أوقفوا بناء المساجد

كتب بواسطة جمال النوفلي

أوقفوا بناء المساجد

“لقمةٌ في بطن جائع خير من بناء ألف جامع، وخير ممن كسا الكعبة وألبسها البراقع، وخير ممن قام لله بين ساجد وراكع، وخير ممن جاهد للكفر بسيف مهند قاطع، وخير ممن صام الدهر والحر واقع، فيــــــا بشرى لمن أطعم الجائع”.

الإمام عبد القادر الجيلاني رحمه الله ..

 

(أوقفوا بناء المساجد ..)

 

ملايين الريالات تصرف سنويا من أجل سداد فواتير كهرباء المساجد ..

ملايين الريالات تصرف سنويا من أجل سداد فواتير ماء المساجد ..

ملايين الريالات تصرف سنويا من أجل سداد فواتير أئمة المساجد وراتبهم وخدماتهم ..

ليس الديوان هو الجهة الوحيدة التي تبذر في الأموال دون حد .. وإنما نحن المتدينون أيضا، بالرغم من جهود وزارة الأوقاف المشكورة في تنظيم شؤون المساجد وعملية البناء العشوائي غير المتناهي..

 

لا أنا لست عدوا للمساجد، لكن رجاء أقفوا بناءها أو بناء بعضها، فهي تتزايد بشكل مخيف وتتوسع في المربعات السكنية على حساب حدائق الاطفال والمراكز الصحية ومدارس الأبناء ومكتبات المعرفة، فكم من أرض خططت كمتنزه للناس حولت إلى مسجد، وكم من ملعب أو مكتبة ضم إلى باحة المسجد، ثم تأتي لترى المصلين فلا تجد إلا العمالة الأجنبية ترتادها لقضاء أيام الجمع المباركة هروبا من حر الصيف وبرد الشتاء واستخداما لحمامتها ومائها في الاستحمام. بالطبع أنا لا أكره المساجد والعياذ بالله فأنا مسلم والمسجد هو بيت الله، والمساجد جميعها هي بيوت الله، ولكن الله واحد أحد، لا يحويه مكان ولا يحده زمان، فلماذا نبني له البيوت في كل مكان، فلو بحثنا عنه لوجدناه في أنفسنا ولوجدناه في كل جزء جميل من حياتنا حيث يوجد الإيمان نجد الله، حيث يننشر الخير نجد الله، حيث تورق أزهار التعايش بين الناس بالحب نجد الله، وحيث يعم السلام على النفوس نجد الله، ستجدونه هناك على طاولة طعام منازلكم الدافئة وفي عيون أطفالكم السعيدة وترونه في دعاء زوجاتكم الشاكرة وعطف أمهاتكم الرحيمة، لكنه حتما لن يكون موجوداً في قلوب المتعصبين ولا قنابل التفجيرين الإرهابين ولا في تلك المساجد التي يغرس فيها التعاليم المذهبية والتكفيرية والأفكار العنصرية، وترسم حدود التعصب والكراهية، ويلعن فيها بعد كل صلاة أكثر سكان أهل الارض الذين لا يعرفهم اللاعن أصلا، بل ربما قد يكون من بينهم أقرباؤه وأساتذته وأصدقاؤه، وهو يردد في خشوع تام اللهم العنهم جميعاً وشتت بهم الأرض ومزقهم كل ممزق ولا تذر لهم من باقية وهو لا يدرك ذلك .. .

 

صدقوني أن الله ليس في هذه المساجد، وليس في تلك المحاريب، فهي في الحقيقة ليست إلاّ جدرانا من الطابوق الإسمنتي المصفوف بعضه فوق بعض، ولا حتى الكعبة المشرفة تحمل في ذاتها تلك القدسية التي يكنها لها كثير من مسلمي اليوم، أتعلمون أن آلافاً من المسملين في عام ٦٤ للهجرة أحرقوا الكعبة بأمر من يزيد بن معاوية، وجلهم من الصاحبة والتابعين، وأن الحجاج بن يوسف الثقفي ذهب من العراق إلى مكة بجيش من المسلمين ورموا الكعبة بالمنجيق حتى هدموها عن بكرة أبيها وعادوا .. ، وهم جيش الخليفة والتابعين وهو والي خليفة رسول الله، ووالي الخلافة الاسلامية، فماذا حل بهم بعد ذلك؟!! لا شيء، بل انتقموا من خصومهم وعادوا إلى منازلهم ليكملوا صلاتهم وصيامهم كباقي المسلمين، هل تعلم أنّ القرامطة سرقوا الحجر الأسود وأخفوه عن المسلمين مدة ٢٢ عاما، ثم أعادوه لأهل مكة بيعاً، ولا نعلم هل أعادوا الحجر الأسود نفسه أم حجرا آخر. استمعوا إلى هذه الرواية من كتاب تحفة الراكع والساجد في أحكام المساجد لأبي بكر الجراعي ٨٨٣ هـ التي تحكي كيفية إعادة الحجر:

 

“إنهم باعوه [أي القرامطة] من الخليفة المقتدر بثلاثين ألف دينار. ولما أرادوا تسليمه، أشهدوا عليهم أنّهم تسلّموا الحجر الأسود، وقالوا لهم بعد الشهادة: “يا من لا عقل لهم، من علم منكم أن هذا هو الحجر الأسود ولعلنا أحضرنا حجرا أسودا من هذه البرية عوضه، فسكت الناس، وكان فيهم عبد الله بن عكيم المحدث، فقال لنا في الحجر الأسود علامة؛ فإن كانت موجودة: فهو هو، وإن كانت معدومة، فليس هو، ثم رفع حديثاً غريباً أن الحجر الأسود يطفو على وجه الماء ولا يسخن بالنار إذا أوقدت عليه، فأحضر القرمطي طستا فيه ماء ووضع الحجر فيه فطفى على الماء، ثم أوقدت عليه النار فلم يحس بها فمد عبد الله المحدث يده وأخذ الحجر وقبله وقال: أشهد أنه الحجر الأسود، فتعجب القرمطي من ذلك، وقال: هذا دين مضبوط بالنقل. وأرسل الحجر إلى مكة”.

 

خمسون ألف ريال عماني تكلفة بناء مسجد صغير، خمسمائة ألف ريال عماني تكلفة بناء مسجد كبير يصلح لصلاة الجمعة، أما اذا أكثرت فيه من الديكورات فإن المبلغ سوف يصعد الى أعلى من ذلك كثيرا، ثم يأتي وكيل المسجد أو المتبرع به فيختار اسما من أسمائه ليكون اسما للمسجد و ويخصص مكانا لصلاته فيه وموقفا لسيارته، ثم يدعوا كبار شيوخ الدين لافتتاحه وإقامة المحاضرات والدروس فيه ثم يقول هذا بيت الله .. ، لا والله إنه بيتك أنت.. وبيت شيوخ دينك وأحبابك.

 

أما الله فسوف تجده إن أردت في بيوت الفقراء ومنازل المساكين وآلام المرضى وجيوب طلبة العلم .. فاذهب إليه هناك وابنِ مساكن اجتماعية أو ابنِ مكتبة تستوعب تلك النفوس المتعطشة للعلم والمعرفة أو ابني مسجدا أو داوي المرضى بمالك، وأوجد لهم ما يسد حاجتهم من الطعام الطيب ومن اللباس الساتر النظيف ومن الكتاب النافع .. .

 

والعجيب أن في كل ركن صغير من هذه البلاد وفي كل مربع منها، تجد بناء مسجد وحوله مئات من بيوت الفقراء والمرضى والعاطلين عن العمل والمعوزين، والأعجب من ذلك حين تدرك أن هؤلاء المساكين هم أنفسهم من قد تبرع بأمواله القليلة لبناء هذه المساجد طلباً للبركة، ثم تراهم يقعدون على أبواب الأثرياء ومسؤولي الحكومة طلبا للعون والمال.. .

 

لا أطلب هدم مساجد قد تم بناؤها والصلاة فيها، لكن أطلب أن يعاد النظر في سياسة بناء المساجد والفائدة المتحصلة من بنائها مقابل ما يتم صرفه وتبذيره عليها من ملايين في ظل حاجة اقتصادية ماسة لهذه الأموال لدعم الاقتصاد الوطني، وإعادة صياغة منظومة التعليم ودعمها للخروج من حالة التأخر والتخلف العلمي الذي تعاني منه البلد، والذي لا يتواكب مع متطلبات العصر، حتى أصبح لدينا الكثير من حملة الشهادات العليا لا يعون من تخصصاتهم شيئا إلاّ شتاتا من الأحاديث والمواعظ الدينية التي يحرصون على ارتيادها بشكل يومي أو أسبوعي، ظنا منهم أن العلم هو الاستماع إلى المواعظ الدينية وتفاصيل المسائل الفقية في غسل الجنابة واستدراك الصلاة، أو العقدية التي تكرر أدلة إثبات صحة مذهبه وبطلان غيره والبراءة من العاصي والمخالف.. . والأدهى من ذلك حين يتم الحكم على مستوى الطلبة في الجامعات والكليات من خلال قدرتهم على قراءة وترتيل سورة الفاتحة أو من خلال مدى التزام الفتيات بلبس الحجاب بالطريقة السلفية الصحيحة.

 

لذلك أرجوكم أوقفوا بناء المساجد وابنوا لنا مكتبات نقرأ فيها من شتى المعارف ونلتقي فيها بعلماء وحكماء أناروا الكون بعلمهم وحكتهم، وازدهرت الحضارات في شرق الارض وغربها بفنون واختراعات وابداعات لا حد لها ..

 

تصوروا لو يجمع الناس تبرعات لبناء مركز علمي، أو لإقامة مشروعي تجاري يدر ريعه على الفقراء ويوفر لهم العمل ويبني لهم المساكن، أو لبناء مركز صحي .. تصوروا قرى متكاملة دون دعم من الحكومة، فقط من تبرعاتنا وتبرعات المحسنين والطيبين .. .

العدد الثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

جمال النوفلي