الحلقة 5 من الربيع العربي

 إذَن؛ إذا عُرف السبب بطُل العجب 

وهذا يعني في المحصلة النهائية، أن كل ما ذكر أعلاه مثّل عوامل القوةفي يد القوى المناهضة للثورة، ضمنت بها الانتصار والغلبة في الصراعفي الوقت الذي مثّل فيه أيضاًعوامل الضعففي جسد القوى الوطنية والثورية، أدت بها إلى مكابدةالإخفاق والفشل في تحقيق ما تصبوإليه من مشروعات التغيير والتطوير لأوطانها والشعوب.[Text Wrapping Break]وعليه؛ فكل ما تعانيه شعوب هذه الأمة من مظاهر الجهل والفقر والتخلف والعجز عن مواكبة الحضارة وإقامة مجتمعات التقدم العلمي والازدهار الاقتصادي، إنما سببه هذه الأنظمة السياسية الضيقة الأفق وعقلياتها المتخلفة، التي عملت، بكل ما أوتيت من عوامل القوة والخداع، على زرع أسباب العجز والوهن في بنية شعوب هذه البلدان عبر قرون من الزمن.”إذ كيف ننشد التقدم والتطور من فكر متخلف وعقل متبلد متحجر؟!” ففاقد الشيء لا يعطيه، مهما ادعت هذه الأنظمة والحكومات من رغبة في التقدم والتطور.[Text Wrapping Break]وهذا ما “يفسر“، في الجانب الآخر، “فشل كل محاولات التغيير” التي شهدها العالم العربي، بما فيها “ثورات الربيع العربي” الأخيرة، وإخفاقها ونكوصها عن تحقيق غاياتها الوطنية المأمولة؛ لأن كل العناصر القائمة على تلك المحاولات، كانت في حقيقتها مغيبة العقل، مصادَرة التفكير، ترسب في أعماقها مخلفات القرون، من فكر العبودية والإقطاع والقبلية والعنصرية والمذهبية والطائفية التي أُرضعت إياها أجيالُها مع لبن الأم. فمهما ادعت تجردها وخلاصها من تلك القيم، لكنها في حقيقتها لم تتحرر منها ومن تأثيرها وسطوتها على فكرها وسلوكها في الحياة؛ لذا نجدها سرعان ما تطفوعلى السطح وتبرز في ممارساتها وسلوكياتها اليومية التي تؤكد، في مجملها، إنتاجها لنفس الأنظمة والقيم التي قامت ضدها بالأمس. وهذا ما حدث جلياً في جمهورية اليمن الجنوبي الاشتراكية، وفي الثورة العمانية، وفي صفوف الثورة الفلسطينية، ومن قبلها الثورة الجزائرية، وكذلك الآن من ظهور التمزق والتفرق والتشرذم القائم بين أبناء الأمة إلى فسيفساء متناثرة تحت مسميات دينية وطائفية ومذهبية وعقائدية مختلفة، كالقاعدة وداعش وجبهة النصرة وحزب الله وميليشيات السنة والشيعة والإخوان المسلمين… إلخ ، والاحتراب فيما بينها، واتخاذ بعضها عدواً لبعض، تاركين عدوهم الحقيقي يفعل فعله القبيح فيهم من زرعه الأحقاد فيما بينهم، وجعلهم يقومون، في كثير من الأحيان، بدلاً عنه، من حيث يعلمون أو لا يعلمون، بأدواره المشؤومة في نشر الخصام والكراهية ضد بعضهم البعض، والخراب والدمار في أوطانهم المعذبة المغدورة؛ فتحولت تلك الثورات إلى ما يشبه “القطة التي تأكل أبناءها” متناسية وحدة عناصرها واشتراكهم في المسير والمصير بانقسامها شيعاً ومذاهباً وفصائل أشبه ما يكون بالقبائل، وتناحرت فيما بينها ووجهت بنادقها لصدور بعضها البعض، بدلاً من توحدها ومجابهة العدوالحقيقي المشترك. وهذا ما يفسر أيضاً تحول جمهورياتنا العربية التي رفعت ذات يوم شعارات التحرر والتقدم والاشتراكية، إلى أنظمة ديكتاتورية وراثية، كالذي حدث، مثلاً، في نظام الأسد بسوريا، ومعمر القذافي بليبيا، وعلي عبدالله صالح باليمن، وحسني مبارك بمصر، وصدام حسين بالعراق ومن قبلهم جميعاً حكم الحبيب بورقيبة (الذي تلقب بالزعيم الخالد) في الجمهورية التونسية ، وجعفر النميري بجمهورية السودان.

وبذا تكون هذه الحكومات الرجعية ومن ورائها القوى الاستعمارية قد نجحت في مخططها الجهنمي الهادف إلى إبقاء وجودها المذِل واستمراره في المنطقة أطول فترة ممكنة، وإلى “إجهاض” أي عمل ضدها تقوم به القوى الوطنية في مستقبل الأيام.

على أنه رب قائل يقول بأن مرحلة الإقطاع والعبودية والمجتمعات الرعوية والقبلية قد مرت ذات يوم على كافة التجمعات البشرية دون استثناء، فلماذا تلاشت واضمحلت هناك في كثير من بقاع الأرض، وبقيت عندنا راسخة نابضة بالحياة في بلداننا العربية؟[Text Wrapping Break]والحق أنه سؤال منطقي ووجيه، حري بأصحاب الفكر والعقول البحث فيه ومحاولة الإجابة عليه.[Text Wrapping Break]بيد أني هنا أستطيع القول بأن مرد ذلك الأمر يعود “للخصوصية” التي ميزت مجتمعاتنا العربية عن غيرها من المجتمعات البشرية عبر القرون، والتي تجلت في الحضور الطاغي والقوي للقبلية وعصبيتها الجاهلية في حياة التجمعات العربية أكثر منها في حياة أية تجمعات إنسانية أخرى. فتلك هي “صورة العرب – عند ابن خلدون – في طور «البداوة المتوحشة» الذين يفرون من الاستقرار والعمران، ويهدمون المباني لتحويل أحجارها إلى أثافٍ للقدور، ويهدمون السقف ليتخذوا من أخشابه أوتاداً للخيام” ،  وهي وجهة نظر، على قسوتها، حرية بالاحترام والتأمل، فلم تنقسم على ذاتها أية أمة ناطقة بلسان واحد ولها نفس العادات والتقاليد إلى عدد القبائل التي شهدتها أمة العرب، إلى الحد الذي صار فيه الفرد يُعرف بانتمائه القبلي قبل معرفته بانتمائه الوطني، فهو التميمي أوالغساني أوالعلوي والدرزي أو القحطاني، قبل أن يكون عمانياً أوعراقياً أوسورياً أو يمنياً، وقليلاً ما عرفنا، في التاريخ، حروباً طاحنة استمرت عشرات السنين بين “أبناء العمومة” وقعت في أية بقعة من بقاع الأرض ولأسباب تافهة كما وقعت في أوطاننا العربية، “كحرب البسوس” التي استمرت أربعين سنة بين بكر وتغلب على قتل ناقة، و”حرب داحس والغبراء” بين قبيلتي عبس وبني ذبيان، التي استغرقت هي الأخرى أربعين سنة على سباق للخيل. والحرب الأهلية في عمان بين “الهناوية والغافرية” التي استمرت حوالي خمسة وعشرين سنة على كرسي الحكم؛ والحق أنه عندما جاء الإسلام حاول إنهاء هذه العصبية الجاهلية ومكافحتها، فآخى بين الأوس والخزرج، وبين المهاجرين والأنصار، ولكنها سرعان ما عاودت ظهورها في أبشع صورها بعد موت الرسول مباشرة، التي بدأت بحروب الردة واستعرت من ثم في الحروب المشهورة بين أبناء العقيدة الواحدة، كحرب صفين وموقعة الجمل ومعركة النهروان، والتصفيات الجسدية والصراعات الدموية المرعبة التي طالت الخلفاء وسبطي الرسول الحسن والحسين، والصحابة ومئات الآلاف من المسلمين في عهود الدولة الأموية والعباسية والعثمانية التي لا مجال لذكرها هنا في هذه المقالة؛ وبقيت تلك النعرة القبلية على سطوتها في العقول والسلوك حتى يومنا الحاضر، بل واتخذت لنفسها صوراً أخرى مواكبة لصرعات وصراعات العصر، مثل التعصب الكروي لهذا الفريق أوذاك، كانشقاق المجتمع المصري بين أهلاوي وزملكاوي، وانقسام الشباب العربي بين مؤيد لبرشلونة ومؤيد لمدريد؛ وصارت كرة القدم عندنا أكبر ملهاة ومأساة للشعوب.

أجل! شهد العالم في أجزاء كثيرة منه أحداثاً دموية مماثلة، لكنها في الغالب لم تكن بين أبناء الجلدة الواحدة أوالعقيدة الواحدة، كما حدث عند العرب، (ونستثني هنا الحروب الكونية الأولى والثانية، لأنها حروب كونية) وإنما كانت صراعات إثنية أو دينية أو قومية أو طبقية اقتصادية؛ كصراع القادمين من أوروبا والهنود الحمر في أمريكا، والصراع بين التاميل والسنهال في سيرلانكا، والصراع بين السيخ والهندوس والمسلمين في الهند وصراع التمييز العنصري بين السود والبيض في القارة الإفريقية، وكذلك الصراع الذي حدث داخل الديانة المسيحية بين الكاثوليك والبروتستانت والأرثوذكس، الذي لم يدم طويلاً ولم يكن بالشراسة التي حدث بها بين القبائل العربية والمذاهب والطوائف الإسلامية، وحتى المجتمع الإسرائيلي هو الآخر شهد وجود ثلاث فئات من اليهود هم: “الإشكناز” وهم يهود ألمانيا وأوروبا الشرقية والوسطى والغربية، وهم الطبقة العليا في إسرائيل، التي تتمتع بالغنى والهيمنة على المؤسسات السياسية والاجتماعية.[Text Wrapping Break]و”اليهود السفارديم”: الذين تعود أصولهم الأولى ليهود إيبيريا (إسبانيا والبرتغال) الذين طردوا منها في القرن الخامس عشر، وتفرقوا في شمال أفريقيا وآسيا الصغرى والشام، وهم الطبقة الدنيا داخل المجتمع الإسرائيلى.

و”اليهود المزراحيون”: وهم اليهود القادمون أوالمتحدرون من سلالة يهود الشرق الاوسط وبعض البلدان الإسلامية. ويهود إيران وجبل (القفقاس) والهند وكردستان وجورجيا ويهود بخارى (آسيا الوسطى)، إضافة إلى يهود اليمن والعراق وإثيويبا والسودان وسوريا ويهود الجزيرة العربية (*3) غير أن هذا الهجين من شذاذ الآفاق، رغم التفاوت الطبقي بين مكوناته، ورغم اختلاف البيئات التي انحدروا منها، إلاّ أنه  لم يشهد صراعاً مكشوفاً فاضحاً كما شهدته وتشهده المجتمعات العربية، بل تم تجاوزه فيما بينهم وتغليب المصلحة العليا لكيانهم المسمى بإسرائيل.

الثامن والسبعون سياسة

عن الكاتب

زهران بن زاهر الصارمي

abu-shamsan@windowslive.com
99206716