أميرة لشبونة

كتب بواسطة يعقوب الريامي

كانت نتاليا مصفرّة الوجه مرتجفة الأوصال ، ظلّت تتمتم في سرّها وتشير بيدها إلى صليب المسيح لتصيبها رحمة الرب وعنايته . ازداد تأرجح القارب إلى أن انقلب على بطنه ، وفي أمر غير متوقع لطم المجداف رأس البحار بعنف فوقع مغشيّا عليه فطفى على السطح إلى حين ثم ابتلعه البحر ، أما نتاليا فقد وثبت من القارب وتشبّثت بطرفه وهي تقاوم صفعات الأمواج القاسية .

ساد صمت صباحي في أرجاء البيت الصغير ، كانت أم عيسى تهزّ حجرها بلطف مترقبة بصبر زحف النوم إلى طفلها الذي قضى أغلب ليلته باكيا فلربما كان يشاركها ما أثار خوفها في الفترة الماضية ، ويقاسمها القلق ممّا تحمله الأيام القادمة من نكبات ، كانت شاردة الذهن ، هالة الحزن بادية عليها .

التفّت نحو زوجها أبي عيسى وهو يرتدي ملابسه .

وقع بصرها على أمر جعل وجهها يتمعر غضبا ، وضعت طفلها على الأرض ثم قامت إليه هائجة ، وبخّفة مدّت يدها ثم سحبت نصل الخنجر الذي أخفاه حول خصره ، وقالت له بحرقة :

– لا أريد أن أكون أرملة ولا لطفلك اليتم ، أما علمت أن البرتغاليين الأجلاف أعلنوا أن من يجدون لديه سلاحا سوف يزجّ به في سجون الموت .

نظر إليها أبو عيسى ومن عينيه يبرق الحقد :

– لا يطيب لي العيش بعد أن قتلوا عمي وسملوا عيون أبي .. يجب أن أثأر لهم .

ردّت عليه وهي تضع الخنجر في خزانتها :

– فكّر فينا أولا .. لمن تتركنا ? اذهب الآن إلى السوق وابحث عن الرزق الذي كتبه الله لنا .

خرج أبو عيسى من البيت مضمرا الشرّ بعد أن تلمّس سكينه التي أخفاها داخل ملابسه وزوجته لا تدري عنها ! .

ارتدت مدينة قريات العمانية لباس الخوف ، موج شواطئها مضطرب ، وبيوتها تئن ، وأشجار بساتينها فقدت نظارتها .

ما عاد أهلها يأمنون على أنفسهم ولا على ممتلكاتهم بعد أن شنّ البرتغاليون حملة عسكرية عام 1507م بقيادة البوكيرك بقصد احتلال مدن الساحل العماني ، كل هذا يصبّ في مشروع استعماري كبير .

 

* * * * * * * *

 

في ذلك الصباح بالتحديد انطلق قارب صغير يشقّ البحر ، ربّانه رجل ذو ذراعين مفتولتين يلوح بالمجداف بحرفية ، وفي مقدمته فتاة برتغالية تدعى الأميرة نتاليا

( Natalia ) ، ولدت وترعرعت في مدينة لشبونة .

كانت حلوة القسمات ، ناصعة البياض ، تميل إلى الطول ، ظلّ هواء البحر اللطيف يعبث بشعرها الذهبي كعلم في سارية .

إنها ابنة أحد كبار قادة جيش البرتغاليين ، جاءت لتقضي إجازتها في المرافئ العمانية التي تقع الآن بيد حكومة دولتها ، فقد شغفها سحر الشرق بعد أن تعلّمت اللغة العربية وقرأت بعضا من الكتب التي وصفت بلاد العرب ، فتاقت نفسها إلى اكتشاف عوالمه والغوص في عجائبه .

اليوم استأذنت أباها لتقوم برحلة بحرية على شاطئ قريات .

كانت ترسل بصرها متأملة كلّ ما يقع أمام عينيها ، الرمال الفضية ، أكواخ الصيادين ، الجبال الداكنة البعيدة .

تقدّم القارب في عرض البحر ، و نتاليا في سكرتها بهذه اللوحة الفاتنة ، والبحار مجتهد في دفع القارب كما طلبت منه سيدته .

على نحو مباغت بدأ الهواء يشتدّ قليلا ثمّ تحوّل في وقت قصير إلى ريح عاصف ، جعلت الموج يضطرب بقوّة ، هنا استشعر البحار الخطر فخاطب سيدته بمغبة البقاء في البحر ، كان ردّها سريعا بالعودة إلى الساحل .

طغى الفزع على قلب الأميرة البرتغالية ، فقد تلبدت السماء بسحاب مركوم ثم بدأ المطر في الطهول ، والموج يقذف بالقارب يمنة ويسرة .

بذل البحار قصارى جهده في السيطرة على الحركة العشوائية للقارب والتحكم في قيادته لكن الموج كان يصرعه ، وماء المطر المنهر راح يملؤه إلى أن اشتد الخناق عليهما .

كانت نتاليا مصفرّة الوجه مرتجفة الأوصال ، ظلّت تتمتم في سرّها وتشير بيدها إلى صليب المسيح لتصيبها رحمة الرب وعنايته . ازداد تأرجح القارب إلى أن انقلب على بطنه ، وفي أمر غير متوقع لطم المجداف رأس البحار بعنف فوقع مغشيّا عليه فطفى على السطح إلى حين ثم ابتلعه البحر ، أما نتاليا فقد وثبت من القارب وتشبّثت بطرفه وهي تقاوم صفعات الأمواج القاسية .

 

* * * * * * * *

 

من قلب سوق قريات انطلق طفل حافي القدميين يعدو كأنّه حصان في مضمار سباق ، سلك طريقا بين المنازل إلى أن توقف أمام بيت أم عيسى لكن لم تتوقف يداه عن طرق بابه بصخب ، ذعرت أم عيسى فألقت الذي في يديها تهرول ، شاهدت هذا الطفل اللاهث وهو راكع يلتقط أنفاسه المتعبة .

قال لها :

– عمي أبو عيسى اشتبك مع جندي برتغالي ، فجاء البقية فأوسعوه ضربا إلى أن سقط أرضا ثم سحبوه إلى المجهول .

أطلقت صرخة جزع من هذا البلاء الذي حلّ بها . حين هدأ روعها قليلا طلبت من الطفل إخبار رجال القرية ليتعقبوا أثره .

عادت أم عيسى إلى غرفتها وضمت طفلها وهي تنتحب على حالها وحال أهالي قريات وما جاورها من المدن الساحلية التي اصطلت بالعدوان البرتغالي الغاشم الذي اقترف أعمالا وحشية ولم يستثنِ امرأة ولا مسنّا ولا حتى طفلاً .

كانت ترثي حال الدولة العمانية ، فقد سقطت دولة النباهنة الذين ظلّوا يحكمون لعدة قرون فخلف من بعدهم قبائل متناحرة ، وأئمة متصارعون لا يكاد ينصب إمام حتى يعزل ويأتي آخر ، عندها استغلّ البرتغاليون هذا الوضع السياسي الممزق فنجحت حملتهم التوسعية .

لم تمرّ فترة طويلة حتى ارتجّ باب البيت بطرق آخر ، أوجست أم عيسى خيفة من ملاحقة البرتغاليين لها ، فاقتربت من الباب بحذر فظهر لها من شقّه وجه أخيها فتعجّلت في فتح الباب لعله جاء يحمل أخبارا عن زوجها .

وقفت مذهولة حين وجدته يحمل بين يديه فتاة وهو يدفع الباب بكتفه طالبا منها تهيئة سرير .

قالت له بصوت متهدّج :

– من هذه ? ومن أين أتيت بها ? .

نظر إليها مستلطفا إياها :

– اخفظي صوتك .. سأخبرك بكل شيء لاحقا .

سجّى المرأة على الأرض ثم قال لأخته :

– سارعي في تطبيبها قبل أن يأتي أبو عيسى فيحدث ما لا تحمد عقباه .

قالت :

– لن يأتي  قريبا .. الآن تحت ضربات أحذية البرتغاليين .

نظر إليها بوجه متعرّق :

إذن فعلها .. لقد وفّى بنذره في الانتقام كما حّدثني بالأمس .

نفخ الهواء من صدره ثم قال :

– يبدو أنها فتاة برتغالية ! .. عندما كنت في الصيد وجدتها تعارك الموج ، فانتشلتها من مخالب الموت .

 

* * * * * *

 

استفرغت أم عيسى كل وسعها في الاعتناء بالأميرة نتاليا ، قدمت لها ملابس جافة ، أحاطتها بالدفء ، تفحّصت كل جرح نازف .

بعد ساعة ارتعشت جفناها ثم فتحت عينيها ببطء شديد ، جالت بنظرها فرأت نفسها في بيت لم تألفه ومكان لا تعرفه ، ثم ظهر لها وجه امرأة مزين بابتسامة رضا ، تبين من ملامحها وحجابها أنها عمانية فبادرتها بلغة عربية تحمل صوتا منهكا بعد أن عاد شيءٌ من وعيها :

– لماذا أنا هنا ?

ردّت أم عيسى بلطف :

– أنت في ضيافتنا بعد أن أخرجك أخي من بين أمواج البحر الغاضب .

حينها استذكرت نتاليا تلك الحادثة المرعبة .

قطع أفكارها صوت بكاء طفل فشاهدت أم عيسى تهرع إليه ، بعد برهة عادت تحمله .

نظرت نتاليا إلى الطفل معجبة وقد تحركت فيها غريزة الأمومة فمدت يدها لتأنس برؤيته ، تناولته ثم أخذت تتلمس أصابعه وتداعب وجنتيه ، فسألت :

– ما اسمه ?

– عيسى .

ارتبكت نتاليا حين وقع هذا الاسم في سمعها .

فطنت أم عيسى لما يجول في فكرها ، فقالت :

– نحن نؤمن أن عيسى نبي الله أرسله بدعوة التوحيد ، وهو من البشر ولا نضفي عليه شيئا من الألوهية .

ردت نتاليا :

– أفهم ما تقولينه تماما .

هنا قفز في رأس أم عيسى سؤال له مغزى :

– هل تتوقعين أنّ طفلي هذا سيعيش إلى أن يكبر ?! .

دهشت الأميرة فقالت  في نزق :

– لمَ تقولين هذا الكلام ? .. من يجرؤ على إيذائه ? .

رفعت حاجبيها عاليا وقالت بثقة :

– قومك .. لقد فعلوا الكثير .

كان تلون وجهها والتزامها الصمت دلالة على اعتراف ضمني منها لما يرتكبه البرتغاليون من حالات قتل مروّعة وتعذيب همجي للمقاومين والمسالمين على السواء .

قالت بانكسار :

– إذن لماذا أنقذني أخوك ، ونحن أعداؤكم ?.

– أمرنا ديننا الإسلام عندما تنشب الحرب أن نرفق بالنساء والعجزة والأطفال ، فهولاء ليسوا مقاتلين ، بل أكثر من ذلك فالحيوان والشجر هم في أمان أيضا .

 

ضغطت على شفتها السفلى في امتعاض ثم قالت بانزعاج :

– هذه المثاليات لا تناسبنا .. نحن نفتك بالبشر بقسوة وندمر الأرض كي نرعب المدن الأخرى فيسهل علينا فتحها !.

 

* * * * * *

 

بينما كانت الأميرة البرتغالية تغسل وجهها ظلت أم عيسى تحدق في ملامحها ، خدين متوردين ، عينين خضراوين ، وأنف صغير . حدّثت نفسها .. حتى الأجساد المليحة ليست بمنجاة من أن تسكنها نفوس شريرة .

بعد شربها لحساء دافئ ، شعرت بتراجع طاقتها ، وبقوة تؤهلها للعود إلى مساكن البرتغاليين قبل أن يستبدّ القلق بأبيها .

قالت نتاليا وهي تنظر من كوة البيت المطلة على البحر .

– شدّني جمال بلادكم ، صفاء شواطئها ، هدوء مدنها ، وبساطة عيشكم .

ردّت أم عيسى :

– كذلك حميد أخلاقنا وحسن تعاملنا مع الأخرين يجمل نفوسنا ويسمو بأرواحنا .

طرق ذهن نتاليا أمر فبادرت في تبيّنه :

– أين أبو عيسى .. هل سيأتي قريبا ? .

تنهدت في ضيق :

– لا إدري بالضبط ، فقضبان سجون قومك تغيب من يلبث خلفها فترة طويلة .

لم تحر جوابا ، فقد اعتصمت بالصمت في تبرم .

نشر الحديث أشرعته بين أم عيسى والأميرة بالرغم من أنّ الأخيرة بعض ردوها لا تخلو من نرجسية وصلف :

– لقد سألتني لماذا أنت هنا فأجبتك .. الآن أنا أسألك لماذا أنتم هنا ?! .

قالت في نشوة وقد اشتعل بها غرور عجيب :

– هذا هو حال الأمم منذ قديم الزمان فإقامة مملكة ضاربة هو حلم كل دولة طموحة ، فهذا ملك البرتغال عزم على تكوين إمبراطورية  في ما وراء البحار ، فبعد أن آنس من نفسه القوة والمنعة تأجّج فيه حبّ الاستيلاء والتوسع الجغرافي ، فتطلعنا إلى السيطرة على طرق التجارة في الشرق ، لتعزيز الجانب الاقتصادي للإمبراطورية الوليدة فهو الركن المتين، ولا أخفي عليك ولا يضيرني بالتصريح أن دافع حملتنا هي التعصب الديني ، فلدينا الرغبة في الانتقام من المسلمين بعدما وطئت حوافر خيلهم قلب شبه جزيرة أيبيريا إسبانيا والبرتغال .

رفعت يدها في فخر لاذع ثم أكملت … بقيادة قائدنا العظيم ألفونسو البوكيرك بدأت عمليتنا العسكرية في الهند ثم توجهنا إلى جزيرة سومطرة حينها أدركنا أن أهدافنا الاستعمارية لن تتحقق إلا إذا استولينا على سواحل الخليج ، فتحركنا نحو مملكة هرمز العربية فوجهنا لهم ضربة قسمت قوتهم ، بعدها تحركنا إلى قلهات .

نحن الآن في قريات ، ومخططنا القادم إخضاع مسقط وصحار وخورفكان .

استقبحت أم عيسى فخر الأميرة بعرض إنجازات قومها و تبجحها بمخططهم الاستعماري ، فأمسكت مغضبة بآنية طبخ مصنوعة من الحديد كانت بقربها ، فقذفت بها بعنف على الجدار فأصدرت فرقعة هادرة على إثرها قطع لسان الأميرة ، فصرخت مذعورة ، ماذا حدث  ?? .

كان ردّ أم عيسى حازما :

– حتى الجمادات ساخطة على أفعالكم العدوانية وفقدانكم لأخلاقيات الحرب ! .

 

* * * * * *

 

قدمت الأميرة نتاليا كلمات الشكر لأم عيسى على كرم ضيافتها وحسن رعايتها ، كما طلبت منها أن تبلغ عظيم امتنانها لأخيها الشجاع الذي أمدها بحياة جديدة .

وقبل أن تغادر عتبة البيت ، قالت بثقة :

– لن تشرق شمس الغد إلا وزوجك قد عاد إليك .

في الثلث الأخير من الليل استيقظت أم عيسى على صوت طرقات ، ظهر لها شبح رجل لا يكاد يقف على قدميه ، حين دنت منه بمصباحها رأيت وجها مليئاً بالكدمات الزرقاء ، مجدوع الأنف ، أطلقت شهقة عميقة حين تبيّن أن الواقف أمامها هو زوجها ! .

 

* * * * * *

 

لا أحد يعرف السبب الحقيقي وراء القرار المفاجئ للأميرة  البرتغالية نتاليا في العودة السريعة إلى لشبونة بعد يومين فقط من حادثة البحر .

حتى أبوها لم ينجح في كشف ما في قلبها أمام تكّتمها الصلب ، آخر ما قالته له :

– استأمنتك على عائلة أبي عيسى أن ترفق بهم ! .

* * * * * *

خضعت مدن الساحل العماني لسيطرة البرتغاليين لأكثر من 140 عاما إلى أن توحدت القبائل العمانية على يد الإمام المنتخب ناصر بن مرشد اليعربي  إذ أعدّ جيشاً قام بطرد القوات الغازية من عمان عام 1648م ثم ملاحقتهم في المحيط الهندي وسواحل شرق إفريقيا .

أدب الحادي والسبعون

عن الكاتب

يعقوب الريامي

كاتب عماني