تطور عبادة الرحمن في الجزيرة العربية قبل الإسلام

كتب بواسطة اسماعيل المقبالي

وهكذا نرى كيف أن علم الآثار أضاء مساحات جديدة كانت مجهولة من تاريخ تطور المعتقدات الدينية في الجزيرة العربية حتى استقرت في شكلها النهائي عند بدايات ظهور الإسلام.

 

مع تسارع وتيره الاكتشافات العلمية والأثرية وتطور مناهج تحليل ونقد النصوص في العصر الحديث تبرز الحاجة من جديد لإعادة تقييم نصوص التراث الديني ومعطياتها، وبلا أدنى شك فهذه العملية لا بد أن يعتريها الكثير من الصعوبات والمخاطر لأنها تمس صميم منظومة الاعتقادات القاره في اذهان معتنقيها لعقود واماد طويلة، لكن طال الزمن أو قصر ووضحت الأساليب والغايات او توارت فأن الفتوحات العلمية المتتالية تجعل من الصعب المحافظة على سُوَر القداسة الذي بناه الاولون حول النص الديني، لذلك عمدت كثير من المؤسسات الدينية الغربية والشرقية  (سواء بقناعة منها أو اضطراراً) لغربلة نصوصها الدينية وتسليط سيف النقد العلمي على محتوياتها، وهي بذلك تتجنب خوض حرب استنزاف مع مفاهيم الحداثة والعلمانية وحقوق الأنسان والبحث العلمي وهذا بلا شك ينطبق على الحالة الإسلامية، فعلى الرغم من أن الصدمة الحضارية بدأت منذ مرحلة الاستعمار الغربي للعالم الإسلامي لكن استمرت إرهاصاتها الفكرية تتفاعل حتى بعد جلاء الاستعمار، حيث برز الكثير من المفكرين والباحثين العرب والمسلمين الذين سعوا لبناء علاقة جديدة  مع النصوص التراثية والكشف عن طبقاتها العميقة وكيف أثرت عبر الزمن على تشكيل الوعي الجمعي والذاكرة التاريخية للمسلمين، والغاية من هذا التقليب ليس بالضرورة لإعادة صياغة الحاضر ولكن كما يشير دانييل ماديغان في مقدمة كتاب ( القرآن في محيطه التاريخي) ما هي ألا محاولة لتلمس الفرادة الابتدائية عند الجماعة الدينية الناشئة بكل ميكانيزماتها الابتكارية، وهذا التلمس لا ينشد بالضرورة الصورة المستقرة والكاملة التي وصلت لنا، بل يحاول أعادة خلق بيئة الأفكار التي نشأت فيها ومراحل تطور بنيه الخطاب، فهو يعيد رسم لحضه عدم الاستقرار الاولى التي أخذت تطلب بإلحاح وثبات صيغه توازن تتيح لها تأسيس بنيه تصورات جديدة قابلة مع الزمن للتمايز عن التصورات القديمة، وهذا لا يتأتى فقط من تفكيك بنية النصوص والبحث في البنى العميقة ولكن أيضا يتطلب تظافر جهود علوم حديثة كالأثار والأنثروبولوجيا والجغرافيا والمناخ واللغات القديمة وغيرها, ومن يتابع أحدث البحوث الأكاديمية التي تدرس الإسلام الباكر في الغرب كالذي قدمة غونتر لولينغ (1974) وجون وانسبرو (1977) وباتريشيا كرون وميشيل كوك (1977) وكريستوف لوكسينبرغ (2007) كارل-هينز اوليج (2009&2013) ستيفن شوميكر (2011) فريد ماك-جرو دونر(2012) وتوم هولند (2013) وروبرت هيلند (2014) أو حتى الدراسات التي تنشر تحت الاسم المستعار أبن الوراق (2002&2007), نرى بأنها جميعاً تعرض تحديات جذرية للرؤية التراثية حول نشأة الإسلام, من هذا المنطلق نحاول ان نعيد اكتشاف شيء من لحظات عدم الاستقرار الاولى في فترة الإسلام المبكر من خلال استعراض قضية الرحمن التي وردت في القرآن وكيف تعاملت معها كتب التفاسير القديمة والحديثة ، ثم نبين ماذا قالت أحدث المكتشفات الاثرية حول نفس الموضوع, وهذا البحث لا يدرس دلالات توظيف كلمة الرحمن في القرءان (والتي يمكن أن نخصص لها بحث مستقل) وانما يركز على المقارنة بين معالجة كتب التفسير والتاريخ الإسلامية التي اكتفت بنقل الروايات وتلك الكتب الحديثة التي وظفت المكتشفات الأثرية في دراساتها.

لا شك أن قارئ القرءان يدرك بأن قضية الرحمن قد حام حولها نوع من الابهام والجدل في  بداية دعوة النبي محمد في مكة, فبالإضافة إلى أن هذا الاسم يتكرر بشكل كبير في آيات القرءان الا أن استعماله كأحد الأسماء التعبدية من خلال نسبتها إلى لله أيضا قد شكل صراع فكري سجله القرءان, ويمكن الاستدلال على ذلك من خلال الآية 110 في سورة الاسراء (قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمَٰنَ أَيًّا مَّا تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَىٰ وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَٰلِكَ سَبِيلًا), والآية 60 من سورة الفرقان (وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمَٰنِ قَالُوا وَمَا الرَّحْمَٰنُ أَنَسْجُدُ لِمَا تَأْمُرُنَا وَزَادَهُمْ نُفُورًا), حتى ندرك أبعاد هذه الآيتين سنحلل أقوال المفسرين والروايات في كتب التاريخ التي تعرضت لقضية الرحمن وما هي خلاصات أقوالهم، والتي يمكن حصرها في خمسة أقوال تقريباً:

1- رحمن اليمامة الذي هو مسيلمة الحنفي، يذكر الطبري في تفسير آية الفرقان (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) ما نصه (…وذكر بعضهم أن مُسيلمة كان يُدعى الرحمن، فلما قال لهم النبيّ صلى الله عليه وسلم اسجدوا للرحمن، قالوا: أنسجد لما يأمرنا رحمن اليمامة؟ يعنون مُسَيلمة بالسجود له.)

2-الرحمن كاهن اليمن أو كاهن اليمامة الذي ينسب لليهود، يذكر الشوكاني في فتح القدير (وأخرج ابن أبي حاتم عن إبراهيم النخعي قال: إن اليهود سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الرحمن، وكان لهم كاهن باليمامة يسمونه الرحمن، فنزلت الآية .وهو مرسل. وأخرج ابن جرير عن مكحول «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يتهجد بمكة ذات ليلة يقول في سجوده يا رحمن يا رحيم، فسمعه رجل من المشركين، فلما أصبح قال لأصحابه: إن ابن أبي كبشة يدعو الليلة الرحمن الذي باليمن، وكان رجل باليمن يقال له رحمن، فنزلت»)

3- الرحمن الإله المستقل عن الله, حيث أن قريش حينما سمعت بهذا الاسم من فم محمد تبادر لها أول الأمر بانه أله مستقل عن الله، يذكر الزمخشري في الكشاف عند تفسيره لآية الأسراء (عن ابن عباس رضى الله عنهما سمعه أبو جهل يقول: يا الله يا رحمن، فقال: إنه ينهانا أن نعبد إلهين وهو يدعوا إلها آخر.)

4- الجهل بماهيه الرحمن حيث يذكر ابن كثير في تفسير آية الأسراء { ثم قال تعالى منكرا على المشركين الذين يسجدون لغير الله من الأصنام والأنداد: (وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن) ؟ أي: لا نعرف الرحمن. وكانوا ينكرون أن يسمى الله باسمه الرحمن، كما أنكروا ذلك يوم الحديبية حين قال النبي صلى الله عليه وسلم للكاتب: “اكتب بسم الله الرحمن الرحيم” فقالوا: لا نعرف الرحمن ولا الرحيم، ولكن اكتب كما كنت تكتب: باسمك اللهم؛ ولهذا أنزل الله: (قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى)}

5- الرحمن صفه من صفات الله التي كان المشركون عالمين بصحتها قبل الإسلام ولكن كذبوا بها وجحدوها, فقد ذكر الطبري عند تفسيره لكلمة الرحمن في البسملة كلام قاسي على من زعم أن العرب كانت تجهل أطلاق أسم الرحمن على الله قبل الإسلام ووصمهم بالغباء! فيقول,{وقد زعم بعض أهل الغباء أن العرب كانت لا تعرف “الرحمن”، ولم يكن ذلك في لغتها ولذلك قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم: (وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا) [سورة الفرقان: 60] ، إنكارا منهم لهذا الاسم، كأنه كان محالا عنده أن ينكر أهل الشرك ما كانوا عالمين بصحته، أو: لا وكأنه لم يتل من كتاب الله قول الله (الذين آتيناهم الكتاب يعرفونه) – يعني محمدا – (كما يعرفون أبناءهم) [سورة البقرة: 146] وهم مع ذلك به مكذبون، ولنبوته جاحدون! فيعلم بذلك أنهم قد كانوا يدافعون حقيقة ما قد ثبت عندهم صحته، واستحكمت لديهم معرفته.}, ونجد في الحاشية العلامة أحمد محمد شاكر محقق تفسير الطبري يعلق منتصراً لهذا القول ويعبر بكلام قاسي أيضا على ما يثيره المستشرقون حول هذا الموضوع, فيقول ((1) لا يزال أهل الغباء في عصرنا يكتبونه، ويتبجحون بذكره في محاضراتهم وكتبهم، نقلا عن الذين يتتبعون ما سقط من الأقوال، وهم الأعاجم الذين يؤلفون فيما لا يحسنون باسم الاستشراق. ورد الطبري مفحم لمن كان له عن الجهل والخطأ رده تنهاه عن المكابرة.).

وهكذا نرى تضارب أقوال المفسرين الأوائل حول فهم مشركي قريش لمسمى الرحمن بين نسبته لمسيلمة الحنفي أو كاهن اليهود أو  تصوره كإله مستقل أو اعتبارها مجرد صفة أو انكار أن يطلق هذا الاسم على الله،  لكن أذا دققنا في هذه الاقوال فنجد أنها قد ارجعت المدة الزمنية لظهور مسمى الرحمن إلى مده حياة النبي محمد (أذا أستثنينا كلام الطبري في الفقرة الخامسة)، وهو ما جعل عالم مهم في القرن العشرين كالطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير يتبنى مقوله أن الاسلام هو الذي جاء بوصف الرحمن، حيث يقول في باب تفسيره لمعنى الرحمن الرحيم في سورة الفاتحة (وقد ذكر جمهور الأئمة أن وصف الرحمن لم يطلق في كلام العرب قبل الإسلام وأن القرآن هو الذي جاء به صفة لله تعالى فلذلك اختص به تعالى حتى قيل إنه اسم له وليس بصفة واستدلوا على ذلك بقوله تعالى: وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن [الفرقان: 60] وقال: وهم يكفرون بالرحمن [الرعد: 30] وقد تكرر مثل هاتين الآيتين في القرآن وخاصة في السور المكية مثل سورة الفرقان وسورة الملك وقد ذكر الرحمن في سورة الملك باسمه الظاهر وضميره ثماني مرات مما يفيد الاهتمام بتقرير هذا الاسم لله تعالى في نفوس السامعين فالظاهر أن هذا الوصف تنوسي في كلامهم، أو أنكروا أن يكون من أسماء الله.)

وعندما استعرض ابن عاشور بعد ذلك الرواية التي تذكر مسيلمة بالرحمن ذكر بأنه أنما قد يكون أخذها من الإسلام ونسبها لنفسه، حيث يقول في نفس الباب

  (وأما قول بعض شعراء بني حنيفة في مسيلمة:

سموت بالمجد يا ابن الأكرمين أبا … وأنت غيث الورى لا زلت رحمانا

فإنما قاله بعد مجيء الإسلام وفي أيام ردة أهل اليمامة، وقد لقبوا مسيلمة أيامئذ رحمن اليمامة وذلك من غلوهم في الكفر.), ويذكر عند تفسير آية الفرقان بأن أطلاق صفة الرحمن على الله هي مما أتى القرآن بها  وليس للعرب عهد بها, فيقول {(وإذا قيل لهم اسجدوا للرحمن قالوا وما الرحمن أنسجد لما تأمرنا وزادهم نفورا ) لما جرى وصف الله تعالى بالرحمان مع صفات أخر استطرد ذكر كفر المشركين بهذا الوصف. وقد علمت عند الكلام على البسملة في أول هذا التفسير أن وصف الله تعالى باسم (الرحمان) هو من وضع القرآن ولم يكن معهودا للعرب،}

وهناك لَبْس واضح في كتب التفسير والتاريخ الاسلامي التي نقلت أخبار مسيلمة الحنفي الذي كان يعرف برحمن اليمامة، فمجمل الأخبار حاولت الحط من شأنه ودعوته ونسبت له مقولات ركيكة زعمت بأنها بعض الذي ادَّعاه من الوحي, وربما تكون هذه الروايات قد وضعها المنتصرون بعد فترة زمنية من هزيمة مشروع مسيلمة لتشكل نوع من الاغتيال المعنوي والتاريخي لهذه الشخصية القوية التي كادت تعرقل المشروع الإسلامي في بداياته المبكرة، وهذا الاغتيال المعنوي جاء بدايةً من الاسم ذاته فحولته من مسلمة الحنفي إلى مسيلمة الكذاب, ثم مروراً بتلك الأسجاع الركيكة التي نسبوها له حول الحبلى والشاة والضفدعة, وشيء من الشعر الجنسي الفاحش الذي دار بينه وبين المتنبئة سجاح بنت الحارث, أو شيء من قصص اتباعه الذين كانوا يدركون كذب دعوته مع ذلك اتبعوه فقط من أجل العصبية، لكن مع كل هذا الركام الهائل من الاغتيال التاريخي تسربت بعض الأخبار التي ترسم صورة مغايرة تماماً عَن تلك الصورة المشوهة, فقد بينت هذه الروايات المسربة مدى القداسة التي كان يحظى بها مسيلمة أو مسلمة في نظر قومه واتباعه لدرجه انهم كانوا يسترونه بالثياب حينما قابل النبي محمد، فيذكر ابن هشام في سيرته عن ابن إسحاق طبيعة اللقاء الذي كان بين محمد ومسيلمة في المدينة: (قال ابن إسحاق: فكان منزلهم في دار بنت الحارث امرأة من الأنصار، ثم من بني النجار، فحدثني بعض علمائنا من أهل المدينة: أن بني حنيفة أتت به رسول الله صلى الله عليه وسلم تستره بالثياب، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس في أصحابه. معه عسيب من سعف النخل، في رأسه خوصات، فلما انتهى إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهم يسترونه بالثياب، كلمه وسأله، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: لو سألتني هذا العسيب ما أعطيتكه. قال ابن إسحاق: وقد حدثني شيخ من بني حنيفة من أهل اليمامة أن حديثه كان على غير هذا. زعم أن وفد بني حنيفة أتوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وخلفوا مسيلمة في رحالهم، فلما أسلموا ذكروا مكانه، فقالوا: يا رسول الله، إنا قد خلفنا صاحبا لنا في رحالنا وفي ركابنا يحفظها لنا، قال: فأمر له رسول الله صلى الله عليه وسلم بمثل ما أمر به للقوم، وقال: أما إنه ليس بشركم مكانا، أي لحفظه ضيعة أصحابه، وذلك الذي يريد رسول الله صلى الله عليه وسلم)

كذلك هناك أشاره أخرى تدل على مدى نفوذ مسيلمة حينما ارتد أحد الصحابة وهو نهار الرجال أو الرحال بن عنفوة الذي بعثه النبي محمد معلماً لأهل اليمامة وليشغب على دعوة مسيلمة لكن نهار أنقلب ودخل في دعوة مسيلمة بل كان أشد فتنة منه على بني حنيفة، فيذكر الطبري في تاريخه (وكان مسيلمة يصانع كل أحد ويتألفه ولا يبالي أن يطلع الناس منه على قبيح، وكان معه نهار الرجال بن عنفوة، وكان قد هاجر الى النبي ص، وقرأ القرآن، وفقه في الدين، فبعثه معلما لأهل اليمامة وليشغب على مسيلمة، وليشدد من أمر المسلمين، فكان أعظم فتنة على بني حنيفة من مسيلمة، شهد له أنه سمع محمدا ص يقول: إنه قد أشرك معه، فصدقوه واستجابوا له، وامروه بمكاتبه النبي ص، ووعدوه إن هو لم يقبل أن يعينوه عليه، فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئا إلا تابعه عليه، وكان ينتهي الى امره،…)، وهذا يعطي دلالات واضحه على مدى نفوذ مسيلمة في قلوب اتباعه وهو ربما يفسر سر استبسال أتباعه في الدفاع عنه وعن دعوته لدرجة انه كان أكثر الخصوم الذين شكلوا خطر حقيقي على الدعوة الإسلامية الناشئة في المدينة، وقد استفاض جمال علي حلاق في كتابه (مسلمة الحنفي-قراءة في تاريخ محرم) في دراسة هذا التاريخ الملتبس حول مسيلمة وحاول أن يقدم دراسة موضوعية عن هذه الشخصية الغامضة وحملة التشويه التي مورست ضده.

لهذا نرى مؤرخ كبير في العصر الحديث كجواد علي في كتابه المفصل في تاريخ العرب قبل الإسلام بعد أن ساق أخبار مسيلمة يشدد على ضرورة التنبه لمثل هذه المرويات التي قد تكون غرضها التشويه ، فيقول (هذا ولا بد لي من التنبيه إلى أننا لا نستطيع التأكيد بأن ما نسب إلى مسيلمة من كلام هو حق وصحيح. فمن الجائز أن يكون قد وضع عليه وضعا. وقد رأينا كيف أنهم اختلفوا في رواية “يا ضفدع” اختلافا بينا في ضبط العبارات), ويذكر في موضع أخر من نفس الكتاب (والذي يقرأ ما ذكره “الطبري” عن “مسيلمة” وعن صلة “نهار” به، يخرج بصورة تظهره شخصا جاهلا بليدا، يحركه ويوجهه “نهار” حيث يريد، لا يفهم ولا يعقل، ولا يعرف كيف يتصرف، ولا يتخذ رأيا حتى يشير عليه “نهار” به “فكان نهار الرجال بن عنفوة لا يقول شيئا إلا تابعه عليه”. وهي صورة تخالف ما نقرؤه عنه في الموارد الأخرى. ولو كان “مسيلمة” على نحو ما صوره الطبري، لما التفت حوله “بنو حنيفة” ولما استماتوا في الدفاع عنه. ولما ضحى “الرحال بن عنفوة” و”محكم بن الطفيل” وغيرهما بأنفسهم في الدفاع عنه. حتى إن منهم من بقي مؤمنا به حتى بعد مقتله، وتغلب المسلمين على اليمامة…هذا ولم أجد في الأخبار المتعلقة بمسيلمة خبرا يفيد صراحة أن مسيلمة كان قد اعتنق الإسلام ودخل فيه. فالأخبار التي تتحدث عن مجيئه إلى يثرب لا تشير إلى ذلك، والأخبار الأخرى التي تتحدث عنه وهو في اليمامة لا تشير على قبوله الإسلام كذلك، بل نجد فيها كلها أنه ظل يرى نفسه نبيا مرسلا من “الرحمن” وصاحب رسالة، لذلك فليس من الصواب أن نقول: “ردة مسيلمة”، أو “ارتداد مسيلمة”، أو نحو ذلك؛ لأنه لم يعتنق الإسلام ثم ارتد عنه، حتى ننعته بالمرتد.)

وقد أستفاض المؤرخ جواد علي في مناقشة قضية عبادة الرحمن قبل الإسلام مستعيناً بالنصوص التي كشفها علم الآثار في الجزيرة العربية في العصر الحديث، وأوضح أن هذا النمط من العبادة كان منتشراً في جنوب وشمال الجزيرة العربية, حيث عرفت عبادته عدد من القبائل العربية في الجاهلية وهذا يدحض تماماً كلام كثير من المفسرين والمؤرخين الذين اعتمدوا على نقل الروايات, وما ذكره أيضا الطاهر بن عاشور في تفسير التحرير والتنوير والتي قصرت ظهور أسم الرحمن عند العرب ببداية ظهور الإسلام، حيث يذكر جواد علي في المفصل ما نصه (ونقرأ في النصوص العربية الجنوبية اسم إله جديد، هو الإله “رحمنن”، أي “الرحمن”. وهو إله يرجع بعض المستشرقين أصله إلى دخول اليهودية إلى اليمن وانتشارها هناك. وهذا الإله هو الإله “رحمنه” Rahman-a “رحمنا” في نصوص تدمر. وورد في نص: “رحمنن بعل سمين” “رحمنن بعل سمن”، أي “الرحمن رب السماء”، أي أنه إله السماء. فصار في منزلة الإله “ذ سموي”. ثم لقب بـ”رحمنن بعل سمين وأرضن”، أي “الرحمن رب السماء والأرض” في نصوص أخرى. فصار إله السماوات والأرضين.) كما بين في موضع أخر أن عبادة الرحمن ترجع إلى ما قبل مائتين سنة تقريباً قبل ظهور الإسلام فيقول (وورد اسم الإله: “يعوق” أي الصنم يعوق المعروف، في نص متأخر، يعود عهد إلى ما بعد الميلاد، وورد معه اسم: “رحمنن بعل سمن”، أي “الرحمن رب السماء”. وقد أرخ النص بشهر “ذ دون” “ذ داون” “ذي دوأن” لسنة “٥٧٤” من التأريخ الحميري. المقابلة لسنة “٤٥٩” للميلاد)، كما انتقلت عبادة الرحمن إلى النصرانية التي دخلت الجزيرة العربية فيذكر جواد علي (وقد جاء اسم “شرحب إيل يكف” “شرحبيل يكف” في كتابة مؤرخة بسنة “٥٧٥” من التقويم الحميري، المقابلة لسنة “٤٦٠” للميلاد. وقد وردت في الكتابة جملة: “رحمنن وبنهو كرشتش غلبن”، أي: “الرحمن وابنه المسيح الغالب”، وقد استعمل لفظة “كرشتش” في مقابل لفظة Christus, مما يدل على أن صاحبها نصراني. )

كما أن الشخصية المشهورة في التاريخ الإسلامي أبرهة الحبشي قد وجدت له نقوش تثبت عبادته للرحمن، فيقول جواد علي (وقد تلقب “أبرهة” في هذا النص كما تلقب في نص سد مأرب بلقب الملك الذي كان يتلقب به ملوك اليمن، وهو: “ملك سبأ وذي ريدان وحضرموت ويمنت “اليمن” وأعرابها في النجاد “طودم”، وفي المنخفضات “تهمتم”، “تهامة”، كما افتتحه بجملة: “نخيل رحمنن ومسحهو”، أي “بحول الرحمن ومسيحه”، وقد سبق لـ”أبرهة” أن افتتح نصه الذي دونه على “سد مأرب” بجملة: “بخيل ودا ورحمت رحمن ومسحهو ورح قدس”، ومعناها: “بحول وقوة ورحمة الرحمن ومسيحة روح القدس”، والجملتان من الجمل التي ترد في نصوص اليمن لأول مرة، وذلك بسبب كون أبرهة نصرانيا، وقد صارت النصرانية في أيام احتلال الحبش لليمن ديانة رسمية للحكومة، باعتبار أنها ديانة الحاكمين، وعرف “أبرهة” في النصين بـ”أبره زيبمن”، أي “أبرهة زيبمان”، ولفظه “زي ب م ن” “زيبمن” من ألقاب الملك في لغة الأحباش١.)، ويلخص جواد علي رؤيته حول عبادة الرحمن في الجاهلية فيقول (وفي هذا الخبر إن صح، دلالة على أن أهل مكة كانوا قد سمعوا بعبادة “الرحمن” وأنهم سمعوا أن قوما من الجاهليين دعوا إلى عبادته، وأن “أبا جهل” كان قد سمع قولهم، ولهذا أخذ على النبي قوله: يا الله يا رحمن. ولا يعقل ألا يكون لأهل مكة علم بعبادة “الرحمن” التي تحدثت عنها في موضع آخر، وقد كان)

وقد ناقش المفكر السوري عزيز العظمة في كتابه الجديد الصادر في عام 2014 باللغة الإنجليزية “The Emergence Of Islam in Late Antiquity ظهور الإسلام في أواخر العصور القديمة” عبادة الرحمن عند عرب الجنوب، حيث ذكر بأن هناك إشارات لهذا الاسم في التلمود والكتب المسيحية كما استخدم اسم رحمن كبديل لأحد المعبودات في تدمر وهو “عزيزو Azīzu” واستخدم في حوران “ذو رحمون Dhū Rahmūn”  كبديل للإله “بعل شمين Baalshamīn”، وذكر أيضا في صفحة ٣١١ بأن (إله باسم الرحمن كان من المرجح جداً أنه كان معروف وربما معبود في اليمامة وفي وسط شرق الجزيرة العربية خلال فترة محمد). كما ينقل جورج كدر في كتابه ” معجم آلهة العرب قبل الإسلام” تحت باب “الرحمن/رب السماء والأرض” بأن عباده الرحمن من العبادات التي انتشرت قبل الإسلام، وبأن عبادة (الرحمن) في شكلها المبكر قبل الميلاد وبعده هي العبادة التي اصطلح عليها الدارسين في بحوثهم تسميه اليمنيين من عبّاد “الرحمن” بالرحمانيين، وهذه النمط من التوحيد اليماني القديم المرتكز حول عبادة الرحمن في جنوب الجزيرة العربية تؤكدها أيضاً الموسوعة اليمنية في المجلد الثاني تحت باب “الديانة في اليمن قبل الإسلام” التي رجحت أن هذا النمط من العبادة سابق لدخول اليهودية والمسيحية لليمن، حيث ذكرت في خاتمة هذا الباب {ويلاحظ في نقوش النصف الثاني للقرن الرابع الميلادي ظهور عبادة (إله السماء والأرض) وعبادة الرحمن (رحمنن) ويتلو ذلك بمدة زمنية قصيرة ظهور الديانة اليهودية. وفي النقوش المتأخرة دلائل على انتشار الديانة المسيحية في اليمن، وقد دفع انتشار اليهودية والمسيحية في اليمن كثيراً من الباحثين إلى القول بأن الديانات التوحيدية التي ظهرت في اليمن قبل الإسلام هي الديانات اليهودية والمسيحية فقط، وإن عبادة (إله السماء والأرض) وعبادة (الرحمن) هي إما ديانة يهودية أو مسيحية، غير أن البحث الدقيق في معطيات نقوش تلك الفترة، وتتبع سير تطور الفكر الديني لدى اليمانيين يؤكد على أن التوحيد اليماني ربما سبق دخول أي من الديانتين اليهودية والمسيحية، وأن عبادة (الرحمن) ليس لها أي علاقة بعبادة إسرائيل أو بالثالوث المقدس}. كما نختم هذا البحث بدراسة الأستاذ محمود محمد الروسان بعنوان (القبائل الثمودية والصفوية-دراسة مقارنة) من قسم الآثار بكلية الآداب في جامعة الملك سعود سنة ١٩٩٢م، فيذكر في باب الديانة في النقوش الثمودية تحت عنوان “رحم ، ورحيم” في صفحة ١١٦( عرفه التدمريون بلفظ رحمنه بجانب اللات وورد في النقوش الصفوية بلفظ رحم كما جاءت بالنقوش الثمودية)، كما يذكر في باب الديانة في النقوش الصفوية تحت عنوان “رحم” في صفحة ٤٤٣ {ورحام اسم مقدس عرف عند السبئيين وكذلك عند التدمريين والصفويين، فهو من الآلهة التي ربطت الديانة العربية الجنوبية والديانة العربية الشمالية، وعثر على نص صفوي يذكره( …والثأر: يا رحام أنقذه )}.

وهكذا نرى كيف أن علم الآثار أضاء مساحات جديدة كانت مجهولة من تاريخ تطور المعتقدات الدينية في الجزيرة العربية حتى استقرت في شكلها النهائي عند بدايات ظهور الإسلام، وربما أشاره الاستاذ الروسان حول تطور منظومة عبادة الرحمن (سواء أكانت بتأثير يهودي-مسيحي أو بتأثير سابق على هذه المرحلة) والدور المحوري الذي لعبته من خلال إيجاد نوع من الربط العقائدي  بين جنوب وشمال الجزيرة العربية هو ما كرس لاحقاً لظهور عقيدة التوحيد بصيغتها النهائية في الإسلام، فتكون هذه ” الفرادة الابتدائية عند الجماعة الدينية الناشئة” والتي جاء بها محمد هي الحلقة الاخيرة من سلسلة حلقات تطورية استغرقت فترات زمنية طويلة حتى استقرت في شكلها النهائي وليس بالضرورة بتلك الصورة المتعالية والفجائية التي تخيلتها المرويات الشفوية لاحقاً في كتب التراث, وربما هذا يفسر سبب انتشار ديانة التوحيد الجديدة بين القبائل العربية بهذه السرعة من خلال توفير صيغه توافقية-اندماجية ساعدت على الانتقال من أديان تعدديه أخذه في التآكل والانحلال ودين توحيدي كانت تتشكل معالمة ببطء تحت طبقات متعددة، فتكون عبادة رب السماء والأرض أو الرحمن هي نوع من أنواع الحلقات الوسيطة التي ساعدت على العبور من وثنية العرب التعددية إلى توحيدية الإسلام، كما أن هذه التفسير قد يساعدنا على فهم سبب الاستخدام المتكرر لأسم الرحمن في معظم فواتح سُوَر القرءان والتي ربما كانت بغرض أيجاد نوع من الربط النفسي والتداخل مع منظومة العبادات القديمة, وربما أيضا لكي تساعد المؤمنين الجدد على الانتقال السلس بين المنظومتين وبأدنى شكل من أشكال الانقطاع, لكن على الرغم من كل هذا التطور المتسارع في مجال البحث الأثري فالوقع يشير إلى انه ما زال من المبكر الحكم بشكل قاطع على شكل الإسلام المبكر خصوصا وأنه لا توجد حتى الأن أدلة تاريخية أو أثرية ملموسة من تلك المرحلة الانتقالية والتي أستمرت إلى بداية العهد الأموي, لذلك يشير الدكتور سليمان بشير في مقدمة كتابة “مقدمة في التاريخ الآخر-نحو قراءة جديدة للرواية الاسلامية ” بأن (أهم الإشكالات المنهجية في دراسة الفترة الانتقالية من الجاهلية وصدر الإسلام تنبع عن أن الرواية الشفوية, على فروعها المختلفة, هي المصدر الوحيد تقريباً لتلك الدراسة, الأمر الذي حتم توجيه الجزء الاكبر من طاقات وإمكانات البحث العلمي الحديث نحو مصداقية الرواية الشفوية أداة ومصدراً وثيقاً لذلك البحث), وحتى يجود لنا علم الآثار والمخطوطات بمزيد من الاكتشافات من تلك المرحلة الانتقالية فأن المجال ما زال بكراً ويغري الدارسين من مختلف التخصصات لاستثمار أحدث الأساليب والمناهج العلمية وتكريس المزيد من الأبحاث والندوات لقراءة هذه المرحلة المفصلية من تاريخ الجزيرة العربية وتاريخ الأديان.

 

الثالث والسبعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

اسماعيل المقبالي