صفر واحد صفر

كتب بواسطة سلطان حمود

كم أشعر بالاشمئزاز والشفقة في آنٍ معاً على حال كل من لا زال ينعت من يختلف عنه في لون البشرة البيضاء بالعبد, معتبراً إياه وكأنه من جنسٍ خارج كوكب الأرض. يدّعون بأنهم أدنى من سيادتهم في المنبت والأخلاق. ما هذا الهراء! أنسوا بأنهم تماماً مثلهم من دمٍ ولحمٍ ومشاعرٍ, يتألمون ويحزنون!! ألم يسألوا يوماً, يا من يؤمنون بأن ربهم لا يفرق بين عباده في الحساب, ألم يسألوا ما ذنب من لم يكن له خيارٌ في اختيار لونه حتى ُيعامل هكذا معاملة من قِبلهم!!!

ديني هو دين الحق وما خالفه على باطل, مذهبي هو السبيل الوحيد للخلاص من عذاب السعير, والخلود في جنات النعيم, فكري هو فكر السلف الصالح, أما فكر أصحاب هذا العصر فهو الطالح, قبيلتي هي الأصل والفصل, لا تناظرها أصول وفصول قبائل غيري, عرقي هو الأنقى والأصفى, من بين أعراق الجميع, لوني هو أبيض حر, عكس لون ذاك “الأسود العبد”, جنسي هو الذكوري, هو رمز الزعامة والقوامة عليكِ يا ذات الجنس الأنثوي.. ببساطةٍ شديدة, هم مجرد أصفارٍ بجواري, ووحدي أنا أمثل قيمة الرقم واحد على الإطلاق.
بهذه الافتتاحية, اختصرت صور العنصرية التي ما زالت للأسف الشديد تعاني منها البشرية رغم سفور وجهها القبيح على الملأ. منذ نعومة أظفاري وعقلي يستصرخ متسائلاً: لماذا ينهال بعض شيوخ ديننا بالسباب واللعان على أتباع الأديان الأخرى, على غرار سلسلة دعواتهم التي لا تنتهي: “اللهم يتّم أطفالهم, ورمّل نسائهم, وشتّت شملهم..”؟ لدرجة إحساسي أحياناً وكأنني أقف وسط ساحة حربٍ عند سماع خطبهم يوم الجمعة. لا أُبالغ إن قُلت بأن فينا من يصطنع عدوه من عقر داره, ليس إلا, لأنه يختلف معه مذهبياً, فحالة التقاتل والتناحر بين أتباع الدين الواحد في عدة أوساطٍ إسلامية, خصوصاً عند الانفلات الأمني, تجسد حقيقة ما أقول. أكاد أُجزم أن النتيجة هذه قد تطال الجميع, حالما ترّكز مفعول الشحن العنصري تجاه الأخر المختلف دينياً ومذهبياً, مضافاً إليه انعدام الأمن, وانهيار دولة القانون, وما جرائم جماعات الدم والقتل, ابتداءً من طالبان في أفغانستان, مروراً ببوكو حرام في نيجيريا, ووصولاً إلى داعش في العراق وسوريا, إلا أكبر دليلٍ ومثالٍ حي على هذا الحال المُزري الذي تعاني منه الأمة الإسلامية جغرافياً وأيديولوجياً.
في مواجهةٍ تلفزيونية على قناة الجزيرة القطرية بُعيد انطلاقها, بين المفكرة والكاتبة نوال السعداوي وبين الشيخ يوسف البدري, تسمرت منذهلاً آنذاك, كيف تجرؤ سيدةٌ بلا حجابٍ أن تقعد وجهاً لوجهٍ أمام شيخٍ وتلقنه دروساً في جوهر الدين, وبأن المرأة ليست مجرد جسدٍ يمثل عورةٌ, وجب تحجيبه, بل عقل وفكر ومصنع يمارس به الخالق أروع إبداعاته الخَلقية, ألا وهو خَلق الإنسان. لقد كانت تلك بداية نقطة التحول في حياتي, تبين لي بعدها بأن المقياس الحقيقي لفكرةٍ ما ليس بكثرة عدد معتنقيها, إنما بمدى توافقها مع العقل والعلم من جانبٍ, وبصلاحية تطبيقها على أرض الواقع من جانبٍ آخر. إنني مدينٌ جداً إلى كل صاحب فكرٍ حر بإنارته الطريق حولي بكل فخرٍ.
من المضحك المبكي أن يُصنِف البعض البشر تفاضلياً بحسب الأعراق المُنحدِر منها, ويجعل مرتبته العرقية أعلى من مراتب الأخرين, فبدلاً من أن تكون هذه العرقية مصدر إغناءٍ وتعددٍ ثقافي لأي نسيجٍ مجتمعيٍ يحويها, بصفتها تمتلك سماتٍ مشتركة تميز هذا المجتمع عن ذاك لغوياً ودينياً, كعرق البلوش لدينا في سلطنة عمان ودول الخليج, والأرمن في لبنان, والكرد في العراق, والأمازيغ في المغرب, بدلاً من هذا, تُعامل هذه الأطياف الأثنية أحياناً كشواذ عن البقية, حيث لا يتِمُّ السماح بالزواج المختلط منها مثلاً, تخوفاً من تلطيخ نقاء النسب, على حد توهم من يعانون من تضخم الأنا لديهم, المستعلية على باقي شعوب الأرض.
كم أشعر بالاشمئزاز والشفقة في آنٍ معاً على حال كل من لا زال ينعت من يختلف عنه في لون البشرة البيضاء بالعبد, معتبراً إياه وكأنه من جنسٍ خارج كوكب الأرض. يدّعون بأنهم أدنى من سيادتهم في المنبت والأخلاق. ما هذا الهراء! أنسوا بأنهم تماماً مثلهم من دمٍ ولحمٍ ومشاعرٍ, يتألمون ويحزنون!! ألم يسألوا يوماً, يا من يؤمنون بأن ربهم لا يفرق بين عباده في الحساب, ألم يسألوا ما ذنب من لم يكن له خيارٌ في اختيار لونه حتى ُيعامل هكذا معاملة من قِبلهم!!! ثم لماذا يديرون ظهورهم عن العلم, ويتجاهلون العامل المسؤول عن تباين ألوان بشرتنا, وتمايز ملامح وجوهنا عن بعضنا البعض!!!! حسناً, فليسألوا عن (مادة الميلانين) الموجودة في أجسامنا, وينصتوا لما يقوله علم الوراثة عن انتقال صفاتنا الجسدية إلى أبناءنا جينياً. هناك أمرٌ مهمٌ أيضاً, وهو أثر وعلاقة البيئة في إكساب أجسادنا ألوانها وسمات ُبنيتها. هل تساءلوا مرةً, ما الذي يجعل من يعيش في القارة السمراء إفريقيا _على سبيل المثال_ يبدو على نقيض من هو في القارة العجوز أوروبا؟ هل من ُمجيب؟؟
أُقدم اعتذاري _جراء هذا الواقع المر_ إلى كل من انفطر قلبه يوماً وتكبد مرارة انفصاله عن من أحب, متبخراً حلم ارتباطه الزوجي أمام عينيه, بدعوى فارق الانتماء القبلي بينهما. أيُعقل أن نعيش هذا الداء وأٌقدامنا تطأ الألفية الثالثة! يا للعار!! نعم بكل أسفٍ. سوف تظل هذه القبلية تحصرنا في دوائرٍ مغلقة ومعزولة عن التواصل والتزاوج فيما بيننا, ما لم ننظف بشكلٍ عاجل عقولنا وعقول أبنائنا من هذه الأدران, ونُشيّد قيم الانتماء الإنساني عوضاً عنها, لكي نضمن لهم وللأجيال القادمة حياةً خالية من التمييز والتعيير.
صدق أو لا تصدق بأن العنصرية تأخذ أشكالاً وصوراً أخرى غير التي قمت باستعراضها تباعاً أعلاه, فهنالك العنصرية المتعلقة بالمظهر, وببعض الهويات الفنية. إن بوتقة الجماعة قد صهرت فردانية الآخر, وحطمت حقه في أن يبدو بمظهره الخارجي كما يراه مناسباً له, من خلال ارتداء الملابس, وعمل تسريحات الشعر, التي تُعبر عن “ستايل” حياته, وإحساسه بأن يكون هو وليس مجرد “كوبي” يحاكي غيره مظهرياً, وهذا أضعف الإيمان, إن لم يكن شخصياً. لقد ولدّت هذه العقلية الجمعية والقمعية هالةٌ مريبة حوله من قِبل الوسط الاجتماعي المحيط به, وضعته في خانة الانحلال والانفساخ الأخلاقي, طبعاً حسب مفهومها ومقاييسها للأخلاق التي تتركز على مظهر الشخص دون الجوهر, بمنظورٍ سطحي وضيق الأفق. من السخف حقاً بأن ُتقاس هوية شخص ما ومدى ارتباطه بمجتمعه ثقافياً, بناءً على مدى تبعيته وتقليده لمن حوله في طرق وأنماط لباسهم, وقصات شعرهم.
كلنا نعرف بأن الموسيقى والغناء والرقص من الفنون التي تتميز في أدائها شعوب العالم, وتنفرد كل واحدةٍ منها بموسيقاها وأغانيها ورقصاتها عن الأخرى. إنها ليست مجرد فنونٍ شيطانية تُستخدم للمجون وتقود للجنون, مثلما يكرر دائماً على أسماعنا من يفتقدون القدرة على تذوق جمالية هذه الفنون الجميلة. إنها علومٌ يا من لا تملكون حساً وذوقاً لتقدير قيمتها. دعوني أضرب مثلاً لكم, معنا الرقص غالباً ما ينحصر _بلا مؤاخذة_ في هز المؤخرات, أما في العالم الآخر فيندرج كعلمٍ, ويتشعب إلى أنواعٍ عدة, فهناك السامبا, والرومبا, والجاز, والهيب هوب.. متطلباً تكنيكيا عالياً ودقيقاً لإتقانه. على إثر هذا, أُقيمت مدارسٌ ومعاهدٌ لتعليمه, وبرامجٌ تلفزيونية لتخريج نجومٌ موهبة به, ربما أشهرها
(So You Think You Can Dance).
أثناء حياكتي أحرف هذا المقال, قمت بالوقوف على تجارب أشخاصٍ عديدة في معاناتهم مع العنصرية, من خلال استماعي لهم عن ُقربٍ وكثبٍ. تعددت معاناتهم والألم واحد. فمنهم من شكى لي إحساسه بالغربة رغم أنه يعيش وسط أهله وناسه, لأنه يرى الله بعينٍ تختلف عن من حوله, محاولاً صنع دينه الخاص به الذي يجد فيه إيماناً حقيقياً وبلسماً روحياً. ومنهم من ضاق به الحال إلى المضي قُدُماً في الهجرة إلى الغرب, بحثاً عن موطنٍ لقلمه, قلمه الذي ُيعبر من خلاله عن بنات أفكاره التي تكفل له شرعة حقوق الإنسان حمايتها والدفاع عنها سلمياً. ومنهم من دعا إلى إحداث ثورةٍ (عقلية), مطالباً بإسقاط كافة أشكال التمييز الاجتماعية باسم الجنس أو العرق أو اللون أو القبيلة, مؤكداً بأن مطرقة القانون وحدها لا تكفي, ومطالباً بدق أجراس إيقاظ الأدمغة من سباتها المزمن, وحثها على رفع مستوى وعيها ضد هذا الخطر الذي يهدد وحدة كيان الشعوب وتماسكها.
لأن مقالي هذا عن العنصرية, لا يفوتني ذكر أحد أهم وأشهر رموز التصدي لها. إنه الناشط الإنساني والسياسي الأمريكي مارتن لوثر كينج, والذي اغتالته يد الغدر من قِبل أحد أعداء الحرية وحقوق الإنسان, بعد أن فشلت في مقاومة حلمه العظيم في تحرير أبناء وطنه ذوي البشرة السمراء من الاضطهاد, ومساواتهم في الحقوق. فأمام نصب لينكولن التذكاري ألقى خطبته التي لم ولن ينساها التاريخ أبداً, لدي حلم (I Have A Dream). أستشهد بأروع ما جاء بها: “لدي حلم بأن يوماً من الأيام أطفالي الأربعة سيعيشون في شعبٍ لا يكون فيه الحكم على الناس بألوان جلودهم، ولكن بما تنطوي عليه أخلاقهم”.
أخي في الإنسانية, لا تسألني وتحاسبني على ما لم أختره لنفسي؛ فكلنا فتحنا أعيننا في هذه الحياة لنجد أنفسنا بأسماءٍ وأجسادٍ لم نخترها, تماماً مثلما لم يكن لك يدٌ في اختيارك لها, أرجو منك بأن لا تُقدر قيمتي لديك كشخصٍ, وتحدد درجة احترامك لي, قياساً عليها. فوحدها الأخلاق والعلوم عزيزي هي التي ترتقي بقيمة الشخص إنسانياً.

التاسع والخمسون ثقافة وفكر

عن الكاتب

سلطان حمود

كاتب عماني