المستقبل … إلى أين؟

و مع مرور الوقت آن لنا أن نضع بعض الأمور على محور نقاش ليس بهدف التقليل من انجازات عصر “النهضة العمانية الحديثة” أو دق الإسفين في أساسات اللحمة الوطنية و الولاء و الطاعة للقيادة الوطنية … و لكن بهدف بناء المستقبل لأبنائنا المفحم بالإستقرار و الإزدهار و النماء و كذلك ضمان استمرارية الولاء و مسيرة البناء الوطني.

future

المستقبل … إلى أين؟

بقلم … المهندس مازن بن عبدالله بن محمد الطائي

أستهل مقالتي هذه من حيث إنتهيت في مقالي السابق “إعتزال مدون عماني” و من جملتي الأخيرة:

” … و أننا لا نزال نعيش و يجب أن نعيش و نتعايش مع و نقدس و نتقبل حكم الفرد الواحدة و نخبته الحاكمة المهيمنة!”

هذه الجملة التي تدعونا إلى التفكير بمستقبل الحكم في بلادنا “عمان” و مستقبل الأوضاع فيها و المستقبل الذي سيواجهه أبناؤنا إذا حدث – لا قدر الله – فراغ في السلطة و عدم حسم الأمور و ترتيبها قبل ذلك ، فالبلاد لا تحتمل نزاعات الفراغ السلطوي … فتاريخها به العديد من المشاهد و الأحداث التي أدت إلى الوبال على البلاد و الشعب و اللحمة الوطنية نتيجة لعدم ترتيب الأمور قبل حدوث الفراغ السلطوي.

كما أن مفاهيم المواطن العماني في القرن الحادي و العشرين تغيرت بشكل كبير عما كانت عليه قبل نحو أربعين عاما نتيجة للانفتاح الحضاري و انتشار التعليم و مواكبة التقدم العلمي و المعرفي و احتياجات العصر و هي الأمور التي سادت البلاد خلال الفترة الماضية … فالبلاد ما عادت تعيش في دهاليز القرون الوسطى و ما عادت متقوقعة على نفسها فقد تواصلت مع التواصل الحضاري للشعوب و بدأت من حيث انتهى الآخرون في المجالات التنموية و ادخال أحدث ما توصل إليه العلم من تقنيات و وسائل اتصال و معلوماتية. و أصبح المواطن العماني لديه من مصادر المعلومة و الخبر و المعرفة عدة جهات و وسائط ، فهو لم يعد تصل إليه الأحداث العالمية عبر شبكة واحدة مقننة مسيسة موجهة ، بل أصبح لديه إلى جانب المذياع و التلفاز و محطاتهما المتعددة و وسائل اتصال حديثة مما يمكنه جلب المعلومة و تمحيصها و موازنتها و إدراك مصداقيتها و الهدف منها.

هذا الانفتاح الفكري و الإزدهار الحضاري و التقدم التنموي و المواكبة العصرية لكل ما هو حديث لم يأت من فراغ أو فرض بالقوة أو رسم له خارج الوطن و بتأثير خارجي … بل كان نتيجة عصارة جهاد لشعب أبى أن يكون تحت تأثير هيمنة أجنبية و خنوع لسلطة منغلقة لا تقبل الجديد و التجديد ، و كان كذلك نتيجة وعي قيادة قادت البلاد لتنمية لم تشهدها من قبل في تاريخها المعاصر – و إن كان لبعض رجالات تلك القيادة ممارسات غير نزيهة أساءت لتلك القيادة و طموحاتها و إنجازاتها – فقد تفهمت هذه القيادة إحتياجات الوطن و المواطن من تنمية و أمور معيشية … فكان التفاعل بين الجانبين و التعاضد في سبيل تحقيق الصالح العام للبلاد أولا و لصالح الحاكم و المحكوم ثانيا.

و مع مرور الوقت آن لنا أن نضع بعض الأمور على محور نقاش ليس بهدف التقليل من انجازات عصر “النهضة العمانية الحديثة” أو دق الإسفين في أساسات اللحمة الوطنية و الولاء و الطاعة للقيادة الوطنية … و لكن بهدف بناء المستقبل لأبنائنا المفحم بالإستقرار و الإزدهار و النماء و كذلك ضمان استمرارية الولاء و مسيرة البناء الوطني.

لابد لأي نجاح أن تكون له مسبباته … و لأي فشل أيضا. و لله الحمد فقد شهدت البلاد و منذ بدايات السبعينيات من القرن العشرين نهضة شاملة على جميع الأصعدة بفضل تضافر الجهود بين القيادة و المواطن و ما منّ الله على البلاد من خير إقتصادي وجهت قدراته و إمكاناته لتحقيق الأهداف التنموية التي رسمت معالمها القيادة السياسية.

و لكن كانت لتلك حقبة متطلباتها و إلتزاماتها و ممارساتها و أحكامها … و أنجز ما أنجز فيها من أهداف تنموية تحقق من خلالها بناء الإنسان العماني الحديث و تفاعل حضاري و استقرار سياسي و اجتماعي ، و نتيجة لذلك طفح على سطح المجتمع العماني جيل جديد تواصل مع حكومته التي مكنته من بلوغ آفاق معرفية جديدة و تطلعات ثقافية و اجتماعية و سياسية منصهرا بذلك و مواكبا مع متطلبات الحياة المعاصرة ، حيث تلاشت نوعا ما الفروقات و الطبقية الاجتماعية ، و أصبح ينظر للمرء و يقيم بعلمه و فعله و عمله لا بأصله و ماله و إن كان المجتمع لزم الاحتفاظ ببعض أعرافه و خلقياته و آدابه و وضعيته الاعتبارية ، فكان لهذا الجيل الجديد الحق في التطلع لمزيد من الآفاق و المطالبة بمزيد من الاندماج و التفاعل بين الحكومة و الشعب ليس كرها أو نقدا لما هو قائم بل استكمالا لمسيرة التنمية و البناء و العمران ، و كان أيضا أن خرج هذا الجيل الجديد بالمطالبة بمزيد من الحرية الفكرية و التعبير عن الرأي و بتغيير السياسة الإعلامية المبنية على التكتم و السرية و الإنغلاق الفكري و الثقافي و عدم تقبل الرأي الآخر ، كما كانت له مطالبة بتخفيف انخراط العسكر في إدارة دفة القيادة و رجوعهم إلى ثكناتهم و إتاحة الفرصة للنشء الجديد في تسلم المراكز القيادية و تخلي “الحرس القديم” على التأثير في صناعة القرارات المحورية في الحكومة ، كما علت أصوات مطالبة باعتماد دستور دائم للبلاد تكون فيه إدارة الشؤون التنفيذية للحكومة و رئاستها لرئيس وزراء يعينه السلطان أو ما يعرف في المصطلح العام بتحويل البلاد إلى سلطنة دستورية يكون السلطان فيها على رأس الحكم بينما يتخلى عن إدار حكومة لرئيس وزراء من الأسرة المالكة أو من الشعب ليدير دفة الجهاز التنفيذي للحكومة و يشمل هذا الدستور تطوير العملية الانتخابية في البلاد و التعيينات الشرفية و إعادة هيكلة “مجلس عمان” الذي يضم جميع المجالس التشريعية و التنظيمية و التنفيذية في البلاد أي مجلس الدولة و مجلس الشورى و مجلس الوزراء ، كما شملت تلك المطالب الفصل بين السلطات التشريعية و القضائية و التنظيمية و التنفيذية و الاستقلالية في صنع القرارات.

لا أريد أن أدخل في تفاصيل هذه المطالبات أو التوجهات و ما صاحبها من جدل و اتهامات و نعت بالمنفعية و الأربية و شق الصف الوطني و التمرد و الطموحات و الأطماع و عدم الولاء و الانتماء … إلخ ، و لكنني سأتحدث عن أهمية بناء توجه هادف يحدد مستقبل زاهر مستقر للوطن نتيجة للتغيرات و التطورات و التفاعلات و الطموحات الفكرية و الثقافية و الاجتماعية و الاقتصادية التي طرأت على المجتمع العماني و الفكر العماني و النشء العماني منذ عام 2000 م و هو العام الذي شهدت فيه البلاد الشروع و التطبيق الفعلي للاندماج مع العولمة و التوجه نحو العالمية و الانفتاح الفكري بسن قوانين و تشريعات جديدة لكافة المؤسسات الوطنية من قضاء و إقتصاد و أمن و إجتماع و تقنية.

لقد تحقق في سلطنة عمان خلال الأربعين عاما الماضية العديد من الانجازات التنموية و الاصلاحات السياسية و الاجتماعية … فمن تأسيس التعليم و الجامعات و الكليات و المعاهد المختصة إلى حقوق المرأة و مشاركتها لإخيها الرجل في عملية بناء و تنمية الوطن و الاهتمام بمتطلبات النشء الجديد و تنمية مدارك فكرهم و هواياتهم ، و استثمرت خيرات الوطن لتحقيق التنمية و بناء الإنسان و حفظ الانجازات التنموية … و أظهر الإعلام الوطني الصورة الجمالية للإنجازات النهضة التنموية في إطار و برواز جميل فاخر مزخرف يحتوي بين جوانبه و طياته صورة يصعب فهمها و تقييمها و توقع نتائجها لتلك الإنجازات النهضوية التي عمت البلاد و شملت مختلف شرائحها الإجتماعية و تقسيماتها الإدارية و تبوغرافيتها الجغرافية و السكانية. و لا يمكن لأي إنسان أن ينكر أهمية و مقدار تلك الإنجازات التنموية و الإستقرار الأمني اللذين تحققا في بلد عاش نحو ثلاثة قرون من الحروب الأهلية و الصراعات القبلية و التقسيم و الإنفصال السياسي و الغزو و التواجد الأجنبي على أرضه … فما بنته و حققته القيادة السياسية للبلاد على مر أربعين عاما من النهضة و الاستقرار السياسي و الأمني و الإقتصادي و التلاحم الإجتماعي بين مختلف أفراد و شرائح و طوائف المجتمع لهو جدير بالإطراء و الفخر و التبجيل … و لكن كيف لنا أن نحافظ على مثل تلك الإنجازات التنموية و مكاسبها و التلاحم الوطني و الإجتماعي و الإستقرار السياسي و الأمني للبلاد ؟ … و لنا هنا تعود إلى القيادة السياسة و أفراد و شرائح و طوائف المجتمع بكافة انتماءاتهم الإجتماعية و القبلية … إلخ. كما أن الجميع يود الحفاظ على تلك الإنجازات التنموية و المكاسب الوطنية و التلاحمات الإجتماعية و لا يود أحد أن تعود البلاد إلى دوامة الصراع على السلطة و الفوضى و الإنشقاق في التوجهات و المدارك الوطنية.

تعود الشعب عبر الأربعين عاما المنصرمة أن تقدم له الأمور و الإنجازات و المشاريع التنموية على أطباق فاخرة و وسط طنين إعلامي ضوضائي … قيل عنه أنه تلاحم بين السلطة العليا و الشعب و أن السلطة العليا لحنانها و رقتها و شعورها الدافيء نحو الشعب استلهمت من فكرها النير تحقيق تلك الإنجازات التنموية و العطايا الخيرة كمكرمات تسوقها إلى الشعب من إجل إسعاده و تحقيق رفاهيته و تلبية لمطالبه … أما الشعب فكان ينظر إلى تلك الأمور بنظرة محبة تفاؤلية كونها ترى أن القيادة العليا ليس لها هم و شاغل سوى تحقيق سعادته و رفاهيته و تلبية مطالبه بعد شح و معاناة و شظف عيش إستمر قرونا عدة ، فكان الولاء و السمع و الطاعة لتلك القيادة العليا التي ما فتأت يوما من الحرص على تحقيق إرادة الشعب و مكتسبات التنمية و السهر على استقرار الوطن و أمنه و راحة أبنائه كما تبثه و سائل الإعلام الرسمية.

و لكن و بعد مرور الأربعين عاما التي تحققت خلالها انجازات عدة و سادتها عملية بناء جادة بدء الشعب يتساءل عن مصير تلك الانجازات و كيفية الحفاظ عليها و الرقي بها و الحفاظ على منجزاتها و أهدافها … بدء ينظر نحو المستقبل و بدء يتساءل ماذا سيحدث – لا قدر الله – أن حدث فراغ في قمة السلطة ؟ و عن كيفية إدارة البلاد ؟ و عن مشاركة الشعب في قرارات الحكومة التي لا يزال أشخاصها المؤثرين و مراكز القوة فيها على رأس عملهم و مراكزهم و كأنهم خالدين فيها إلى مالانهاية ؟ ! … بدء الشعب – و خاصة الطبقة الشابة المثقفة الغيورة – يتساءل عن مستقبل البلاد و حقوق المواطنة و استقرار الأمور في البلاد و استمرارية دوران عجلة التنمية فيها و المحافظة على المنجزات ؟ ! … فكانت أن طرحت أفكار و مطالبات لعلها تحرك ذلك الآسن من طموحات الحكومة و الشعب.

فهل استعدت الحكومة لمواجهة المستقبل و التغير في فكر الشباب العماني في توجه يحقق مطالبهم و مشاركتهم في صنع القرارات و عملية البناء و التطوير التي لم و لن تنتهي ؟ … و هل المستقبل غامض التوجه و الإتجاه في ظل حكومة تكون للسلطة فيها التفرد في صناعة القرارات ؟ و هل صاحب السلطة و صانع القرار مستعد أن يتخلى عن بعض من مهامه و صلاحياته و يشارك أفراد الشعب و يدعمهم في المساهمة في إدارة دفة القيادة في البلاد و صنع القرار ؟ … و هل مستقبل البلاد متروك لعالم الغيب ؟

نأمل أن يتدارك الجميع أهمية تحديد مسار مستقبل الوطن و أن لا تترك الظروف المستقبلية و واقعها التحكم في تحديد ذلك المسار ، و أن لا تكون مقولة “أنا … و من بعدي الطوفان” هي واقع الحال بعد ذلك … و من هنا ندعو إلى مشاركة شعبية في صناعة القرار وفق حكومة دستورية تراعي إحتياجات و تطلعات القيادة و الحاكم و المحكوم و أن تتدارك القيادة العليا أهمية مواصلة الحفاظ على انجازات التنمية التي عمت البلاد التي رسمت سياساتها القيادة الحالية للبلاد بنجاحاتها و اخفاقاتها المتباينة …

و عدت فبنيت و أنجزت و وفيت … فلابد لمسيرة البناء و العطاء الاستمرار لتعلي من شأن الوطن و المواطن … كما أردت ذلك دائما.

… حفظ الله الوطن “عمان”.

مسقط في 23 جمادى الأولى 1431 هـ

الموافق 8 مايو 2010 م

العدد الثالث سياسة

عن الكاتب

مازن الطائي

كاتب عماني وباحث في الشؤون التاريخية