المنابر الإسلامية

اعتلى المنبر فسلم فقعد، ثم قام وأكبّ رأسه على الأوراق التي بين يديه وأخذ يقرأ كلمة كلمة، حرفاً حرفاً، كما يقرأ المأمور قرار المحكمة ساعة النطق بالحكم، في نبرة صوت واحدة، ليس في وجهه أدنى انفعال يشير إلى انسجامه مع ما يقرأ، لأن لسانه يتحرك بالخطبة في غفلة من عقله ووعيه، فلا أحد يعقل ما يقول، ولا هو نفسه يعقله.

اعتلى المنبر فسلم فقعد، ثم قام وأكبّ رأسه على الأوراق التي بين يديه وأخذ يقرأ كلمة كلمة، حرفاً حرفاً، كما يقرأ المأمور قرار المحكمة ساعة النطق بالحكم، في نبرة صوت واحدة، ليس في وجهه أدنى انفعال يشير إلى انسجامه مع ما يقرأ، لأن لسانه يتحرك بالخطبة في غفلة من عقله ووعيه، فلا أحد يعقل ما يقول، ولا هو نفسه يعقله.

وتراه إذ يقلب صفحات الخطبة بين يديه، كالمنوّمِ “تنويماً مغناطيسياً” أو كـ”الرجل الآلي”، يقع في الخطأ اللغوي مرة ومرتين وثلاث وفي نطق الكلمات مثلهنّ، وهو ماضٍ بلا توقف، لا همّ له إلا إنهاء الخطبة التي أوكلت إليه، فيلبس النصوص التي بين يديه معانٍ جديدة من وحي جهله، وينزع من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية روحها الحية بإلقائه المتهالك، ولحنه الثقيل الذي تتعب منه آذان المصلين، وتضِلّ فيه أفهامهم!

وإذا كان هذا حال خطيبنا فكيف حال خطبته؟ إنها خطبة من ورق لا روح فيها، ولو كان لها صوت واستطاعت أن تنطق لصرخت صرخة الأسير بين يدي سجانه، إنها خطبةٌ كُتبت في ساعة عُسرة، في يوم يبست فيه قريحة كاتبها، فجاء بمواعظ لا تربطها صلة، ولا يجمع جملها إلا السجع، فأكثر منه وأساء إذ فعل، فالسجع كملح الطعام، قليله جيّد وكثيره يأنفه الطاعم.
إنه لا بد لمن يقف على المنبر أن يعلم جلالة المكان، وعظم الموقف، إنه يقف حيث وقف أفصح العرب لساناً، وأحسنهم بياناً، فمنبر الجمعة سنة محمدية زكية، بدأها عليه الصلاة والسلام حين وقف على رؤوس الجيل الأول من المسلمين، يخاطب أرواحهم برسالة الإسلام، وينير عقولهم بجواهر التنزيل الحكيم، من على منبر الجمعة انطلقت الجيوش وزلزلت العروش، ورفعت راية الله في أرضه، فأين منابر الإسلام اليوم من الهدف الذي نُصِبت له؟

خطبة الجمعة اليوم -ولا نعمم- عادة أسبوعية للناس، يدخلون فيستمعون لها ويخرجون منها كما دخلوا عليها، فلا تغيّر في أخلاقهم، ولا تزيد في أفهامهم، إنك ترى المشهد في بعض المساجد ساعة الجمعة والناس منصرفة عقولهم إلى هموم الدنيا، يكاد يغلب أبصارهم النعاس، ويصرعها الضجر، ذلك أنهم لا يجدون في الخطبة أسلوباً خطابياً بليغاً يوصل الرسالة العظيمة في القالب الذي تقبله القلوب، ولا في نصّها طاقة روحانية تجذبهم للاستماع والانتباه، ولا يجدون في خطيبهم حرارة النفس، واتصالاً بالنص الذي يشدو به، ولا يرون فيه بعد ذلك كله الداعية الموهوب والإمام الثقة، فهو قارئ لا خطيب، ومردد لا مجدد، لا يقول من الكلام إلا “مكروراً” كل جمعة، ولا يزيد مقدار علمه في موضوع خطبته حرفا واحداً على ما جاء في الأوراق التي بين يديه.

إن من حق المسلمين على خطبائهم أن يحضّروا لخطب الجمعة ويعدّوا لها ما استطاعوا من قوة، فهي أهم اجتماع يجتمع فيه المسلمون ليستمعوا فيه إلى توجيه الدين الحنيف ورأي الشرع فيما يعايشونه في مجتمعاتهم، ولو أعدّ كل خطيب لخطبته حق الإعداد، وتخير لها من المواعظ الأقرب إلى حس الناس، ومن القصص ما تلين له قلوبهم، ومن الفوائد والعبر ما يعينهم على ما يكابدون في حياتهم، ومن الشواهد والأمثال ما يربطهم بنبيهم وصحابته، ولو هو تعلم أصول الفن الخطابي فعلم متى يطيل الجملة ومتى يعيدها، وكيف ينقل السامعين من حالة إلى أخرى، وكيف يسحر أسماعهم ويأسر ألبابهم بإلقاءٍ ماهر موزن، لو علم هذا لاستغنى عن الأوراق التي بين يديه، ولو جمع مع ذلك الثقافة الواسعة والفصاحة البيّنة لمد الله بين قلبه وقلوب السامعين جسراً، وجعل لصوته في أسماعهم حلاوة وطلاوة وقبولاً حسناً، ولإخواننا الخطباء أن يقيسوا بعدهم وقربهم من هذه الأمانة العظيمة؛ إذا علموا أن بعض الأساتذة الجامعيين في بلاد الغرب، يشتغل في التحضير لمحاضرة واحدة يلقيها على طلابه، لما لا يقلّ عن الستين ساعة، يعمل ويجرب ويصحح ويبني ويهذّب، فإذا انتهى ذهب إلى قاعة الدرس –وهي خالية من الطلاب- فشرح الدرس كله، ثم إذا جاء الطلاب شرحه لهم في أحسن صورة.

إن خطبة الجمعة لو وجدت حقها من العناية والإجلال، لكان لها الأثر العظيم، والقوة الجبارة القادرة على هدم المعتقدات الفاسدة في عقول الناس، وتوعيتهم إلى الأخطار التي تواجههم، وإلى واجباتهم تجاه أمتهم وأوطانهم، وإلى ما يرجى منهم للنهضة بالأمة، فليت من له يد في خطب الجمعة أن يستجيب لهذا النداء، ونداء الرافعي: “ألا ليت المنابر الإسلامية لا يخطب عليها إلا رجال فيهم أرواح المدافع، لا رجال في أيديهم سيوف من خشب”.

الحادي والستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

عبدالرحمن البوسعيدي