عن الأزمة الاقتصادية والإصلاح السياسي

كتب بواسطة بسمة مبارك سعيد

في هذه الأزمة الاقتصادية الخانقة التي تمر بها البلاد ، وبالرغم من فداحة آثارها سواءً على الصورة الاقتصادية الكبرى أو في التفاصيل الصغيرة لمعيشة المواطنين، تقتضي الحكمة أن نتجاوز الإنغماس الكامل في هذه الآثار وأن نركز أكثر على فهم أسباب هذه الأزمة. ولن أدعي هنا أنني أمتلك المعرفة والخبرة الاقتصادية التي تجعلني ألم بجميع هذه الأسباب، فأزمة بهذا الحجم هي حتماً نتاج عوامل وظروف عديدة محلية واقليمية، لا تخصنا وحدنا ولسنا مسؤولين أو متحكمين تماماً في بعضها.

 إلا أنني، مع ذلك، أعرف جيداً أن أزمة اقتصادية كهذه، وإن لم يكن ممكنا تفاديها بشكل كامل، إلا أنه كان بالإمكان التقليل إلى حد كبير من تبعاتها وآثارها، والتخفيف من وطأتها. وأن السبب الأهم والأكبر الذي يفاقم من تداعياتها علينا، ليس اقتصادياً وإنما سياسي في المقام الأول، يعود بشكل رئيس إلى بنية النظام وخياراته السياسية.

أعرف أن الحديث يدور منذ سنوات طويلة حول ضعف الأداء الاقتصادي للحكومة، وسوء تخطيطها، وعجزها عن تنويع مصادر الدخل، وتقليل الاعتماد على النفط، وتأهيل سوق العمل بشكل كافٍ لمواجهة التحديات المفروضة عليه، والفساد وإهدار المال العام، وعدم وجود نظرة اقتصادية شاملة قابلة للتطبيق والاستدامة. إلا أن هذه في نظري، ليست أسباباً لهذه الأزمة، وإنما هي نتائج للخلل الذي يعتور بنية النظام السياسية، ويفرز حتمياً نتائج اقتصادية كهذه لا سبيل لتفاديها.

إن النظام السياسي العماني الحديث، الذي تخلق في سبعينيات القرن الماضي، نشأ في ظل بدايات تدفق النفط وريعه، وللتعامل مع الظروف والتحديات التي كان يواجهها، استغل ريع النفط لتدعيم شرعيته وترسيخ سلطته عبر:

  1. الهبات المباشرة لفئات معينة أراد النظام أن يتحالف معها ويضمن ولائها، وذلك عن طريق المنح والعطايا المادية للمؤسسة القبلية وسواها، والعقود والمناقصات الحكومية التي استحوذت عليها فئات معينة، والتسهيلات لعوائل التجار، والتغاضي عن الاحتكار والممارسات الاقتصادية الضارة، وغض الطرف عن ظهور امبراطوريات تجارية وتغولها، والسماح للوزراء والمسؤولين الحكوميين بامتلاك أعمالهم التجارية ومؤسساتهم الخاصة، والتعيين في المناصب الحكومية لتحقيق توازنات سياسية بغض النظر عن معيار الكفاءة.
  2. والهبات غير المباشرة لسائر الشعب عبر برامج التنمية والتوظيف في القطاعين الحكومي والعسكري وتوفير استراتيجات الحياة البديلة لتلك التي كانت سائدةً قبل النظام.

 إلا أن، هذا الاعتماد، المفهوم في بدايات تشكل النظام، استمر طويلاً حتى بات سمةً من سماته الأصيلة وأداة سياسية مهمة يتم اللجوء إليها وقت الحاجة للتعامل مع الأزمات السياسية التي تواجهها السلطة بين الحين والآخر، وبدأ يفرز إشكالات عميقة تقوض بناء النظام ذاته. فبسببه تضطر السلطة إلى:

  1. اتخاذ قرارات اقتصادية غير مدروسة: فالسلطة، مدفوعةً بحاجتها لبناء قاعدة من الولاءات التي تضمن بقاءها واستمرارها، وأحياناً بسبب الضغط الشعبي الذي تتعرض له بين فترة وأخرى، وحاجتها لترسيخ وجودها وسلطاتها الواسعة غير المحدودة، تلجأ لاتخاذ قرارات اقتصادية كارثية وغير مدروسة. وخير الأمثلة على هذا، وأقربها للذاكرة، ما حدث في 2011، حين تم التعامل مع احتجاجات الربيع العماني باستخدام إجراءات اقتصادية سريعة لتهدئة الأزمة دون دراسة آثارها بعيدة المدى على موازنة الدولة وعلى الوضع الاقتصادي بشكل عام. ثم تلتها زيادة الرواتب في 2012 والتي حذر منها الكثيرون باعتبار أنها تحمل موازنة الدولة أكثر مما تحتمل، ولايمكن الاستمرار فيها طويلاً. وبالفعل نرى الآن أن علاوة الباحث عن عمل لم تعد ممكنة، وأن آلاف الوظائف التم تم خلقها على وجه السرعة ليست سوى بطالة مقنعة، وأن زيادة الرواتب تسببت بضغط هائل على الموازنة. والنتيجة مفاقمة الأزمة الاقتصادية التي تمر بها البلاد.
  2. عدم إيجاد آليات فعالة لمحاربة الفساد وتضارب المصالح: فالتزاوج بين المال والسلطة والتجار والمسؤولين الحكوميين والناتج أساساً عن محاولة خلق توازنات وتحالفات سياسية، يقف عائقاً يحول دون فتح ملفات الفساد الكبرى وإيجاد آليات وتدابير تشريعية وإجرائية تمنع الفساد وتحارب إهدار المال العام، أو تبقيه على الأقل في حدوده الدنيا التي يمكن التعايش معها!
  3. التعيين دون اعتبار معيار الكفاءة: لأن الوظائف الحكومية (لاسيما العليا منها) تشكل في حقيقتها أوراقاً سياسية تستخدم لتعزيز تحالف أو توجه معين، وبالتالي نجد أن المسؤولين الحكوميين يقبعون في مناصبهم عقوداً دون اعتبار للحاجة لتجديد الدماء والأفكار والممارسات، لا سيما حين تثبت القديمة فشلها مرة تلو المرة. كما نفاجيء بتعيينات لا مبرر موضوعي لها من حيث الكفاءة والخبرة والاقتدار. وفي الجانب الآخر، تستبعد طاقات وطنية أيضاً على خلفية سياسية صرفة. والنتيجة في المحصلة، هي بنية حكومية مترهلة وأداء رديء وقرارات خاطئة، تنعكس سلباً على الواقع الاقتصادي للبلاد.

أي أن استخدام السلطة لريع النفط والحوافز الاقتصادية كأدوات لتعزيز شرعيتها وسلطتها السياسية، يترتب عليه نتائج كارثية على وضع الاقتصاد العماني، لأن القرارات والممارسات لا تنتج عن اعتبارات اقتصادية صرفة، وإنما لحاجة سياسية حتى وإن تعارضت مع المنطق الاقتصادي. وبالتالي، مادام الحال كذلك، فليس من الغريب أن يكون الناتج وضعاً اقتصادياً هشاً يتضعضع ويتداعى كلما هبت رياح أزمة نفط اقليمية!

فمهما عددنا وناقشنا الأسباب الاقليمية التي أفرزت هذه الأزمة الأخيرة، ومهما قلنا أن عمان واستقلال قرارها السياسي مستهدف على اعتبار مواقفها السياسية من الأزمات الأقليمية المتعاقبة، إلا أن الحقيقة الثابتة الراسخة تبقى أنه لو أننا استطعنا على مدى الأربعة عقود الماضية بناء منظومة اقتصادية سليمة معافاة، لاستطعنا أن نتحمل هذا الضغط ولما ترتبت على هذه الأزمة الأخيرة كل هذه الآثار والعواقب والتداعيات.

ولن نتمكن من بناء هذه المنظومة الاقتصادية المتينة، إلا إذا أصلحنا بنية النظام السياسي، بحيث لا يعود محتاجاً لريع النفط والحوافز الاقتصادية لتعزيز شرعيته، ولا يعود قابلاً لأي ممارسات فاسدة أو أداء مترهل، ولا مضطراً لاتخاذ قرارات اقتصادية متسرعة فقط حتى يتجنب دعوات الإصلاح ومطالباته.

أي لابد أن يستبدل النظام الشرعية المستمدة من طبيعته الريعية، بشرعية أخرى أكثر متانة وقوة مستمدة من الدستور والتوافق الشعبي، بحيث يتحرر قراره السياسي والاقتصادي من التحالفات والتوازنات الحالية المضرة التي تقوضه من الداخل. ولابد أن يتعامل النظام مع الضغط الشعبي ودعوات الإصلاح بإيجابية، عن طريق استيعابها والوصول إلى صيغة مشتركة مرضية لجميع الأطراف، عوضاً عن محاولة الإلتفاف عليها وتسكينها بإجراءات مؤقتة تفاقم الضرر ولا تحل شيئاً. فالرهان الحقيقي إذن ينصب على الإصلاح السياسي كحل أساسي لجميع مشاكلنا الأخرى، ومن بعده تكون إصلاحاتنا الأخرى ممكنةً وآمنة ومستدامة.

الثالث والسبعون سياسة

عن الكاتب

بسمة مبارك سعيد

كاتبة ومحامية عمانية