سُننية رسالة المسيح عليه السلام (وأبرئ الأَكمَه والأَبرَص)

ولا يوجد في سياقات آيات القرآن استعمال للجذر (كَمَهَ) يمكن مقارنته بالأكمه الوارد في الآية، لذلك اعتمد الفقه اعتماداً كلياً على الجمع اللغوي بزمنية وتاريخيته في تأويل (الأكمه)، وكما رأينا انتقى الفقه معنى واحداً للأكمه في الجمع اللغوي وبنى عليه نظريته، وأغفل المعنى الثاني الذي لا يتفق مع نظرية المعجزة.
هذا يدفعنا إلى محاولة قراءة الجذر (كَمَهَ) من داخله، وهي طريقة تعتمد على فهم سُننية اللسان العربي المرتبط بالرسالة والكون، يمكن تقسيم الجذر (كَمَهَ) إلى مقطعين هما (كم/ه):

مصطلح (المعجزة) في بدايات ظهوره الأول في الكتابات الفقهية بعد القرآن قُرِن بالآية، يقول الطبري (ت:310ه): (يقال إن أهل التوراة سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يسأل ربه أن ينزل عليهم كتاباً من السماء آية معجزة جميع الخلق عن أن يأتوا بمثلها شاهدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم بالصدق آمرة لهم باتباعه)(1 ).
مصطلح (معجزة) في هذا السياق تفسير لمصطلح (آية) القرآني، بإسقاط مفاهيم اجتماعية على المصطلح القرآني، وفي مرحلة لاحقة اختفت (الآية) وحلت (المعجزة) محلها! والفارق كبير بين المصطلحين، فآيات الله في الكتاب والكون لقوم يعقلون، والآيات التي أتى بها الرسل من جملة آيات الله القابلة للتعقل الإنساني وفق تطور وتراكم المعارف والخبرات الزمنية.
أما مصطلح (المعجزة) فيدل على أنها غير قابلة للتعقل الإنساني، ويرى القرطبي أن المعجزة تكون:
– مما لا يقدر عليه البشر.
– خارقة للعادة.
– مقرونة بدعوى الرسالة.
– مؤيدة لدعواه.
– مما لا يقدر أحد على الإتيان بمثلها(2 ).
وضم إليها آخرون فكرة التحدي( 3)، فيرون أن حكمة الله اقتضت أن تقترن دعوات المرسلين (بمعجزات) تتحدى الأمم وتبرهن على صدقهم.
وكل هذه الاشتراطات التي يراها القرطبي وغيره نتاج نظر واستنتاج وليست وحياً نازلاً من السماء، فمن أين لأحد أن يدعي أن الآيات غير قابلة للتعقل، بينما يدعو القرآن إلى تعقلها (إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ) النحل:12 دون تفرقة بين آية وأخرى.
ونظرية التحدي بالخوارق التي لا يمكن لأحد الإتيان بها؛ ركن إليها الفقه بتأثير ثلاثة عوامل هي:
1. الثقافة الكتابية في المنطقة العربية قبل القرآن التي ورثت تفسيرات خوارقية لا سُننية لآيات الرسل، وهذه الثقافة كانت هي المهيمنة على المشهد الديني في المنطقة قبل القرآن، ومن الطبيعي أن يبقى هذا التأثير بعد القرآن لتغلغله في وجدان الناس مئات السنين، وهو ما عرف في التراث باسم (الإسرائيليات).
2. أن تراكم معارف الناس وخبراتهم الزمنية في وقت تشكل هذه النظرية لم يستوعب سُننية آيات الكون ومنها آيات الرسل، فجاءت تفسيراتهم الكونية لا سُننية مطبوعة بثقافة الزمن الذي عاشوا فيه، ومن أمثلة ذلك:
أ. تفسير الرعد:
عن مجاهد قال: الرعد ملك يزجر السحاب بصوته.
عن أبي صالح قال: الرعد ملك من الملائكة يسبح.
عن شهر بن حوشب قال: الرعد ملك موكل بالسحاب يسوقه كما يسوق الحادي الإبل، يسبح كلما خالفت سحابة سحابة صاح بها، فإذا اشتد غضبه طارت النار من فيه فهي الصواعق التي رأيتم.
عن بن عباس قال: الرعد اسم ملك وصوته هذا تسبيحه، فإذا اشتد زجره السحاب اضطرب السحاب واحتك فتخرج الصواعق من بينه.
عن عكرمة قال: الرعد ملك في السحاب يجمع السحاب كما يجمع الراعي الإبل.
عكرمة قال: إن الرعد ملك يؤمر بإزجاء السحاب فيؤلف بينه فذلك الصوت تسبيحه.
عن علي بن أبي طالب قال: الرعد ملك.
عن بن عباس إذا سمع الرعد قال: سبحان الذي سبحت له. قال: وكان يقول إن الرعد ملك ينعق بالغيث كما ينعق الراعي بغنمه ( 4).
ب. تفسير البرق:
عن علي قال: البرق مخاريق الملائكة.
عن بن عباس: البرق مخاريق بأيدي الملائكة يزجرون بها السحاب.
عن علي بن أبي طالب قال: الرعد الملك، والبرق ضربه السحاب بمخراق من حديد.
كتب بن عباس إلى أبي الخلد يسأله عن البرق فقال: البرق ماء.
عن مجاهد قال: البرق مصع ملك(5 ).
عن محمد بن مسلم الطائفي قال: بلغني أن البرق ملك له أربعة أوجه: وجه إنسان ووجه ثور ووجه نسر ووجه أسد، فإذا مصع بأجنحته فذلك البرق.
عن بن جريج قال: الصواعق ملك يضرب السحاب بالمخاريق يصيب منه من يشاء (6 ).
3. سحبت قاعدة عدم قدرة البشر على الإتيان بمثل القرآن على آيات الرسل السابقين (قُل لَّئِنِ اجْتَمَعَتِ الإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَن يَأْتُواْ بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لاَ يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا) الإسراء:88 فقالوا إنه كذلك لا يمكن تعقل آيات الرسل السابقين ولا يمكن الإتيان بمثلها.
وهذه المساواة بين آيات الرسل السابقين وآيات القرآن غير موضوعية، فآيات القرآن أنزلت ليعقلها الناس (قُلْ تَعَالَوْاْ أَتْلُ مَا حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُواْ بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَلاَ تَقْتُلُواْ أَوْلاَدَكُم مِّنْ إمْلاَقٍ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ وَلاَ تَقْرَبُواْ الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَلاَ تَقْتُلُواْ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذَلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) الأنعام:151، وتعقل الناس لها يحرر طاقتها الكامنة بتطور المعارف والخبرات الزمنية (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) فصلت:53.
القرآن ليس آية حسية كآيات عصا موسى أو ناقة صالح، إنما هو كتاب أنزله الله مبارك ليدبروا آياته وليتذكر أولوا الألباب، وهو مصدق لما بين يديه من الكتاب ومهيمن عليه، وبسبب الطبيعة الكونية السُننية للقرآن سيبقى خالداً إلى قيام الساعة، أما الآيات الحسية التي أتى بها الرسل السابقون فقد انتهت بوقتها، وانتفاعنا بها يكون بتعقلها في البناء الحضاري.
طالب الله الناس بتعقل آيات الكتاب وآيات الكون (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللّهُ لَكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ) البقرة:242، وآيات الرسل السابقين هي من آيات الكون التي طولبنا بتعقلها والاستفادة منها حضارياً، ولا يوجد في القرآن ما يدل على حَجْر تعقل آيات الرسل السابقين، وبالتالي لا أرى صواب الفكرة التي أطبق عليه الفقه من عدم قدرة أحد على الإتيان بمثل آيات الرسل السابقين.
أما عن عدم قدرة الناس على الإتيان بمثل القرآن فيرجع إلى سبب آخر لا يمت إلى فكرة الخوارق بصلة، القرآن بطبيعته الكونية كامل السُننية في التعبير عن الإنسان والطبيعة والغيب، وهذه السُننية كامنة في كل مكوناته من أدقها إلى أكبرها.
والسُننية الكونية الكاملة في القرآن ضمنت له البقاء والخلود، فمهما تقدمت علوم البشر ومعارفهم سيعتريها النقص الذي يحتاج إلى إكمال، وبتعقل الناس المآلات المتجددة لآيات القرآن يرفعون من سقف استيعابهم لسُننيته الكاملة.
فالقرآن في بنائه (الحرفي/الصوتي) يماثل البنائية الكونية، بحيث إذا تفلت نجم عن موقعه اختل النظام الكوني، ولهذا قابل الله بين بناء آيات القرآن ومواقع النجوم (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ، وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَّوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ، إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ، فِي كِتَابٍ مَّكْنُونٍ، لَّا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ، تَنزِيلٌ مِّن رَّبِّ الْعَالَمِينَ) الواقعة:75-80( ).
-2-
من مفردات آية المسيح (وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ) آل عمران:49.
وقد حمَّلها الفقه مضموناً خوارقياً لا سُننياً تحت عنوان المعجزة، فالإبراء فُسر بالشفاء، والأكمه والأبرص لديه أصناف من المصابين بأمراض عضوية عالجهم المسيح بقوى خارقة للعادة، ونظرية الطبري في ذلك أن الناس في عهد المسيح كانوا أهل طب، وأن ما جاء به المسيح فاق قدراتهم في معالجة هذه الأمراض، فدل ذلك على أن ما جاء به عيسى ليس هو من الطب في شيء، وليس من مقدور البشر، إنما هو أمر معجز يدل على صدق رسالته(7 ).
ونقل الطبري عن وهب أنه ربما اجتمع على عيسى من المرضى في الجماعة الواحدة خمسون ألفاً من أطاق منهم أن يبلغه بلغه ومن لم يطق منهم ذلك أتاه عيسى يمشي إليه، وإنما كان يداويهم بالدعاء إلى الله( 8).
وورد مثل هذا التفسير في إنجيل يوحنا الإصحاح التاسع (1-7): (وفيما هو مجتاز رأى إنساناً أعمى منذ ولادته. فسأله تلاميذه قائلين: يامعلم من أخطأ: هذا أم أبواه حتى ولد أعمى؟. أجاب يسوع: لا هذا أخطأ ولا أبواه لكن لتظهر أعمال الله فيه. ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام نهار، يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل. ما دمت في العالم فأنا نور العالم. قال هذا وتفل على الأرض وصنع من التفل طيناً وطلى بالطين عيني الأعمى. وقال له: اذهب اغتسل في بركة سلوام الذي تفسيره مرسل، فمضى واغتسل وأتى بصيراً).
وفي إنجيل مرقس الإصحاح الأول (40-43): (فأتى اليه أبرص يطلب إليه جاثياً وقائلا له إن أردت تقدر أن تطهرني. فتحنن يسوع ومد يده ولمسه وقال له أريد فاطهر. فللوقت وهو يتكلم ذهب عنه البرص وطهر).
كانت مفردات الثقافة الكتابية شائعة في المنطقة العربية قبل القرآن، وشكلت الثقافة العَالِمة والشعبية؛ وصارت الأساس الذي قرأ به الفقه به آية المسيح، وهذا المشهد تكرر بذات السيناريو في قصص الأنبياء وتفسير الظواهر الكونية والفقه الجنائي، ولم يُعط القرآن فرصة التصديق والهيمنة على التراث الكتابي.
-3-
(وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ) آل عمران:49 (أُبْرِىءُ) من الجذر (بَرَأَ).
في الجمع اللغوي أخذت اشتقاقات هذا الجذر معان متباينة لا يربطها ببعضها رابط، وكأنها جزر متناثرة في المحيط، مع أنها ترجع إلى ذات الجذر، وقد حاول العالم اللساني أحمد بن فارس (ت:395ه) في مقاييس اللغة إيجاد رابط ينظم كافة اشتقاقات الجذر (برأ)، فوجدها ترجع إلى أصلين هما:
أ. الخلق؛ برأ الله الخلق: خلقهم، والبرية الخلق.
ب. التباعد من الشيء ومزايلته، كقولهم برأه الله من كذا وبرئت إليك من حقك، وبرئت من فلان، والبُرء السلامة من السقم(9 ).
محاولة ابن فارس تستحق الإشادة، لكنها تبقى قاصرة، فهو قد اكتفى برجعها إلى مجموعتين، لكنه لم يتمكن من الوصول إلى المعنى الجامع الذي تنتظم فيه كافة اشتقاقات الجذر (برأ)، كذلك فإن من أسماء الله الحسنى (البارئ) وتمت المرادفة بينه والخلق، والبارئ لا تدل على معنى الخلق.
الذي أراه أن (برأ) تؤول إلى معنى حصول انبثاقات متكررة تؤدي إلى إزالة أوضاع معينة من الشيء، ويمكن تقريب هذا المعنى بمثال من اشتقاقات هذا الجذر، فيقال (برى السهم) أي نحته(10 )، كما نقول اليوم في استعمالاتنا المعاصرة (برى القلم)، وبري السهم والقلم يكون بانبثاقات متكررة لنحتها وإزالة ما لا ينفع فيها، وقد وردت عدة اشتقاقات للجذر (برأ) في القرآن:
– (هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ) الحشر:24 فالبارئ هو من ركب خاصية حصول انبثاقات متكررة تؤدي إلى إزالة أوضاع معينة من الشيء، هذه الخاصية تترجم إلى ما نسميه اليوم بالتطور، فالإنسان بانبثاقاته المتكررة في الحياة يزيل أوضاعاً يعيشها بما يطور نمط معيشته مادياً ومعنوياً، وهذا ما يجعله يترقى معيشياً كلما تقدم به الزمن.
– (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُوْلَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ) البينة:7 (الْبَرِيَّةِ) تعبير عن البشر الذين تتطور معايشهم بالخير بانبثاقاتهم الحياتية المتكررة، في مقابل الذين تتطور معايشهم بالشر بانبثاقاتهم الحياتية (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُوْلَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ) البينة:6.
– (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسَى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قَالُوا وَكَانَ عِندَ اللَّهِ وَجِيهًا) الأحزاب:69
(فَبَرَّأَهُ اللَّهُ) انبثاقات متكررة أدت إلى إزالة ما ألصق بموسى من افتراءات، ومن صور هذه الانبثاقات ما أنزله في آيات الكتاب من بيان رفعة منزلته وقيامه بواجبات الرسالة.
– (قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ) الممتحنة:4
(بُرَاء مِنكُمْ) إبراهيم ومن معه قاموا بانبثاقات متكررة أدت إلى إزالة علائق تربطهم بقومهم وما يعبدون من دون الله.
وبناء على ذلك فيكون المعنى الذي يعقل من (وَأُبْرِىءُ) في الآية (وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ) هو ما قام به المسيح عليه السلام من انبثاقات متكررة لإزالة أوضاع معينة يعانيها الأكمه والأبرص، كالمبراة التي تبري القلم، وهذه الانبثاقات تتمثل في جهود حثيثة للعودة بهم إلى حياة طبيعية مستقرة.
-4-
(وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ) آل عمران:49 الأكمه يرجع إلى الجذر (كَمَه).
قدم الجمع اللغوي عدة معان للجذر “كَمَهَ” مما جمعه من الاستعمالات (الإقليمة/الزمنية) للناس:
أ. المعنى الأول: عمي، فالأكمه هو من يولد أعمى، أو هو من يبصر بالنهار ولا يبصر بالليل.
ب. المعنى الثاني: كمه بمعنى تغير، كمِهَ النّهَارُ: إذا اعتَرَضَتْ في الشّمسِ غُبرَة. وكَمِهَ لَونُ الانسانِ: تغَيَّرَ، والأكمه: من ذهب عقله( 11).
اختارت كتب التفسير المعنى الأول ليتناسب مع نظرية المعجزة المفارقة لسُننية الآيات، وأغفلت المعنى الثاني وتحاشته تماماً، والمعنى الثاني للأكمه يدل عل معنى تغير الحال، فالأكمه وفقاً له هو من تغير حاله.
من يهيمن بأعراف الناس ولغوهم على الكتاب العزيز يغفل عن الطبيعة الكونية للكتاب، وعربية القرآن هي تعبيره الواضح البين عن الإنسان والطبيعة والغيب كالعُرُب الأتراب في وضوحهن وانسجامهن، ولا تعني عربية القرآن خضوعه للغو الناس وعوج استعمالاتهم (قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ) الزمر:28، فالقرآن بتصديقه وهيمنته فوق كل حديث بشري.
ولا يوجد في سياقات آيات القرآن استعمال للجذر (كَمَهَ) يمكن مقارنته بالأكمه الوارد في الآية، لذلك اعتمد الفقه اعتماداً كلياً على الجمع اللغوي بزمنية وتاريخيته في تأويل (الأكمه)، وكما رأينا انتقى الفقه معنى واحداً للأكمه في الجمع اللغوي وبنى عليه نظريته، وأغفل المعنى الثاني الذي لا يتفق مع نظرية المعجزة.
هذا يدفعنا إلى محاولة قراءة الجذر (كَمَهَ) من داخله، وهي طريقة تعتمد على فهم سُننية اللسان العربي المرتبط بالرسالة والكون، يمكن تقسيم الجذر (كَمَهَ) إلى مقطعين هما (كم/ه):
أ. المقطع الأول (كم) وهو في كل القرآن يدل على مجموعات تصل إلى درجة معينة من الاكتمال، ولذلك يُسأل به عن العدد، أو يخبر به عن كثرة حصول الشيء.
(قَالَ كَمْ لَبِثْتَ قَالَ لَبِثْتُ يَوْمًا أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ) البقرة:259
(كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ) البقرة:249
ب. المقطع الثاني (ه) وهو الحرف الأبجدي الذي ينطق هكذا (هاء)، وهو صوت يطلقه الإنسان بما يدل على الارتياح بعد ضغط وجهد، ويخرج صوت الهاء باتساع ثم يتناقص شيئاً فشيئاً، فهو صوت دال على التناقص المتدرج.
وبتركيب المقطعين (كم/ه) نحصل على دلالة مجموعات ذات درجة من الاكتمال تبدأ في التناقص، فالأكمه في مجتمعات الناس هو من يمتلك درجة معقولة من الاستقرار المادي والنفسي لكنه في طريقه إلى التدهور والانحدار بخسارة هذا الاستقرار، وهو ما عبرت عنه بعض مفردات الجمع اللغوي بالتغير.
-5-
(وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ) آل عمران:49 الأبرص يرجع إلى الجذر (بَرَصَ).
قدم الجمع اللغوي عدة معان للجذر “برص” مما جمعه من الاستعمالات (الإقليمة/الزمنية) للناس:
أ. يكون في الشيء لمعة تخالف سائر لونه، وسمي المرض المعروف بالبرص لأجل ذلك.
ب. سمي القمر أبرص لأجل ذلك.
ج. والبراص بقاع في الرمل لا تنبت( 12).
الجمع اللغوي أعطى البرص معنى البقع أو اللمع التي تخالف طبيعتها بقية المحيط، وضربوا أمثلة: بالمرض المعروف عند الناس، والقمر في ظهوره بهذا الشكل، وبقع الرمل.
ولا يوجد في سياقات آيات القرآن استعمال للجذر (برص) يمكن مقارنته بالأبرص الوارد في الآية، لذلك اعتمد الفقه اعتماداً كلياً على الجمع اللغوي بتاريخيته وإقليميته في تأويل (الأبرص)، والقرآن يُخضِع أعراف الناس لتصديقه وهيمنته.
يمكن تقسيم الجذر (برص) إلى مقطعين (بر/ص):
أ. المقطع الأول (بر)، وهو مقطع يدل على انبثاقات متكررة، وهو ما يمكن تعقله من (البر) في الآية (لَّيْسَ الْبِرَّ أَن تُوَلُّواْ وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَالْمَلآئِكَةِ وَالْكِتَابِ وَالنَّبِيِّينَ وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّآئِلِينَ وَفِي الرِّقَابِ وَأَقَامَ الصَّلاةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ فِي الْبَأْسَاء والضَّرَّاء وَحِينَ الْبَأْسِ أُولَئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ) البقرة:177، فالبر انبثاقات متكررة في الحياة تأخذ أشكالاً شتى كالإيمان وإيتاء المال والصبر.
ب. المقطع الثاني (ص)، وهو الحرف الأبجدي الذي ينطق هكذا (صاد)، وهو كلمة قرآنية استعملت مشتقاتها بمعنى الصد والممانعة:
(رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا) النساء:61
(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ وَصَدُّواْ عَن سَبِيلِ اللّهِ قَدْ ضَلُّواْ ضَلاَلاً بَعِيدًا) النساء:167
فالصاد هي ما يصد ويمنع.
وبتركيب المقطعين (بر/ص) نحصل على دلالة الانبثاقات المتكررة التي تلاقي صداً وممانعة، القرآن لم يشر إلى مرض اسمه البرص( 13) يعالجه المسيح، بل كان تعبيره دقيقاً عن إبراء المسيح الأكمه والأبرص، والإبراء (الإنساني/الرسالي) مرتبط باسم البارئ عز وجل، الذي ركب في الإنسان خاصية الإبراء التي تدفعه لتطوير حياته إلى الأفضل باستبعاد ما لا ينفع.
فالأبرص إذن هو من يعاني من انبثاقات متكررة، وتلاقي هذه الانبثاقات صداً وممانعة، وفي مجتمعات الناس هذا الصنف هو من أفقدته انبثاقات الحياة استقراره المادي والنفسي، وهو لا يزال في صد وممانعة في مواجهتها.

-6-
علم الله المسيح عليه السلام الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل (وَإِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ) المائدة:110 وهذا التعليم للكتاب والحكمة ينعكس أثره إيجاباً في التعامل سُننياً مع قضايا الحياة، وإبراء المسيح للأكمه والأبرص هو تعامله مع هذه الأصناف بما يملك من (بر) لإزالة ما يقدر عليه من أوضاع سيئة لابستهم، ووفقاً لما يعقل من الآيات فإن:
أ. الأكمه: صنف من الناس في بداية مرحلة فقدان استقراره.
ب. الأبرص: صنف آخر قطع شوطاً في مرحلة التدهور في حياته، لكنه لا يزال يقاوم.
أما الصنف الثالث (الموتى) فيأتي ذكره في المقطع التالي من الآية (وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ) آل عمران:49، وهذا الصنف تكلمت عنه بما يكفي في المقال على الرابط:

آية إحياء المسيح الموتى (قراءة في سُننية لسان القرآن)


وهو صنف يمثل الانتقال من مرحلة إلى أخرى، بمعنى أن تدهور حياته بلغ مرحلة انكسرت فيها كل مقاومته وانتقل إلى مرحلة الاستسلام والسكون والخمود، وهذا لا يكفيه الإبراء، بل لا أن يعاد إلى الحياة مرة أخرى.
فالمسيح عليه السلام برسالته ودعوته يبري أصناف (الأكمه، الأبرص) ويحيي الموتى، وما نعقله من ذلك يدفعنا إلى الاقتداء بهدي المسيح في الإبراء والإحياء لمعالجة الأوضاع الاجتماعية السيئة التي تفتك بالمجتمعات في كل زمان ومكان.
picture

1- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج6 ص8.
2- محمد بن أحمد القرطبي، الجامع لأحكام القرآن، ج1 ص70.
3- علي بن أحمد بن حزم، الفصل في الملل والأهواء والنحل، ج5 ص6.
4- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج1 ص150-151.
5- في الجمع اللغوي: المصاع أصله المجالدة بالسيوف، ثم استعمل في كل شيء جولد به في حرب وغير حرب.
6- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج1 ص152.
7- محمد أبو القاسم حاج حمد، منهجية القرآن المعرفية، ص96.
8- محمد بن جرير الطبري، جامع البيان عن تأويل آي القرآن، ج3 ص277-278.
9- المرجع السابق، ج3 ص278.
10- أحمد بن فارس، مقاييس اللغة، مادة “برأ”.
11- الفيروزبادي، القاموس المحيط، مادة “برى”.
12- محمد بن أحمد الأزهري، تهذيب اللغة، مادة “كمه”. علي بن إسماعيل بن سيده، المحكم والمحيط الأعظم، مادة “كمه”. إسماعيل بن عباد الطالقاني، المحيط في اللغة، مادة “كمه”. محمود بن عمر الزمخشري، أساس البلاغة، مادة “كمه”.
13- أحمد بن فارس، مقاييس اللغة، مادة “برص”. إسماعيل بن عباد الطالقاني، المحيط في اللغة، مادة “برص”.
14- المرض المعروف عند الناس بالبرص عبارة عن بقع (=انبثاقات) تظهر بشكل متكرر على الجلد وتلاقي مقاومة وصداً من الجسد بدرجات متفاوتة.

الحادي والستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي