قبائل سياسية: الأحزاب الإمريكية نموذجاً

ما يهمنا في هذا السياق هو النظر إلى التحزبات السياسية وكيفية تشكيلها وطرائق عملها والأهم من ذلك غاياتها والدور الذي تقوم به الدعاية السياسية ومدى تأثيرها على مصالح الكل في مقابل مصالح الحزب ومن ثم محاولة الإجابة على السؤال الأهم وهو هل تعد الأحزاب السياسية في وضعها الحالي اليوم شكلا من أشكال القبيلة؟

butterfly-light-ray-blue

قبائل سياسية: الأحزاب الإمريكية نموذجا

المعتصم البهلاني


المقدمة

إن من الغرائز التي أوجدها الله عز وجل في معظم مخلوقاته هي غريزة تجمع ذوات النوع الواحد. حيث يعزز استفزاز هذه الغريزة الشعور بالأمان والقوة، وتعطي مزيدا من الثقة لذوات النوع الواحد حينما تجتمع لغاية واحدة. ونلاحظ تجلي هذه الغريزة في الوجود، فالكثير من الحيوانات المفترسة عادة ما تصطاد في مجموعات لأن فرص سقوط الفريسة في الصيد الجماعي تكون أكبر منها في الصيد الفردي، في المقابل فإن الفرائس عادة ما ترتحل في مجموعات لأن فرص اصطياد الفريسة الواحدة تقل بالنسبة للكل. وكذا ما تظهره الأبحاث الانثروبولوجية والحفرية عن كون الإنسان الأول يصطاد في مجموعات، حيث كانت معظم طرائده من الحيوانات الكبيرة، ويحتاج بطبيعة الحال إلى عدد أكبر من الأيدي لإسقاط هذه الفرائس. وكذا نلاحظ وجود هذه الظاهرة في العبادات المفروضة في العديد من الأديان، حيث يتم أداؤها في مجموعات. فالصلوات عند المسلمين والمسيحين واليهود تكون عادة جماعية، وينسحب هذا أيضا على العبادات الموسمية لدى هذه الاديان وغيرها من أصحاب العقائد. كذا نستطيع التمعن في الكثير من الأعمال النفعية التي يؤديها الإنسان، والتي تأخذ شكلا جماعيا في العادة لا فرديا. ومثلما ذكر ابن خلدون في مقدمته أن الإنسان مدني بطبعه، والبناء المدني النفعي حتما لا يتم بشكل فردي وإنما بشكل جماعي لأصحاب المنفعة الواحدة. يتجلى هذا بالنظر الى البناء العمراني السكني، حيث يعمد سكان المنطقة الواحدة إلى الموازنة ما بين القدر الممتلك من المساحة وبين قربها من المباني الأخرى. كما تتجلى هذه الغريزة بشكل واضح عند مواجهة مجموعة من البشر لخطر محدق، حيث تكون ردة الفعل الأولى هي الانضمام نحو بعضهم البعض. من هنا نستخلص أن التجمع لذات النوع هي قضية غرائزية موجودة في الكثير من المخلوقات.

العناصر الفاعلة

في محاولة لاستقراء التفاعل الغريزي لدى الإنسان، نجد أن أي تجمع بشري يحوي على ثلاثة عناصر؛ محفز غريزة التجمع وهو ما سنرمز له بالدافع، وآلية إشباع غريزة التجمع وهو ما سنرمز له بالوسيلة، والآثار المترتبة على هذا الإشباع وهو ما سنسميه بالنتيجة. وحتى نوضح هذه العوامل الثلاث فإننا نضرب مثالا بمجموعة من البشر يتجهون للصيد. الدافع  لغريزة التجمع هنا هو الحاجة إلى الطعام، الوسيلة هي التجمع للصيد وتوفير وسائل الصيد المتاحة والخروج للبحث عن طريدة، النتيجة هي اصطياد فريسة وإشباع دافع الحاجة الى الطعام. وفيما يبدو أن الإنسان هو أسرع المخلوقات تطويرا للوسائل التي استخدمها في إشباع الدافع. ففي حين أبقت الحيوانات غير العاقلة على وسيلة التجمع السربي التقليدية، أخذت الوسائل لدى الإنسان أشكالا متعددة بدأت في الصيد الجماعي، ومن ثم تجمع أصحاب النسل الواحد فيما يعرف بالقبيلة والتي لم تتخذ أية حدود جغرافية في العادة بل كانت ترتحل في جماعات وتحل حيثما وجدت مكانا موائما للعيش، وبعدها تطورت إلى شعوب حيث تجمعت القبائل لتشكل شعوبا بحدود جغرافية سميت أوطانا. وكإحدى وسائل تعزيز النفوذ قامت الحروب التي تسعى إلى ضم أكبر قدر من القبائل لتنضوي تحت اللواء القطري الواحد. كما برزت الأديان والأحزاب الايدولوجية في محاولة لتجاوز دوافع تجمع العنصر أو الإقليم الواحد إلى دوافع تجمع أصحاب الايدولوجيا الواحدة، حيث تمكن الايدولوجيا من تجميع عدد أكبر من المنتسبين، وذلك بتجاوز النظر إلى العنصر الذي ينتمي إليه الشخص. وبدخول تحقيق الايدولوجيا  هنا دافعا في هذه المنظومة ، طورت البشرية وسيلة أخرى من وسائل التجمع وهي “الدعوة” فيما يتعلق بالأديان و”الدعاية” فيما يتعلق بالأحزاب، وجعلت مهمة الدعوة والدعاية مسؤولية مقدسة لكل منتمٍ لهذا الدين أو تلك الايدولوجية بالترتيب. إلا أن محاولة الجمع بين التوسع الايدولوجي والتوسع القطري النفعي من خلال الحروب أدت إلى اضمحلال هذه القوى، مثلما حدث مع الدول الأموية والعباسية والفاطمية وانتهاء بالعثمانية. كما حدث ذلك أيضا للحملات الاستعمارية البرتغالية والفرنسية والايطالية والإنجليزية، وللنازية في ألمانيا وللشيوعية في الاتحاد السوفيتي والصين وأمريكا الجنوبية، ومثلما ظهرت بوادر حدوثه لدى الرأسمالية في الولايات المتحدة الامريكية بقيادة إدارة جورج والتر بوش المنصرمة. حيث يشير الكاتب بول كنيدي في كتابه قيام وسقوط القوى العظمى إلى هذه الظاهرة، إلا أن الرؤية التي يطرحها كندي ترتبط بالجانب الاقتصادي والموازنة بين قوة الدولة العسكرية وقوة الدولة المالية وأن الخلل في الموازنة ما بين هذه القوى هو ما أدى إلى سقوط القوى الكبرى.

لذا نجد أن أكثر الدول الرأسمالية نجاحا في إبقاء نوع من الاستقرار السياسي والاقتصادي في أقطارها هي دول أوروبا الجديدة، وأقصد بالجديدة هنا أوروبا ما بعد الاستعمار والتي تخلت عن طموحاتها الاستعمارية العسكرية وتمركزت في الترويج لايدولوجيتها الديموقراطية، ودعمها بشكل سياسي واقتصادي بعيدا عن التوسع القطري. وذلك من خلال تفعيلها للتحزب السياسي الداخلي ومؤسسات المجتمع المدني التي عملت على نشر ايدولوجيتها من خلال التبشير السلمي او العمل التطوعي. لذا يمكننا القول اليوم إن التحزبات السياسية ومؤسسات المجتمع المدني هي آخر ما وصلت إليه البشرية([1]) من وسائل التجمع الفطري. فهي تملك العوامل الثلاثة التي ذكرناها سابقا (الدافع، والوسيلة، والنتيجة). ما يهمنا في هذا السياق هو النظر إلى التحزبات السياسية وكيفية تشكيلها وطرائق عملها والأهم من ذلك غاياتها والدور الذي تقوم به الدعاية السياسية ومدى تأثيرها على مصالح الكل في مقابل مصالح الحزب ومن ثم محاولة الإجابة على السؤال الأهم وهو هل تعد الأحزاب السياسية في وضعها الحالي اليوم شكلا من أشكال القبيلة؟

democrat_and_republican_symbols

أحزاب أو قبائل؟

قبل البدء في مناقشة النقاط المذكورة أعلاه، لابد لنا من توضيح لاختيارنا الأحزاب الإمريكية هنا دون غيرها. السبب الأول، أن الديموقراطية الإمريكية هي الوحيدة في العالم اليوم التي تسعى للترويج إلى ايدولوجيتها من خلال الحرب العسكرية المنظمة. والثاني، لأن الولايات المتحدة الإمريكية هي أكثر الدول الديموقراطية تفاعلا مع العالم العربي، وبالتالي فإن أية محاولة لفهم حيثياتها يعد إضافة إلى الحقل المعرفي لفهم الآخر الفاعل في المنطقة. كما لابد لنا من وضع تعريف نسبي مبسط لما نقصده هنا بالحزب السياسي. فالحزب السياسي هو تجمع بشري لايدولوجيا معينة يهدف من خلالها إيجاد وسائل يسيّر بها مصالح مجموعة بشرية تنتمي لقطر معين دون اشتراط انتمائها إلى ذات الايدولوجيا. ومنه يتفرع الحزب الحاكم، وهو الحزب السياسي المختار طوعا من قبل الأغلبية للوصول إلى السلطة. والحزب المعارض، وهو الحزب المختار طوعا من قبل الأقلية للوصول إلى السلطة. من هنا نجد أن الدافع لدى الأحزاب السياسية موحد وهو إيجاد عدد أكبر من التابعين، في حين تختلف الوسيلة باختلاف المنصب (حكم، معارضة). ففي حين تكون الوسيلة لدى الحزب الحاكم هي توفير أفضل سبل العيش للكل، تسعى الأحزاب المعارضة إلى إظهار عيوب الحزب الحاكم وإسقاط مكانته في عيون الناخبين (التابعين). إلا أنها تشترك في الوسيلة الأهم وهي الدعاية التي تروج لنظرة الحزب أو إنجازاته، وهنا تكمن الخطورة لدى الأحزاب المعارضة التي قد تقدم مصلحة الحزب فوق مصلحة القطر. ونجد تجلي هذه القضية واضحا في وقتنا الحالي فيما يفعله الحزب الجمهوري في الولايات المتحدة الإمريكية، حيث يسعى إلى إحباط الكثير من القرارات المصيرية التي تهم المواطن الإمريكي، وأهمها قانون إصلاحات الصحة العامة. حيث لم يصوت جمهوري واحد مع القرار على الرغم من التنازلات التي قدمها الرئيس الإمريكي باراك اوباما في هذا السياق، كما لم يصوت ديموقراطي واحد ضد القرار، وهذا ما يتوقع حدوثه أيضا مع مسودة قرار إصلاحات قانون الهجرة. النتيجة هنا حسبما يرى المحللون هي محاولة إسقاط أكبر عدد من الأصوات الديموقراطية واجتذاب أصوات جمهورية جديدة وبالتالي إيصال الحزب الجمهوري إلى منصب أقوى في البرلمان الإمريكي في انتخابات 2010. أما الدعاية (الوسيلة) التي يستخدمها الحزب الجمهوري، فهي من خلال ما يسمى بـ “حفلات الشاي” والتي تقودها المرشحة السابقة لمنصب نائب الرئيس سارة بيلان. وقد استخدم الحضور أنواعا  شتى من الشعارات العنصرية في هذه الحملة لمهاجمة اوباما، منها إظهاره في صور يترأس فيها قبائل إفريقية، ومنها حمل دمى للقرود في إشارة إلى أصله الإفريقي. كما طالب الكثير بإظهار مكان ميلاده الأصلي –وهو كينيا حسبما يدعون– وإشهار دينه الأصلي وهو الإسلام. لم تركز الدعاية هنا على ما يهم الشارع الإمريكي، وإنما كان ظهورها الإعلامي خفيفا للغاية كمناقشة الإصلاحات التي يحاول اوباما إجراءها على الصعيد الداخلي، والتي من ضمنها الإصلاحات الاقتصادية، وإصلاحات قوانين الصحة والهجرة والتعليم، وأخيرا تنمية موارد الطاقة المتجددة. وللإنصاف، فإن القضايا التي حاول الجمهوريون إظهارها هنا هي قضايا حفر آبار نفطية جديدة، ومسألة الضرائب الخفية والتي ستظهر –في رأيهم– نتيجة الإصلاحات التي يقوم بها الحزب الديموقراطي. هذه السلوكيات التي اتخذها الحزب الجمهوري، يمكن تصنيفها على أنها سلوكيات تهدف إلى تنمية أصحاب الدافع الواحد، وهي سلوكيات قبلية بامتياز. فالقبيلة –والتي هي كيان بشري اجتماعي يحقق مصالح مجموعة من الناس ينتمون إلى عنصر واحد ويعيشون على إقليم مشترك– تسعى هي الأخرى إلى تحقيق مصالح المنتسبين إليها بغض النظر عن مصالح الآخر المختلف في العنصر. بل قد يتعداه في بعض الأحيان إلى العمل على تدمير العنصر الآخر أو تحجيمه لتوفير المصلحة العليا للقبيلة. ففي حين عمدت القبيلة على مبدأي الإغارة والتحالف العسكري لتوفير مصالح أفرادها، تعمد بعض الأحزاب السياسية اليوم على نفس مبدأي الإغارة والتحالف لتحقيق مصالح المنتسبين إليها. وفي حين يكون قرار القبيلة لتحقيق هذه الأهداف يتم بمشورة أعيان القبيلة، تقوم الأحزاب الديموقراطية باختيار مرشحيها وتفيذ قراراتها عن طريق أعيانها ويكون القرار ملزما لجميع المنتسبين بغض النظر عن معارضتهم للموضوع المطروح. فانتخاب مرشح رئاسة لأي من الحزبين الديموقراطي أو الجمهوري لابد فيه من الحصول على أكبر عدد من أصوات الأعيانDelegates  ولدى الحزب الديموقراطي نوع آخر بالإضافة إلى الأول وهم الأعيان المميزون Superdelegates، حيث لا يهم عدد الأصوات التي يحصل عليها المتقدم للترشح من الحزب إن لم يحصل على حد أدنى من أصوات الأعيان. هذا الحدث هو الذي فجر أزمة بين هيلاري كلينتون وباراك اوباما في انتخابات 2008 حيث حصلت كلينتون على عدد أكبر من أصوات الأعيان في حين حصل اوباما على عدد أكبر من أصوات المنتسبين للحزب الديموقراطي مما حدا ببعض الأعيان إلى التراجع عن التصويت لكلينتون والتصويت لاوباما.

أوجه الخلاف

يبقى أن نشير إلى الخلاف في الدافع لدى القبيلة والأحزاب السياسية، ففي حين يكون الدافع لدى القبيلة هو العنصر، تكون الايدولوجيا هي دافع التجمع لدى الأحزاب السياسية. وقد يجادل البعض بأن التجمع العنصري يفضي حتما إلى التفاضل العنصري وهو ما يعرف في الوقت الحالي بالعنصرية. إلا أننا هنا نخلط بين بنيتين أساسيتين، البنية السياسية والبنية الاجتماعية، وهذا الخلط وارد جدا لترابط البنيتين وتاثيراتهما المتبادلة. فالعنصرية بمفهومها التفاضلي هي إحدى نتائج غياب العدالة الاجتماعية، ولم تنفرد بها القبيلة (الكيان السياسي) دون غيرها من الكيانات السياسية، فالديموقراطية الإمريكية قننت وشرعت العنصرية ضد السود، كما أنه وإلى وقت قريب جدا كانت العنصرية الجندرية فيما يتعلق بالرواتب موجودة ولم تلغَ إلا بقانون ليلي ليدبيتر والذي وقعه الرئيس باراك اوباما. هذا القانون يقضي بالمساواة في الرواتب بغض النظر عن الجنس.

في المقابل نجد أن ضعف القبيلة في شكلها السياسي في المناطق التي لا تتمتع بحرية تكوين أحزاب سياسية، يؤدي إلى ضمور دورها المعارض الباحث عن مصلحة أفرادها. في الوقت ذاته يؤدي هذا الضمور السياسي إلى بروز المكانة الاجتماعية، والتي قد تبرز وبشكل واضح التفاضل العنصري (العنصرية) وإيجاد طبقة ارستقراطية داخل نطاق القبيلة بين شيوخ القبائل وأبنائها، مما يولد فقدان ثقة أبناء القبائل بالدور السياسي الذي يمكن أن تلعبه القبيلة، وبالتالي المطالبة بالغائها لما تولده الارستقراطية القبلية –داخل نطاق القبيلة الواحدة وخارجها– من مآسي اجتماعية، والانتقال إلى كيانات سياسية أخرى تتخذ شكلا آخر من أشكال القبيلة. فهل يمكن للكيان السياسي القبلي أن يكون صمام أمان واستقرار سياسي؟ أو أن الدور السياسي سيعزز من الطبقية القبلية وممارسة العنصرية باسمها؟


[1]) عندما نذكر “البشرية” في هذا السياق فإننا لا نطلق تعميما على نجاح تجربة التحزبات السياسية، وإنما إيمانا منا أن ما ينتجه البشر من علوم هو إرث تراكمي للبشرية.

العدد الثالث سياسة

عن الكاتب

المعتصم البهلاني

رئيس تحرير مجلة الفلق الإلكترونية