينني يا صديقتي لو قلت لك أني رأيت الرشيد و أبا الطيب وسيف الدولة وأبا العلاء وابن زيدون يجوبون شوارع روما وحاراتها بعد أن خلعوا جلابيبهم الشرقية ولبسوا معاطف روما وامتطوا صهوات أحصنتها، وهل ستصدقينني لو قلت لكِ أنني أقتفي آثارهم وأني رميت بكل أحلامي وأحلام الراحلين هنا بين يدي ملك الروم؟ وأني ألقيت بآخر رصاصة وتخليت عن آخر جندي لدي هنا في غابات الشتاء والثلج؟ وأني نفضت عن عينَيَّ وجلدي آخر ما تبقى من عبق الياسمين والليمون والنخيل؟…هل تصدقينني لو قلت لك ذلك؟.

سأُصْدقك القول يا صديقتي، أني كنت شفا حفرة من اقتراف ذلك كله لو لم يتخطفني كل هذا الضياء الذي تضج به قلوب هؤلاء الراحلين وعيونهم وعيون أطفالهم ونسائهم، لقلتُ لكِ أني وقَّعت بدمي مع الشيطان وثيقة أكفر فيها بكل هذا الليمون والياسمين والنخيل العالق بجسدي، وأني أضعت تماماً يقيني بأن يأتي يوم يستقل فيه الرشيد وأبو الطيب وسيف الدولة وأبو العلاء وابن زيدون إحدى الرحلات المنطلقة من روما ونصفق لهم وهم يطوحون بمعاطف روما عبر نوافذ الطائرة وهي تضع أقدامها للمرة الأخيرة في أحد مطارات بغداد او دمشق او صنعاء.

هل عرفتِ الآن يا صديقتي لِم زوايا روما ومدنها وطواحينها بإمكانها أن تهمس في أُذنك بالكثير من قصص السندباد وكل سفن الشرق وبحارته وحكايات قوافله وحقائب سفره المترعة وحتى عن قصائده وكهنة معابده وشيوخ قبائله؟
وهل أدركتِ لم روما ومدنها وطواحينها بإمكانها أن تخبرك لم هؤلاء الراحلون هم الأجمل؟ ولم هم خبز الشمس الساخن وملحها وطينها؟ ولمَ هم الناطقون الرسميون بكل أحلام الشرق المؤجلة والمجمدة ؟، ولِمَ هم ربما ملحمة الشرق القادمة وغرناطته الجديدة؟.

“هولندا، مارس ٢٠١٥”

أدب الثامن والخمسون

عن الكاتب

سعيد الحاتمي