آية إحياء المسيح الموتى (قراءة في سُننية لسان القرآن)

جاء المسيح بآية إحياء الموتى، وهي آية ضمن رسالته إلى بني إسرائيل:
(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران:49

القرآن بيِّن بنفسه (وَلَقَدْ أَنزَلْنَآ إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ) البقرة:99، مبين لغيره (وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ آيَاتٍ مُّبَيِّنَاتٍ) النور:34، وطالما هو بيِّن بنفسه ومبين لغيره؛ فله نظامه الداخلي الخاص به الذي يعطيه خاصيتي التصديق والهيمنة على ما عداه من الكتاب (وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ) المائدة:48، فلا حديث فوق القرآن.
القرآن يتألف من سور وآيات (سُورَةٌ أَنزَلْنَاهَا وَفَرَضْنَاهَا وَأَنزَلْنَا فِيهَا آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ لَّعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ) النور:1، ومصطلح (آيات) الذي يعبر عن مضامين القرآن يعبر كذلك عن مضامين الكون (وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا أَنزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاء مِن رِّزْقٍ فَأَحْيَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ آيَاتٌ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الجاثية:5، وهذا يدلنا على أن آيات الله هي:
آياته في الكتاب
وآياته في الكون
وآيات الله في الكتاب والكون سياق واحد في القرآن؛ لا فرق بينهما، ولا صدام ولا تنافر ولا تعارض بينهما إلا ما نتوهمه بسبب خفوت أو انعدام السُننية في تفكيرنا، فاختلاف الليل والنهار وتصريف الرياح آيات كونية، كما أن إحياء عيسى عليه السلام الموتى بإذن الله آية كونية، وكلها من عند الله، ولم يعبر القرآن عن هذه الظواهر سوى بمصطلح (آية وآيات)، وارتباط آيات الكتاب بالآيات الكونية على مستوى المصطلح يدل على أنهما سياق معرفي واحد معبر عن سُنن الله التي لا تتبدل.

آيات جاء بها الأنبياء
آيات الكتاب وآيات الكون من عند الله ليعقلها الناس:
(وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُّتَجَاوِرَاتٌ وَجَنَّاتٌ مِّنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَاء وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) الرعد:4
(وَالَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنكُمْ وَيَذَرُونَ أَزْوَاجًا وَصِيَّةً لِّأَزْوَاجِهِم مَّتَاعًا إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْرَاجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْكُمْ فِي مَا فَعَلْنَ فِيَ أَنفُسِهِنَّ مِن مَّعْرُوفٍ وَاللّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ، وَلِلْمُطَلَّقَاتِ مَتَاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ، كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة:240-242
تعقل آيات الكتاب وآيات الكون دور كل جيل بحسب تراكم معارفه وخبراته، فالبشر يراكمون معارفهم وخبراتهم حتى ترتقي أفهامهم في التعامل مع آيات الكتاب وآيات الكون، وبذلك تتحقق وراثة الكتاب لعباد الله عبر الزمان والمكان (ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِّنَفْسِهِ وَمِنْهُم مُّقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ) فاطر:32.
ووعد الله بأن سيري الناسَ تجليات آياتِه (=الكتاب والكون) في حياتهم حتى يتبين لهم أنه الحق (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت:53، ولا يحصل ذلك للناس إلى بتراكم معارفهم وخبراتهم التي تفتح أعينهم على أسرار الكون.
جاء الأنبياء بآيات من عند الله، والحسي من هذه الآيات أطلق عليها فقه ما بعد القرآن اسم (معجزات)، وهذا المصطلح لا أصل له في القرآن، بل مضمونه بعيد عما جاء به القرآن، فالمصطلح وحمولته التاريخية عبَّر عن خوارق لا سُننية منبتة عن آيات الله في الأنفس والآفاق، فمعجزات النبي عندهم (مما يدل على صدقه وخرق الله العادة الجارية لوضوح دلالته وإثبات نبوته ونفي الشك والارتياب في أمره)، ومصطلح (معجزة) الذي قرأ به الفقه الآيات التي جاء بها الأنبياء؛ عبَّر عن أنماط التفكير اللاسننية السائدة قبل القرآن، والتي أعيد استنساخها بعد القرآن.
آيات الله التي جاء بها الأنبياء كونية كإحياء المسيح الموتى بإذن الله؛ هي وآيات الكتاب سياق واحد في التعبير عن سُنن الله التي لا تتبدل ولا تتحول، وهذا التناغم والانسجام بين آيات الله في: الكتاب والكون تعبير عن طبيعتها السُننية التي ينبغي تعقلها بحسب تراكم معارفنا وخبراتنا الزمنية.

آية إحياء الموتى
جاء المسيح بآية إحياء الموتى، وهي آية ضمن رسالته إلى بني إسرائيل:
(وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ) آل عمران:49
هذه الآية حملها الفقه على معنى إحياء النفس بعد مفارقتها الجسد، وموت النفس بمفارقتها الجسد سُنة كتبت على البشر أجمعين بمن فيهم الرسل والأنبياء (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) آل عمران:185
وهذا التأويل لا يزال يثير التساؤلات المشروعة عن خطورة هذا التأويل الذي ينسف ويخرق واحدة من أرسخ سنن الله في الأنفس، والتي لم يستثن منها أحد حتى الأنبياء عليهم السلام؛ لذا لا أرى إشكالاً في إعادة قراءة ما طرحه الفقه حول هذه المسألة:
أولاً: دعونا نعد هذا التأويل الفقهي رأياً يقبل المناقشة والنقد، لأنه فهم بشري.
ثانياً: لا أحد يشكك في قدرة الله، فمجتمعاتنا مؤمنة بالله وقدرته، النقاش في مآلات لسان القرآن حول الموضوع، فقط دعاة التكفير على الرأي وحدهم من يبحثون عن مثل هذه المسوغات لحرب خصومهم عند العجز عن البرهان.
في مقابل هذا التأويل التاريخي أقدم تأويلاً آخر يعتمد على قراءة سُننية للسان القرآن، والطبيعة السُننية لآيات الكتاب تقتضي سريان هذه السُننية في لسانه من أدق مكوناته إلى أكبرها، وسننية لسان القرآن تقتضي أنه كلمة واحدة محكمة في التعبير عن حقائق الإنسان والطبيعة والغيب، وبالتالي يشكل نظاماً داخلياً متكاملاً، بيَّن بنفسه مبيِّن لغيره، وقدرته على بيان نفسه وغيره ترجع إلى سُننيته في تعبيره.
ولذلك فإن جذر الكلمة القرآنية يربط جميع الاشتقاقات برابط واحد ينظم استعمالاتها المتعددة، لأن الجذر الواحد يرجع إلى أصل سُنني في التكوين الجزئي والكلي لمختلف اشتقاقاته.
نبدأ بقراءة الآية (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ):
1. (وَأُحْيِي)
السؤال: ما معنى (حي) في القرآن؟
(اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ) الحديد:20
(الْحَيَاةُ الدُّنْيَا) لعب ولهو وزينة وتفاخر بينكم وتكاثر في الأموال والأولاد، وهذه كلها من الأمور المعنوية، وليست من الكائنات التي لها نفس.
ويلاحظ من مظاهر الحياة الدنيا في الآية أنها تشمل: ما له نفس وما ليس له نفس، طالما أنه ينتمي طبيعة النشاط والحركة في الزمن، فما يوصف بأنه حي هو ما له نشاط وتفاعل حركي في الزمن، سواء كانت له نفس أم لا.
وعليه فلفظة (أحيي) تدل على إعادة النشاط والتفاعل الزمني إلى الأشياء، سواء ما لها نفس وما ليس لها نفس، من أمثلة ذلك في القرآن: (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) فاطر:9 فنسب الإحياء إلى الأرض (فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ)، والأرض خليط من مواد لا نفس لها، وإحياؤها يكون بعودة النشاط والتفاعل الزمني إليها.
2. (الْمَوْتَى):
الجذر (موت) له معنى جامع ينظم كافة دلالاته المتعددة المعروفة في اللسان العربي:
أ. (وَاللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَسُقْنَاهُ إِلَى بَلَدٍ مَّيِّتٍ فَأَحْيَيْنَا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا كَذَلِكَ النُّشُورُ) فاطر:9
(مَّيِّتٍ) جاءت وصفاً لـ(بلد)، وفي حالة (بلد ميت) في الآية تعني من خلال ملاحظة سُننيته: وصوله إلى درجة من غياب الظروف الموضوعية للحياة في البلد، ثم تشكل مرحلة جديدة تختفي فيها مظاهر الحياة بسبب الجفاف والجدب.
ب. (وَآيَةٌ لَّهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا وَأَخْرَجْنَا مِنْهَا حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ) يس:33
(الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ) تمثل سُننياً:
نهاية مرحلة النقص الحاد في العناصر اللازمة لخصوبة الأرض
ثم إعادة ترتيب وتشكيل مرحلة جديدة، هي الجدب والتصحر وانحسار الغطاء النباتي.
ج. (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام:122
ذهب مجاهد من علماء التابعين أن (مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ) تعني ضالاً فهديناه، وقال آخرون: جاهلاً فعلمناه (عبد الرحمن بن علي الجوزي، زاد المسير، ج1 ص116-117)، وهذا المعنى نقله المفسرون دون اعتراض، وهو لا يختلف إذا تدبرناه عن آية إحياء المسيح الموتى.
فالجذر (موت) يدل على الوصول إلى نهاية مرحلة، ثم إعادة ترتيب وتشكيل وضع جديد بعد نهاية المرحلة السابقة، فـ(مَيْتًا) تعني اكتمال حالة معينة كالجهل أو الضلال أو غيرها، وصولاً إلى تشكيل وضع السكون والخمود.
د. (كُلُّ نَفْسٍ ذَآئِقَةُ الْمَوْتِ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ وَما الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلاَّ مَتَاعُ الْغُرُورِ) آل عمران:185
(وَجَاءتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنتَ مِنْهُ تَحِيدُ) ق:19
الموت الذي يمثل نهاية النفس الإنسانية هو نهاية مرحلة بقاء النفس الإنسانية، ثم ترتيب وتشكيل جديد يمثل مرحلة جديدة؛ تبدأ من توقف كامل الوظائف الحيوية في الجسد.
فالجذر (موت) يَؤُول في السياقات القرآنية إلى معنى نهاية مرحلة فاصلة وحاسمة وبداية تشكل مرحلة جديدة على أنقاضها، وذلك من خلال أمثلة (بلد ميت، الأرض الميتة، ميتاً فأحييناه، نفس ذائقة الموت)، وبالتالي فإن الجذر يصلح أن يطلق على أمثلة كثيرة من الحياة انتهت مرحلة فاصلة وحاسمة فيها وبدأت تتشكل مرحلة جديدة على أنقاضها، كاليائس من الحياة بسبب الإحباط الذي لاقاه، أو من يعاني من مرض عضال أو إعاقة، أو الملحد الذي أفنى عمره ضالاً عن خالقه، أو الذي أمضى عمره معاقراً للخمر، أو الجاهل الذي لم ينل فرصة التعليم.
وبناء على هذا المعنى الذي يعقل من القرآن للجذر (موت) أرى أن آية إحياء عيسى بن مريم للموتى (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ) آل عمران:49 تدخل في معنى نهاية مرحلة وبداية تشكل أخرى على إثرها، وهي بعينها ما ورد في قوله تعالى: (أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ) الأنعام:122.
فالمسيح عليه السلام كان يحيي بإذن الله النفوس التي أماتها الجهل والخرافة والضلال واليأس، ويبث فيها الأمل في الحياة من جديد بدعوة ورسالة الأنبياء، من هنا يتبين أن لدينا نظريتين:
– الأولى: تذهب إلى أن إحياء المسيح للموتى هو بإعادتهم إلى الحياة بعد توقف كامل الوظائف الحيوية للجسد، وهي التي يكاد الفقه يطبق عليها.
– الثانية: مفادها أن إحياء المسيح للموتى تعني إحياؤه بدعوته ورسالته النفوس من ضلالها وجهلها وسائر ما يميتها في الحياة.
وإحياء المسيح الموتى كان بإذن الله، وإذن الله مرتبط بكل الآيات التي يأتي بها الرسل (وَمَا كَانَ لِرَسُولٍ أَن يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ) الرعد:38، لأن الله تعالى هو من جعل هذه الآيات وسيرها، فجعلها وتسييرها بإذنه تعالى، وهذا ما يعطي آيات الكون سيروتها وانتظامها (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) فاطر:41.
وتعقلنا هذه الآية يدفعنا إلى الاقتداء بهدي المسيح في إحياء النفوس التي أماتها الجهل والخرافة واليأس والقنوط وسائر ضغوط الحياة، وهذه النظرية تتلاءم مع طبيعة رسالة الأنبياء، وآيات الكون، وسننية لسان القرآن.
وفي الجمع اللغوي توسعوا في نسبة (موت) إلى مختلف الأشياء، ما له نفس وما ليس له نفس، بما يعني نهاية مرحلة وبداية تشكل مرحلة جديدة:
وأمات الشيء طبخاً، وأميتت الخمر طبخت
ماتَت الخَمْرُ: سكن غَلَيانُها
ورجل موتان الفؤاد إذا لم يكن حركا حي القلب وامرأة موتانة الفؤاد
وماتت النار خمدت
ماتَتِ النارُ مَوتاً: بَرَدَ رَمادُها فلم يَبْقَ من الجمر شيء
ومات الثوب أخلق
ومات الطريق انقطع سلوكه
وبلد تموت فيه الريح كما يقال تهلك فيه أشواط الرياح.
ماتَت الريحُ: رَكَدَتْ وسَكَنَتْ
وفلان مات من الغم، ويموت من الحسد
ماتَ الرجلُ وهَمَدَ وهَوَّم إِذا نامَ.
انظر: (محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، مادة “موت”. محمد بن مكرم بن منظور، لسان العرب مادة “موت”).

الستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي