أوهام العرب في القرن العشرين “الجزء الثاني”

كتب بواسطة نبال خماش

 

بعبارات مختصرة بالغة التكثيف، وصّف تقرير التنمية الإنسانية العربية للعام 2004 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي تحت عنوان ” نحو الحرية في الوطن العربي”، بعمق وعبر ومضات خاطفة ولكن ذات مغزى ومعنى، الأسباب الرئيسية التي حالت دون تحقق عملية التحول الديمقراطي في الجسم العربي بكافة أعضائه ومكوناته الرسمية البالغة 22 دولة. وأنكر التقرير جملة وتفصيلا أن تكون العلة في هذا الغياب الديمقراطي على مستوى عموم الساحة العربية، إلى عوامل ثقافية، كما يسوغ لهذا التبرير عدد لا بأس به من المفكرين أو المنظرين، باعتبار أن الفكرة القومية أو الثقافة الإسلامية في صميمها أو مجمل التكوين الفكري للإنسان العربي كلها مجتمعة، أو بعضها بصورة منفردة، هي مكونات لا تعترف بالفكرة الديمقراطية وتتعامل مع مسألة الحرية الفكرية أو الشخصية على نحو معاد أو رافض. ويرجع التقرير حقيقة هذا الغياب وعلته الحقيقية، أو إحدى العلل الرئيسية، إلى تضافر القوى الاجتماعية البورجوازية مع القوى السياسية المحلية، واصرارهما الممنهج على الحيلولة دون تحقق الحياة الديمقراطية وتمثلها على نحو نشط وحيوي في عموم المظاهر الحياتية.

هذا الاستخلاص الكبير، والذي أشار اليه من قبل على نحو تحليلي وتوثيقي عدد غير قليل من المفكرين العرب، وكان أبرزهم في معالجة هذه النقطة تحديدا، وفقا لحصيلة قراءات شخصية متراكمة في الموضوع، المفكر برهان غليون الذي أسهب في العديد من مؤلفاته في تناول هذه المسألة بإفاضة وتفصيل لا يوزايه تفصيل بحثي في ذات القضية؛ هذا الاستخلاص يوجه الأنظار الى جهة ونقطة كانت لفترات طويلة في الظل باعتبار أن الجهة أو الفئة مثار الاتهام، كانت ولفترات طويلة خلت مبرأة عن حالة التخلف والتقهقر العربيين، حيث اعتادت الأنظار وأصابع الاتهام تتجه مباشرة عندما تثار مسألة غياب الديمقراطية إلى المؤسسة والنظام الرسميين، إضافة إلى الدور الاستعماري في تغييب الديمقراطية رغم زعمه المتواصل دعمه واستعداده لدعم وتأييد المسيرة الديمقراطية العربية، إلا أن القاصي والداني بات يعرف أن ديمقراطية حقيقية في العالم العربي معناه تراجع واضح لحالة النهب غير المنقطع الذي تجنيه الحكومات الغربية نتيجة هذا الغياب بكافة الصور العائدية: سياسية، اقتصادية. وبذلك فان الاستخلاص أو الإشارة التي خرج به تقرير التنمية  يوجه الأنظار إلى مكمن رئيسي آخر من مكامن التراجع وغياب الديمقراطية، وتعميم حالة التخلف رغم كافة المظاهر البادية التي توحي بخلاف ذلك. إنها الطبقة البرجوزاية الكبرى وعلاقتها بالأنظمة الحاكمة داخليا، إضافة إلى اشتباكها على نحو واسع في علاقات اقتصادية دولية تراعي أولا وقبل كل شيء مصالح الغرب وأطماعه، ومن ثم وأخيرا مصالح هذه الأسر، وبذا تكون عموم المجتمعات العربيةفي الحقيقة بمواجهة عائق كبير وأساسي في سبيل النهضة والتقدم.

وإذا كان المقال في حلقته الأولى ومن خلال تتبعه الزماني لأهم مجريات الحدث العربي على امتداد قرن كامل، وكيف أن هذه الأحداث التي تأسست على وعود وعهود وآمال عريضة لا مبرر لأصل عقلي أو واقعي لوجودها أصلا، فكانت النتيجة أن تعاظمت الأوهام في النفوس، وكلما تحطم وهم وانكسر على صخرة الواقع الحقيقي والماثل، يستنهض هذا الإنسان قواه من جديد ليس ليقتنص لحظة الانكسار ويتعلم من درسه، بل ليهيأ نفسه، أو لتجري تهيئته ليدخل من جديد معترك وهم آخر. إذا كانت المادة الآنفة هذه غايتها، فإن هذه المادة تعنى بالكشف عن أحد الجوانب الفاعلة والشغالة تاريخيا، ولا زالت ليومنا هذا، ودورها في هذه الانتكاسات والخيبات المتتالية التي تعرض لها الانسان العربي على امتداد قرن كامل، وفق ما يمكن تسميته أو تعريفه بقانون حركة الخيبة.

تتبعنا في الحلقة السابقة من المقال انطلاقة الحركة القومية التحررية العربية في بلاد الهلال الخصيب التي تشمل: العراق، سوريا، الأردن، لبنان، فلسطين، الذي رعته وأدارت حركته النخبة البرجوازية في المنطقة بالتعاون مع الأعيان الهاشميين في الحجاز، ورأينا كيف أن هذه الحركة نمت وتشكلت بدعم وتأييد من القوى الاستعمارية الكبرى في المنطقة وعلى وجه الخصوص بريطانيا، التي انخرطت وحليفتها فرنسا في حرب مستعرة ضد ألمانيا وحليفتها الأكبر الأمبراطورية العثمانية، ولغايات تتعلق بإضعاف جسد الدولة العثمانية، فان بريطانيا أطلقت وعودا مموهة وغير واضحة المعالم للشريف الحسين بهدف كسب الجانب العربي في المنطقة. وانطلقت الحركة القومية التي تزعمتها القيادات المجتمعية في تلك الفترة وقد تملكتها أحلام وأوهام أن تحل هذه النخب محل الخلافة العثمانية في إدارة ومباشرة الحكم في المناطق العربية، وأن ترث هذه النخبة ممثلة بشيوخ العشائر وكبار الملاكين أمجاد الإمبراطورية التي أخذت بالانهيار. إلا أن هذا الهدف الاستراتيجي الكبير كان يخلو تماما من أية رؤى وبرامج سياسية واقعية، ولم تكن منضبطة بأسس واضحة لشكل الدولة المرتقبة، إضافة أن هذه الحركة كانت منقطعة  الصلة تقريبا عن القواعد الشعبية، ولم تكن على تواصل مع الناس العاديين في المدن أو القرى أو البوادي، واكتفت بحركتها لتحقيق أمانيها على دورها في معادلة الصراع الدولي رغم ضعف الدور الذي مارسته هذه النخب وهامشيته. وبالتالي فان البرجوازية العراقية والشامية من الناحية العملية وبعد انقضاء الحرب خسرت كامل أوراقها مع القوى الدولية الفاعلة، كما خسرت كامل أوراقها مع القواعد الشعبية، حتى إذا تبددت غيوم الحرب الكبرى وانجلت الأحداث عن لطمة كبرى لهذه الطبقة، عادت مضطرة لترتيب أوراقها من جديد مع القوى الاستعمارية، ولم تراع في هذه العلاقة سوى مصالحها، ولم تنشغل للحظة مرة أخرى بمسألة بناء دولة وطنية متحررة، كما روجت له في تلك الفترة، ادعاء وايهاما مخادعا لعموم الناس.

وكان من أخطر تجليات هذه المرحلة ونتائجها التدميرية على مصير الأمة العربية بالكامل هذا التحالف الامبريالي بين بريطانيا والحركة الصهيونية، والذي توج باعلان فلسطين دولة موعودة لليهود، وهذا الوعد لم يكن سرا أو طي الكتمان، بل جرى الإعلان عنه على أوسع نطاق، وبناء عليه أخذت الحركة الصهيونية بالتعاون مع إدارة الانتداب البريطاني على فلسطين بتهيئة الأرض الفلسطينية وعلى نحو تدريجي بهدف تحقيق الغاية الموعودة. وكان الفلسطينيون بمختلف أطيافهم ومواقعهم الاجتماعية على وعي تام بهذا الوعد وكانت هناك متابعة ومشاهدة عينية  للإجراءات والخطوات العملية التي تطبق على الأرض الفلسطينية لتنفيذ الوعد. إلا أن هذا المخطط لم تعترضه معوقات تذكر، بل على العكس فان المهمة الإحلالية كانت تتم بسهولة نوعا ما، ليس فقط لجهة الخدمات والمعونات التي تقدمها الإدارة البريطانية للمشروع الصهيوني، وإنما برز هناك عنصر داعم آخر ممثلا بطبقة الأفندية والملاكين الفلسطينيين الذين أخذوا بالتقرب من الحكومة البريطانية بحثا عن مصالح وعوائد يمكن أن تجنيها هذه الطبقة من خلال علاقتها وتعاوها مع حكومة الانتداب، وبالفعل فان فوائد وعوائد لا يستهان بها اقتنصتها هذه الفئة من تلك العلاقة، وكان المقابل أن تعهدت هذه الطبقة بلعب دور أساسي في سبيل تبريد أجواء الشارع الفلسطيني كلما تهيأ لانتفاضة أو كلما ثارت الدماء بالعروق جراء مصادرة قطعة أرض أو بناء مستوطنة جديدة، وكانت طبقة الأفندية بمثابة الباروميتر الضامن في التزام الهدؤ وضبط النفس، وغالبا ما كانت هذه الفئة تنجح في مسعاها بجكم علاقات الانتاج بينها وبين الفلاح الفلسطيني البسيط الذي يعتمد كثيرا في حياته ومورده الاقتصادي على هذه الطبقة.

بين أيدينا وثيقة كتبها أورومبسي غور من المكتب العربي بالقاهرة، وكان ممثلا عن الحكومة البريطانية في فلسطين، والذي أصبح في فترة لاحقة وزيرا للمستعمرات، فقد كتب النص التالي إلى وزارة الخارجية البريطانية حول الوضع في فلسطين في نهاية العقد الثاني من القرن الماضي :” إن طبقة الأفندية المسلمين التي لا تجمعها رابطة سياسية حقيقية، والتي لا تتمتع بأي قوة منظمة، منقسمة على نفسها بين موال للأتراك وموال للبريطانيين، وهي على كل حال لا تجرؤ على الإقدام على أي عمل من شأنه أن يزعج إدارة عسكرية بريطانية تساندها الخوذ البريطانية”.

المشهدية ذاتها نجدها ناصبة أمامنا بوضوح لا لبس فيه في سائر بلاد الهلال الخصيب كافة، ولا أسهل أن يسوق الباحث أو المتابع عشرات بل مئات الشواهد والأمثلة، التي تظهر انكشاف البورجوازية العربية في تلك الفترة ومسؤوليتها التاريخية المباشرة في كسر وتهميش القواعد الشعبية والمصالح الوطنية العليا لمصلحتها الطبقية ومنفعتها الذاتية. وإذا أردنا تفحص المشهد في شبه الجزيرة العربية في تلك الفترة، فإن النتيجة لن تختلف كثيرا عما هي عليه في إقليم الهلال الخصيب، حيث لعبت المشيخات المحافظة التقليدية دورا حاسما على مستوى الحدث التاريخي في سبيل الإبقاء على مصالحها، وهناك وفرة من المراجع لباحثين وأكاديميين من أبناء الخليج رصدوا هذه الظاهرة، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ولعل من أبرز من تناول هذه القضايا من الباحثين أبناء الإقليم المفكر الكويتي خلدون حسن النقيب، والمفكر البحريني محمد جابر الأنصاري، وغيرهما من الباحثين الجادين الذين تناولوا بموضوعية وإفاضة علمية التحولات الاجتماعية والسياسية التي شهدتها منطقة الخليج منذ بدايات القرن العشرين. الذي شهد ابتداء من العقد الثاني عددا غير قليل من الصدامات والمواجهات نتيجة المطالب الشعبية التي تمحور معظمها حول مطالب حياتية معيشية، اضافة الى مطالب تدعو لمزيد من الحرية ، إلا أن هذه الصدامات والمواجهات كانت تنتهي دائما، ونتيجة انحياز

القوة البريطانية، لصالح العائلات والمشيخات المتنفذة. من أبرز هذه الأحداث مطالب شعب البحرين مطلع العشرينيات بتأسيس مجلس تشريعي وتطبيق العدالة الاجتماعية وتحقيق قدر من الديمقراطية والحد من سلطة الحاكم، وتمخض هذا التحرك عن توقيع اتفاق بمشاركة السلطات البريطانية، إلا أن هذه الاتفاقات ما لبث، وبعد هدؤ الشارع البحريني، أن أفرغ من مضمونه ولم ينفذ من شيء تقريبا.

من خلال استعراضنا السريع للحركة الاجتماعية في المشرق العربي خلال القرن الماضي، ومحاولة الخلوص بالقوانين الحركية الجامعة لهذا الحراك في المجال الاجتماعي تحديدا، يمكننا الخروج بالاستنتاجات الرئيسية التالية:

  • أن التمايز و”الصراع” الحاضر في العديد من المجتمعات العربية ليس ناجما عن صراع فكري أو عقائدي أو حتى مذهبي، كما يروج له غالبا، وإنما هو صراع محركه الحقيقي قوى اجتماعية تبذل قصارى جهدها الحفاظ على مكتسباتها ومصالحها ونمائها بالقدر الممكن حتى وإن تعارضت هذه المصالح مع التطلعات والرغبات الجمعية لسائر المواطنين، بل حتى وإن تعارضت مع مصلحة وأمان الوطن.
  • أن هذه الطبقة الاجتماعية هي التي تعول عليها القوى الغربية في سبيل أن يحافظ العالم العربي على حالة التبعية والفراغ السياسي وحالة التراجع في الحريات العامة على النحو الذي يعاني منه هذا العالم. وغدت وظيفة هذه الطبقة حماية الظلم وحالات التعدي والنهب لمقدرات الدولة، وإفشال كل جهد تنظيري يسعى لتقديم رؤية إصلاحية على المستويين الاجتماعي والسياسي، والحرص على تقديم برامج ومشاريع في الديمقراطية مشوهة وغير مكتملة، ووضع عراقيل أمام أي مظهر جنيني لدولة القانون.
  • الدور الذي مارسته البرجوازية العربية في فترة ما يسمى تاريخيا بفترة النهضة، تتعارض وتتناقض بشكل كامل مع الدور الذي مارسته البرجوازية الغربية إبان عصر النهضة في العالم الغربي، حيث انخرطت هذه الطبقة بالكامل مع الطبقات الأقل مكانة وبمختلف مواقعها، المدنية والقروية، وتعبئتها بالكامل ليخوض الجميع بقيادة هذه الطبقة مرحلة الإصلاح والتغيير الحقيقي والسعي المشترك نحو الحرية والفكاك من الاستبداد، ومن ثم بناء مجتمع المعرفة والإنتاج.
الرابع والسبعون سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني