التسبيح والحمد، بين مآلات القرآن والتاريخ

سخر الله مع داود الجبال يسبحن، والتسبيح هنا مرتبط بالتسخير، وتسبيح الجبال هو جريانها السُنني، ومن خصائص الجبال احتواؤها على معادن يستفيد منها الإنسان، كاستعمالها في صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) الأنبياء:80

(يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الجمعة:1
تسبيح ما في السماوات وما في الأرض لله هو جريانها السُنني الذي أودعه الله فيها، وهذا التسبيح بتفاصيله الدقيقة هي أسرار الكون التي تدفع الإنسان إلى اكتشافها وتسخيرها فيما ينفع.

-1-
(سبح) هو الجذر الذي ترجع إليه الكلمات القرآنية (سَبَّحَ/ يُسَبِّحُ/ يَسْبَحُونَ/تَسْبِيحَهُمْ/ الْمُسَبِّحِينَ/ سُبْحَانَ):
(وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) الإسراء:44
(فَلَوْلَا أَنَّهُ كَانَ مِنْ الْمُسَبِّحِينَ، لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) الصافات:143-144
(قَالُواْ سُبْحَانَكَ لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ) البقرة:32
وقد ذكر القرآن نماذج الليل والنهار والشمس والقمر التي تسبح في أفلاكها والناس في سبحهم النهاري:
1. (وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ وَالشَّمْسَ وَالْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الأنبياء:33
(وَالشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَّهَا ذَلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ، وَالْقَمَرَ قَدَّرْنَاهُ مَنَازِلَ حَتَّى عَادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ، لَا الشَّمْسُ يَنبَغِي لَهَا أَن تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَلَا اللَّيْلُ سَابِقُ النَّهَارِ وَكُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) يس:38-40
وتسبيح ما في السماوات وما في الأرض هو ذاته تسبيح الليل والنهار والشمس والقمر عندما تسبح في أفلاكها، وهو جريانها السُنني الذي أودعه الله في تكوينها.
2. (إِنَّ لَكَ فِي اَلنَّهَارِ سَبْحًا طَوِيلًا، وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا) المزمل:7-8
السبح النهاري للبشر هو جريانهم السُنني في معاشهم، وفي خضم هذا السبح النهاري طولبنا أن نذكر اسم الله بالقلب واللسان ونتبتل إليه تبتيلاً، وهذه المغايرة بين (سبح) و(ذكر) تدل على أن الجذر (سبح) لا يعني ذكر الله باللسان كما يتصور كثيرون.

-2-
(فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا وَسَخَّرْنَا مَعَ دَاوُودَ الْجِبَالَ يُسَبِّحْنَ وَالطَّيْرَ وَكُنَّا فَاعِلِينَ) الأنبياء:79
سخر الله مع داود الجبال يسبحن، والتسبيح هنا مرتبط بالتسخير، وتسبيح الجبال هو جريانها السُنني، ومن خصائص الجبال احتواؤها على معادن يستفيد منها الإنسان، كاستعمالها في صنعة لبوس لكم لتحصنكم من بأسكم (وَعَلَّمْنَاهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَّكُمْ لِتُحْصِنَكُم مِّن بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنتُمْ شَاكِرُونَ) الأنبياء:80
أما تسبيح الطير المرتبط بالتسخير مع داود فيرجع إلى خصائصه الطبيعية، وهذه الخصائص أهلته أن يكون من جند النبي سليمان للقيام بشتى المهام التي تتناسب مع طبائعه (وَوَرِثَ سُلَيْمَانُ دَاوُودَ وَقَالَ يَا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنَا مَنطِقَ الطَّيْرِ وَأُوتِينَا مِن كُلِّ شَيْءٍ إِنَّ هَذَا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ، وَحُشِرَ لِسُلَيْمَانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنسِ وَالطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ) النمل:16-17.
فالتسبيح إذن حالة جريان سُنني طبيعي، وهذا التسبيح من كل المخلوقات يعلن عن انسجامها مع إرادة الله ومشيئته، فعندما نقول في ركوعنا وسجودنا (سُبحان ربي العظيم/سُبحان ربي الأعلى) فهذا إقرار منا بحقيقة أن كل شيء في الوجود يجري سُننياً بمشيئة الله وقدرته.

-3-
في الجمع اللغوي؛ من معاني الجذر (سبح):
– التنزيه؛ فسبحان الله تنزيه لله عن كل ما لا ينبغي أن يوصف به.
– الصلاة؛ وحملوا عليه قوله تعالى: (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الروم:17
– الجريان، من الآية (كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ) الأنبياء:33 أَي يَجْرُونَ.
– السبح والسباحة العوم في الماء؛ انظر مادة (سبح) في معاجم اللغة.
في عُمان يقولون لمن يغتسل في البحر أو الوادي أو الفلج أو البيت: (يَسْبَح أو يتسبَّح)، و(الأم تسبَّح طفلها)، وهو عبارة عن جريان الماء على الجسد.
ولعل أقرب المعاني في الجمع اللغوي إلى الذي ذكرته هو معنى الجريان، فتسبيح كل الموجودات لله هو جريانها السُنني بما أُودع فيها من مشيئته سبحانه، والمعاني الأخرى التي وردت في الجمع اللغوي ترجع إلى معنى الجريان السُنني، فمعنى التنزيه من (سبحان ربك) المستخرج من الآية (سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ) الصافات:180 هو نتيجة طبيعية للجريان السُنني الذي أودعه الله في المخلوقات، فالرب العظيم مجري كل شيء يتعالى عما يصفون.
وحمل التسبيح على معنى الصلاة أخذاً من (فَسُبْحَانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَحِينَ تُصْبِحُونَ) الروم:17 هو مظهر من مظاهر الجريان السُنني للإنسان، فالإنسان بكونه كائناً عاقلاً فإن جريانه السنني لا يقتصر على مجرد الوظائف والخصائص الطبيعية، فنفخة الله فيه من روحه جعلت منه كائناً محتاجاً حاجة فطرية إلى الاتصال بالله ومناجاته، لذا كانت الصلاة بقراءتها وقيامها وركوعها وسجودها وأذكارها تحقق للإنسان الاتصال بالله من غير واسطة في انسجام كامل مع سنن الحياة.
وقد ارتبط في أذهان قطاع عريض من المفسرين أن التسبيح هو نطق اللسان بعبارة (سبحان الله)، وذهب آخرون إلى معنى قريب من معنى الجريان السُنني.
وقد ورد في الجمع الروائي عن عبد الله بن مسعود: (لقد كنا نأْكُلُ الطّعَامَ مع النبي صلى الله عليه وسلم ونَحْنُ نسْمَعُ تسْبِيحَ الطّعَامِ) واستدل بعضهم بهذا الحديث وأشباهه على أن الجماد يتكلم ويسبح مثل البشر!! وأورد ابن الجوزي في (زاد المسير) ثلاثة آراء في تسبيح الجماد:
أحدها: أنه تسبيح لا يعلمه إلا الله
والثاني: أنه خضوعه وخشوعه لله
والثالث: دلالته على صانعه.
وعندي أن مثل هذه الأحاديث تعبير عن ثقافة المجتمعات في تلك الفترة ودرجة تفاعلها الزمني مع آيات الله في الكتاب وآياته في الكون، وهذا التفاعل يحتاج باستمرار إلى التطوير والتحسين بتراكم المعارف والخبرات الإنسانية.

-4-
ارتبط التسبيح بالحمد في بعض الآيات:
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) الإسراء:44
(وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلاَئِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَيُرْسِلُ الصَّوَاعِقَ فَيُصِيبُ بِهَا مَن يَشَاء وَهُمْ يُجَادِلُونَ فِي اللّهِ وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ) الرعد:13
ما نعقله من القرآن أن تسبيح الكائنات هو جريانها السُنني، فالليل والنهار والشمس والقمر تسبح في أفلاكها، فإذا كانت هذه الظواهر والأجرام تسبح بحمد الله فماذا يعني الحمد؟
هل الحمد هو الثناء على الله؟ أم أن له معنى آخر لم ينتبه له المتقدمون بسبب طبيعة المعارف والخبرات المتوفرة لهم زمنياً؟
المفسرون واللغويون أطبقوا على أن الحمد هو الثناء وهو نقيض الذم عندهم؛ وهذا المآل لا سند لهم فيه سوى الهيمنة بأعراف الناس الزمنية الإقليمية على القرآن، وهذا المسلك لابد أن يوصل الناس إلى حالة انسداد في التعامل مع القرآن، فسقف الجمع الروائي/اللغوي منخفض نظراً لطبيعته الزمنية الإقليمية، وإذا هيمن على القرآن فستنعكس طبيعته الزمنية الإقليمية على القرآن.
القرآن كتاب كوني، سقفه عال باتساع الكون وامتداد الآخرة، وتفسيرات (التسبيح والحمد) في الجمع الروائي/اللغوي لم تعد تلائم رسالة وعالمية القرآن، نعذر المتقدمين من المفسرين واللغويين؛ فتلك معارفهم وخبراتهم الزمنية التي لا يمكنهم تخطيها، لكن لابد مع تقدم العلوم والمعارف أن نعيد النظر في الآراء البشرية ونقرأ تجليات المآلات المتجددة لآيات الكتاب بمعارفنا وخبراتنا الزمنية.
يمكن معرفة مآلات الكلمة القرآنية من خلال ثلاث طرق:
1. قراءة سياق آيات الكتاب
2. استعمالات الناس لها عبر التاريخ في اللغات والألسن العربية القديمة والحديثة
3. قراءة بنية الكلمة من داخلها
الذي أراه هو إعمال الطرق الثلاث في نسق واحد متكامل؛ حيث تقرأ الكلمة من داخلها، ثم ينظر في سياقاتها القرآنية ومدى ملاءمة وانسجام المآل المستخرج في سياق الآيات، ثم يقارن ذلك بما في استعمالات الناس في اللغات والألسن العربية القديمة والحديثة، فاللغات والألسن تختزن مادة يمكن الاستفادة منها والبناء عليها.
يمكن تقسيم الجذر (حمد) إلى مقطعين:
أ‌. المقطع الأول (حم)
هذا المقطع ورد في بدايات سبع سور في القرآن، بما عرف بالحروف المقطعة:
(حم، تَنزِيلٌ مِّنَ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ) فصلت:1-2
(حم، وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ) الزخرف:1-2
(حم، تَنْزِيلُ الْكِتَابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ) الأحقاف:1-2
في المواضع السبعة (غافر، فصلت، الشورى، الزخرف، الدخان، الجاثية، الأحقاف) يلاحظ ارتباط المقطع (حم) بالكتاب وتنزيله، والمقطع (حم) هو جذر كلمة (حميم) القرآنية:
(فَمَا لَنَا مِن شَافِعِينَ، وَلَا صَدِيقٍ حَمِيمٍ) الشعراء:100-101
(كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ، كَغَلْيِ الْحَمِيمِ، خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلَى سَوَاء الْجَحِيمِ، ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذَابِ الْحَمِيمِ) الدخان:45-48
والذي يجمع عذاب الحميم والصديق الحميم الاتساع والتعاظم الذي يصل درجة معينة، فالصديق الحميم تتسع وتتعاظم درجة وفائه وصدقه ليسع مختلف تقلبات الحياة، وعذاب الحميم ترتفع درجة حرارته وحماوته ليصل درجات العذاب الأليم، أما ارتباط المقطع (حم) بالكتاب وتنزيله فهو أن الكتاب ذو مآلات متجددة متسعة زماناً ومكاناً.
في الجمع اللغوي: (الحميم الماء الحار. وأحمت الأرض أي صارت ذات حمى كثيرة. وحم الرجل فهو محموم. وحمَّ الرجلُ حُمّى شديدة) وهذه الاستعمالات للجذر (حم) ركزت على تعاظم درجة الحرارة، وهي تدل في عمومها على اتساع وتعاظم يصل إلى درجة اكتمال معينة، فالاتساع والتعاظم الذي يصل إلى درجات اكتمال معينة لا يقتصر على الحرارة وعموم الماديات بل يتعداها إلى المعنويات.
ب. المقطع الثاني (دال)؛ حرف هجاء ينطق هكذا (دال)، و(دال) أيضاً هو اسم فاعل من الفعل (دل)، وهما يرتبطان برابط سُنني واحد يجمعهما، وقد استعمله القرآن في الآية (فَلَمَّا قَضَيْنَا عَلَيْهِ الْمَوْتَ مَا دَلَّهُمْ عَلَى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَن لَّوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ) سبأ:14 الفعل (دلهم) في الآية يعني اندفاع الشيء ماديا أو معنوياً في وجهة معينة، فالحرف/الصوت (دال) يعني الاندفاع باتجاه مقصود.
في الآية (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) الإسراء:44 الجريان السُنني للأشياء (التسبيح) يكون بالحمد، أي أن التسبيح (الجريان السُنني) يُفَعَّل بالحمد، وعليه فالأقرب إلى الصواب أن الحمد هو طاقة الجريان السُنني، فـ(بحمده) في الآية تعني طاقة الحياة التي أودعت في المجرات والنجوم والكواكب والإنسان والحيوان والنبات والجماد وكل شيء في الكون.
وبجمع المقطعين (حم/د):
حم: اتساع وتعاظم يصل درجة معينة، وهذا الاتساع والتعاظم هو لطاقة الأشياء، وهذه الاتساع يصل إلى درجة معينة
د: وجهة (حم) المقصودة ممثلة في وظيفتها وتكوينها
لنأخذ التكوينات الصخرية مثالاً على ذلك، فتسبيحها هو جريانها السُنني، المتمثل في خصائصها ووظائفها، فهي تحوي مواد تستعمل في شتى الأغراض، فإذا كان التسبيح هو الجريان السُنني فما علاقته بالحمد في الآية (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ) الإسراء:44 ؟.
الجريان السُنني (تسبيح) للتكوينات الصخري يحتاج إلى طاقة تغذيه وتبقيه متماسكاً بخصائصه ووظائفه، لذا فـ(حمد) التكوينات الصخرية هي الطاقة الكامنة فيها بما يحفظ لها (تسبيحها).
فعندما نقرأ في صلاتنا (الْحَمْدُ للّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) الفاتحة:2 فإننا نقر ونشهد بحقيقة كونية كبرى هي أن الطاقة التي تحفظ لها تماسك وخصائص ووظائف الأشياء من جعل الله (إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَن تَزُولَا وَلَئِن زَالَتَا إِنْ أَمْسَكَهُمَا مِنْ أَحَدٍ مِّن بَعْدِهِ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) فاطر:41.
ومعنى الثناء الذي حملوا عليه الجذر (حمد) الوارد في القرآن هو أقرب ما يكون إلى النتيجة والأثر المترتب وليس تعريفاً للشيء بخصائصه وتكوينه، وهو الأمر الذي ذاته الذي حصل للجذر (سبح) ومشتقاته في القرآن.


-5-
(تُسَبِّحُ لَهُ السَّمَاوَاتُ السَّبْعُ وَالأَرْضُ وَمَن فِيهِنَّ وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدَهِ وَلَكِن لاَّ تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كَانَ حَلِيمًا غَفُورًا) الإسراء:44
سؤال مشروع يخطر في ذهن قارئ الكتاب العزيز: لماذا (لا نفقه) تسبيح السماوات السبع والأرض ومن فيهن بحمد الله؟
أجاب بعض المفسرين قديماً عن ذلك بالقول إن عدم فقهنا تسبيح السماوات السبع والأرض ومن فيهن بحمد ربها يرجع إلى كونها من الأمور التي تتعالى على الحس الإنساني، بمعنى أننا لا نسمع ذكرهم لله عز وجل، وهذا القول مبني على أصل أن التسبيح قول (سبحان الله).
وإذا كان تسبيح السماوات والأرض ومن فيهن هو جريانها السنني والحمد هو الطاقة التي تبقي وتغذي هذا الجريان؛ فإننا أمام علوم دقيقة متشعبة تحتاج من الناس أحقاباً تلو أحقاب لاستيعابها وفهمها، وغالب الناس ليسوا مؤهلين لاستيعابها بحكم عدم اشتغالهم بدراستها.
إذن (يفقهون) تدل على مستوى إنساني من النظر يمارسه قطاع عريض من الناس، وهذا المستوى له سقف معرفي معين؛ لكنه لا ينفذ إلى منطقة علاقة الجريان السُنني (التسبيح) بالطاقة (الحمد) التي تحتاج إلى مستويات أعلى من النظر كـ(يعقلون/يتدبرون).
وذهب الطاهر بن عاشور في (التحرير والتنوير) إلى قريب من هذا الرأي فقال: (ولعل إيثار فعل “لا تفقهون” دون أن يقول: لا تعلمون، للإشارة إلى أن المنفي علم دقيق).

الرابع والستون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد بن مبارك الوهيبي