التاريخ “المتخيَّل”

 

 

تكاثرت في العقود الأخيرة الكتابات التي تطالب بإعادة النظر في تاريخ الإسلام المبكِّر، وقراءته في ضوء مناهج علمية حديثة، لفرز الواقعي من الخيالي، وتمييز الصحيح الذي يمكن الوثوق به من الزائف الذي اصطنعته الأهواء والأوهام والنظرات المنحازة والمواقف المسبقة.

وهذه الدعوات محلُّ اعتبار، وبوادرُ انعتاق من أسر الرؤية الكلاسيكية التي رسَّختها التربية والآيديولوجيا وأزمنة متطاولة من التكرار والإعادة؛ إذ إن من يقرأ التاريخ الإسلامي (في مصادره الأولى) بعين فاحصة لا يخطئ ملامح (الأسطوري) الذي صنعه المخيال الجمعي والنزعة التقديسية، ولا ملامح (تصفية الحسابات) التي فرضتها الصراعات السياسية الدامية، ولا ملامح (شيطنة المخالفين) التي قادت إليها الخلافات المذهبية. ويقع على كاهل المؤرخ المعاصر عبء التعامل مع كل ما أنتجته العوامل السابقة من “تشوُّهات” في رواية التاريخ وسرد حكايته، بما يسهم في إنزال تصوراتنا عنه من “السماء”، وتسكينها في موقعها من حركة التاريخ “البشري” المحكوم بالعوامل المادية والنفسية، والفردية والاجتماعية، باللجوء إلى عدة متكاملة من المناهج المعرفية الحديثة المستقاة من علوم اللغة والنفس والاجتماع والأنثربولوجيا وغيرها.

وإذا كان الخيال -في وجهيْه الفردي والجمعي، وبتأثير شبكة متداخلة من العوامل الدينية والسياسية والعرقية- قد أسهم على نحو لا يمكن إنكاره في صياغة التاريخ الإسلامي، وفي تكريس نُسَخٍ رسمية منه، بحسب الأزمنة والأقاليم، فإن بعض المحاولات الحديثة لإعادة كتابة التاريخ الإسلامي -ولاسيما في مراحله الأولى- لا تنجو هي الأخرى من إغراءات الخيال في اختراع قصص جديدة تستجيب للرغبات الذاتية أكثر من استجابتها للمعايير الواقعية، وإن كانت تتذرَّع في الظاهر بالموضوعية العلمية الصارمة.

تنتمي هذه المحاولات -فيما يُفْهم من مقدِّماتها ومداخلها النظرية وطرائق استدلالها- إلى منهج علمي يؤمن أن التاريخ الصلب الموثوق فيه لا يمكن أن يتأسَّس إلا على الوثيقة المكتوبة التي تنتمي إلى عصرها وتشهد عليه، أو على الآثار المادية التي يزوِّدنا بها علم الآثار كالعملات والأواني والأدوات بمختلف أنواعها والكتابات الأثرية على المعابد والقصور والأضرحة وغيرها. وكلُّ ما يقع خارج هذا الإطار الماديِّ الملموس لا قيمة له ويأخذ حكم المعدوم الذي لم يوجد أصلاً. وإنَّا وإن كنا نسلِّم بالشقّ الأول من هذا الرأي (وهو المتعلِّق بأهمية الوثيقة المكتوبة والأثر المادي) فإننا نرفض الشق الثاني منه (والداعي إلى تجاهل كلِّ تاريخٍ لا تنطبق عليه شروط الشق الأول، ويدخل فيه الروايات الشفوية والمراجع التاريخية التي كتبت في عصور لاحقة)، لاعتبارات عدة:

أولها: أن التاريخ -في كثير من الحالات وبالنسبة لمعظم الشعوب- يُكْتَبُ في فترات لاحقة. ووفقًا لهذا المنهج، لا قيمة “تاريخية” لمعظم ما كُتب تحت عنوان “التاريخ”، لأنه –في نماذج عديدة- لا ينتمي لعصره، ولا يشهد على أحداثه شهود “عيان”.

وثانيها: أن العديد من أمَّهات الكتب التاريخية والدينية والأدبية والعلمية -التي تنتمي إلى عصور قديمة وتحمل قيمة تاريخية- فُقِدَتْ أصولها (أي نُسَخها الأولى)، وما يتوفَّر منها الآن لا يعدو أن يكون نُسَخًا منقولة من نُسَخ أقدم. وفي ضوء هذا المنهج، يفقد هذا التراث الإنساني (في مختلف الحضارات: هنديةً وفارسيةً وعربيةً ويونانيةً ولاتينيةً) قيمته التاريخية لاحتمال أن يكون قد كُتِبَ في عصور زمنية لاحقة، أو طَرَأت عليه إضافات لم تكن في نُسَخِهِ الأولى.

وثالثها: أن بقاء الآثار وصمودها على الزمن يتفاوت من حضارة لأخرى ومن مدينة لأخرى بحسب طبيعتها الجغرافية، ومستوى تمدُّنِها، وما مرَّ بها من كوارث تاريخية أو طبيعية، وبحسب نشاط الحفريات الأثرية فيها الآن. ومن غير المقبول منهجيًّا أن يُنْسَفَ تاريخ شعوب “كاملة” تحت ذريعة نقصان الأدلة الأثرية التي تنتمي إليها.

ورابعها: أن الآثار صامتة في حدِّ ذاتها، وقابلة -خارج سياقها التاريخي- لأن تنطق بكل شيء، ويمكن للخيال أن ينسج قصة كاملة بالغة التعقيد بناء على قطعة أثرية واحدة.

والمأخذ الأخير هو ما فتح الباب أمام عدد من الدراسات المعاصرة وشجَّعها على أن تطرح رؤى جديدةً تمثِّل انقلابًا جذريًّا في فهم التاريخ المبكِّر للإسلام متذرِّعة بدعاوى “علمية” شتَّى. وليس الإشكال بالنسبة إلينا في “ثورية” الأفكار المطروحة، فالاختلاف مع الرؤية السائدة ليس عيبًا في حد ذاته، ولا هو ميزةٌ أيضًا، وإنما الإشكال في افتقار هذه الأطروحات إلى الدليل، وفي انبنائها على مقدار كبير من الخيال، بحيث يصحُّ الزعم أن ثلاثة أرباع القصص المقترحة من نسج الخيال، وما تبقَّى منها عبارة عن وقائع ومستندات لا تتعارض “أصلاً” مع الرؤية الكلاسيكية التي ترويها المصادر الإسلامية.

يمكن أن نلمس هذا التوجُّه في قراءة التاريخ في كتاب مثل “تاريخ الإسلام الأول” لمحمد آل عيسى، وفي مقال مثل “مسكوكات العملة وتزوير التاريخ” لهشام حتاتة، وفي برنامج وثائقي مثل “الإسلام، القصة التي لم ترو” للمؤرخ توم هولاند، الذي أنتجته قناة ال BBC البريطانية. وبالطبع، هذه مجرد أمثلة؛ فالكتابات والبرامج التي تندرج في هذا الخط كثيرة، ولسنا هنا بصدد تقصِّيها ولكن بصدد إجراء مناقشة عامة مختصرة للمنهج الذي تنبني عليه.

هذا الخطُّ في إعادة قراءة التاريخ الإسلامي المبكر ينهض على فكرة أساسية مفادها أن مصادر التاريخ الإسلامي التي أرَّخت لحقبة الإسلام الأولى تعود إلى فترات متأخرة (القرن الثاني ومايليه)، وقد اعتمدت في تأريخها لتلك الحقبة على الروايات الشفوية التي تناقلتها الأجيال، وهو العيب الذي يُطيحُ بمصداقيَّتها، ويقتضي من المؤرخ الحديث أن يُعْرِضَ عنها بالجملة، ويدشِّن عملية بحث موسَّعة عن الآثار والوثائق التي تعود إلى تلك الحقبة، لينطلق منها في محاولة رسم ملامح صورة واقعية تجسِّد ما حدث في الماضي البعيد.

وعلى الرغم من أن جميع هؤلاء الباحثين يُقِرُّون بأن المكتشفات الأثرية التي تعود إلى تلك الفترة تكاد تكون معدومة أو أنها قليلة جدًّا ومتناثرة ولا تُعين على تكوين صورة واضحة عمَّا جرى في الماضي “البعيد”، فإن كثيرين منهم لا يجدون حرجًا في اقتراح قصص جديدة ممعنة في الغرابة، بالاعتماد على الكثير من “الخيال” والنزر اليسير من “الوثائق” و”الآثار”. ومن الأفكار التي يمكن استخلاصها من مجمل هذه الأطروحات (مع ملاحظة أن كل دراسة تتبنَّى مجموعة قصص خاصة بها تختلف في بعض أوجهها عن القصص التي تتبنَّاها الدراسات الأخرى) ما يأتي:

– محمد شخصية أسطورية، ولا وجودَ ماديَّ حقيقيَّ له.

– الإسلام نشأ في الشام وليس في مكة، ولم يكن سوى هرطقة مسيحية، وانفصل في فترات لاحقة ليكوِّن دينًا جديدًا. والحكام العرب الأوائل مثل معاوية بن أبي سفيان مسيحيون وُلِدوا وعاشوا في الشام وقبائلهم تتمركز هناك.

– أخبار الفتوحات العربية مجرد اختلاقات أو أوهام صنعها المخيال العربي في فترات زمنية لاحقة، وهي في أحسن الأحوال غارات صغيرة كانت تشنها بعض القبائل العربية التي تعيش على هوامش الأمبراطوريتين الساسانية والبيزنطية.

لا تمثِّل الأفكار السابقة مشكلة في حد ذاتها، فكلُّ فكرة يمكن أن تكون صحيحة مهما بدت غريبة، وإنما الإشكال -كل الإشكال- في المنهج المستخدم في اقتراحها، وهو منهج “طفولي” قائم على “التحكُّم” و”الانتقاء” و”التسرُّع” و”التخيُّل”. ولننظر في هذه النقطة بعمق أكبر.

تنبني الفكرة الأولى -وهي أن محمد شخصية خرافية- على دليل سلب لا دليل إيجاب. وفحوى هذا الدليل انعدام الوثائق “المادية” التي تعود إلى عصر محمد وتتضمَّن إشارة صريحة إليه، أو فقدانها بعبارة أدق. ولما كانت هذه الوثائق غير موجودة (بحسب هذا الزعم)، فمحمد -نفسه- غير موجود. وهكذا يصبح “النقص” في الوثائق، وهو أمر متوقَّعٌ بالنظر إلى ظروف المجتمع العربي في مكة والمدينة في ذلك الوقت، وبالنظر إلى طول الفترة الزمنية الفاصلة بيننا وبين عهد محمد، وقد يكون مرحليًّا ناتجًا عن أسباب عارضة متعلقة بضعف حركة البحث الأثري، يصبح هذا النقص (العارض/المؤقت) دليلاً “مُعتبرًا” تتأسَّس عليه فكرة في غاية الخطورة. وخطورة الفكرة تعود إلى النتائج الكبيرة المترتبة عليها في فهمنا للحضارة العربية والتاريخ الإسلامي في جميع جوانبهما، وفي فهمنا كذلك لسيرورة التاريخ البشري. وهذه مسألة متشعبة قد نُفْرِدُ لها مقالاً مستقلاً في المستقبل. ولا يخفى أن فرضًا خطيرًا كهذا يتطلَّب أدلَّة إثبات قوية جدًّا (من حيث الكم والكيف) لا مجرد دليل نفي (عارض).

وإذا كانت الوثائق التي تعود إلى عصر محمد مفقودة، فقد وُجِدَت وثائق “كثيرة جدا” تضمَّنت اسم محمد بشكل صريح في فترات قريبة تالية، وبدل أن تُعْتَبر دليلاً على وجود محمد، فُسِّرت بطريقة جديدة تقترح أن شخصية محمد اختُرِعت في العصر الذي ظهرت فيه أول وثيقة جرى ذكره فيها.

يتعامل هذا الطرح مع التاريخ بفكر “طفولي” جدًّا؛ فكما أن الأشياء تختفي من الوجود بمجرد ابتعادها عن عينيْ الطفل في مراحل إدراكه الأولى، كذلك -هنا- ينعدم وجود محمد لفقدان الأثر المادي الدالِّ عليه، وعندما يظهر محمد في فترة قريبة لاحقة لا تتجاوز نصف قرن (في آثار مادية كالعملات وغيرها) يكون محمد قد وُجِدَ فعلاً، ولكن باعتباره فكرةً مختلقةً لا أثرًا ماديًّا لوجود حقيقي سابق. وفي أطروحات من هذا النوع من “التحكم” و”الاختزال” و”التسطيح” ما يخلق مشكلة حقيقية في التعامل المنهجي “الجادِّ” معها.

نفس هذا المنهج الطفولي في التفكير يستخدم في اقتراح الفكرتين الثانية والثالثة، فمكة التي هي مَهْدُ الإسلام تخلو من الآثار الأركيولوجية التي تشهد على عراقتها وأهميتها التاريخية، والفتوحات العربية لم يرد ذكرها في المراجع التاريخية غير العربية التي تعود إلى تلك الحقبة، ويترتب على حقيقتيْ النفي هاتين أن الإسلام لم ينشأ في مكة، ولم يَخُضْ المسلمون الأوائل أيَّ حروب “كبرى” في سبيل نشره، لأنه نشأ أصلاً في الشام، ولم يكن سوى هرطقة مسيحية تطوَّرت لاحقًا لتكوِّن دينًا جديدًا. وليس من دليل على هذه “القصة الجديدة كليًّا” سوى ما ذكرنا، بالإضافة إلى بعض “العملات” التي تعود إلى عصر معاوية وتتضمَّن إشارات إسلامية ممزوجةً بعناصر مسيحية أو بعناصر ساسانية مجوسية، وهي ما اعُتُبِرَ دليلاً على أن معاوية حاكم مسيحي لا مسلم. ولمَّا انقطعت هذه العملات مع بلوغنا عصر عبد الملك بن مروان وحلَّت محلَّها عملةٌ إسلامية خالصة، اقترح البعض أن عبد الملك هو مؤسِّس الإسلام وهو الذي اخترع قصته.

ولا تخفى ملامح المنهج الطفولي في طريقة الاستدلال هذه، فالشخصيات والعقائد والأديان تظهر فجأة وتختفي فجأة، بناء على الأدلة المعثور عليها، وهي أدلة قليلة متبعثرة، في تجاهلٍ مطلقٍ لسنَّةِ التدرُّج التاريخي، وفي إعراضٍ تامٍّ عن مدى تماسك الرواية المطروحة، وعدمِ اكتراثٍ بإمكانية ظهور آثارٍ جديدةٍ تصادم الرواية المطروحة، وتفتح الباب أمام رواية “خيالية” جديدة.

إن المقدمات (السلبية) التي انبنت عليها الدعاوى السابقة، والمتمثلة في انعدام الوثائق التي تشير إلى محمد وإلى الفتوحات العربية في المصادر غير العربية تتساقط عند التمحيص، وهو ما تكشف عنه دراسات مهمة مثل كتاب (رؤية الإسلام كما رآه الآخرون- Seeing Islam as Others Saw It) لروبرت ج. هولاند، وكتاب (الفتوحات العربية في روايات المغلوبين) لحسام عيتاني، وغيرها.

والعجيب أن محمد آل عيسى في كتابه “تاريخ الإسلام المبكِّر” يعود –بعد أن يؤسِّس لمقولات الغياب- فيشير إشارات عابرة إلى بعض هذه الوثائق (التي تتضمن ذكر محمد والفتوحات العربية)، مدرجًا إيَّاها في سياقٍ يُرْغِمُها على أن تنطق بدلالات الغياب رغم أنها دليل حضور بيِّن.

أما تنوُّعُ العملات في عصر معاوية وامتزاجُ ملامحها الإسلامية بملامح بيزنطية أو ساسانية وانقطاعُ ذلك في عصر عبد الملك فإنه لا يناقض الرواية العربية “الكلاسيكية” أصلاً، ويمكن تعليله بسنة التدرُّج التاريخي؛ فلا يمكن للفاتحين الجدد أن يفرضوا رموز دينهم على مختلف مؤسسات الشعوب المفتوحة بطريقة مفاجئة، ولا بد من مرحلة انتقالية، وهي المرحلة التي مثَّلها معاوية بن أبي سفيان ومن تلاه، حتى قرَّر عبد الملك بن مروان تغليب الطابع الإسلامي العربي وفرضه على جميع الأقاليم. وقد تَدْخُلُ في التعليل عوامل تتعلق بالسمات الشخصية للخليفة الحاكم، فمعاوية مثلاً أكثر “براجماتية” وأكثر انفتاحًا على الثقافات الأخرى من عبد الملك (وهي التعليلات التي يقترحها حامد عبد الصمد مُعِدُّ ومقدِّمُ برنامج صندوق الإسلام في الحلقة 54). ويمكن الحديث –بشكل عام- عن تدرُّج في استخدام العملات: ففي المرحلة الأولى استُخْدِمت عملات الشعوب المفتوحة، وفي الثانية أُدْخِلت عبارات عربية وإسلامية على تلك العملات، وفي الثالثة ضُرِبت عملات إسلامية خالصة. (وتوفِّر الويكيبديا تحت عنوان “العملات الإسلامية” نبذة عن هذا الموضوع).

إن المأزق الكبير الذي وقعت فيه هذه الدراسات أنَّها شطبت بجرَّة قلم مصادر التاريخ الإسلامي كلَّها، وانطلقت تتلمَّس طريق بحثها في ظلام دامس، بالنظر إلى ندرة الآثار المتعلقة بتلك الفترة. والمصادر الإسلامية المتعدِّدة المنازع (الأدبية واللغوية والتاريخية والدينية المتعلقة بعلوم القرآن والحديث والفقه وغيرها) تتضافر جميعها على رسم إطار تاريخي عام يمكن الاطمئنان إلى صحته النسبية، ويمكن توظيفه في فهم الآثار واستنطاق حقائقها الصامتة، ويمكن للآثار عندئذٍ أن تكون بحثًا مفيدًا جدًّا في تصحيح الكثير من التصورات التاريخية التفصيلية التي تتأثَّر كثيرًا بعيوب الرواية الشفوية والمواقف المسبقة والتحيُّزات العرقية والدينية والجَهَوِيَّة. إن استثمار المكتشفات الأثرية في تصحيح فهمنا للتاريخ جهدٌ علميٌّ نافعٌ جدًّا، ولكنَّ الاكتفاءَ بها، والانجرارَ إلى “تقديسها”، وإطلاقَ العنان للخيال في إرغامها بأن تبوحَ بما تعجز عن البوح به، فليس أكثر من “شقلبات بهلوانية” لا تثري فِكْرًا ولا تعمِّقُ نظرًا ولا تحرِّرُ عقلاً.

إن التاريخ (كما ترويه المصادر القديمة) يؤثِّر في حياة مجتمعاتنا بشكل يومي، يصوغ عقائدها وسلوكاتها وأُطُرها القيمية، وقد تحوَّل في بعض الحالات بفعل الهالة القدسية المحيطة به إلى سجن كببر يعوق انطلاقها في فضاءات الحداثة المعرفية. والتحرُّر من إسار هذا التاريخ يقتضي الاقتراب الجدِّي منه، وتفكيك مضامينه ومنظوماته، وفهم مقوِّماته البشرية والتاريخية، ووضعه في موقعه “الطبيعي” ضمن مسلسل التاريخ الإنساني الكبير. ويمكن للبحث الأثري متى ما استعان بمعطيات هذا التاريخ، وعاد إلى مصادره، أن يكون ذا مردود معرفي ثمين. أما الإعراض عنه بالجملة بحجة أنه “تراث شفوي”، واعتباره “نفاية معرفية” لا قيمة لها، فلا يفضيان إلاَّ إلى تكريس حالة “عدم الفهم” و”العجز عن الفهم” ومن ثم “العجز عن المواجهة”: مواجهة التصورات التقليدية الممعنة في الانغلاق والدوغمائية.

 

الرابع والسبعون ثقافة وفكر

عن الكاتب

حميد بن عامر الحجري

كاتب عماني