غاية الجمال.. والروعة

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

 

قراءة في كتاب: أشكال لا نهائية غاية في الجمال

تأليف: شون كارول

ترجمة: حمد الغيثي وعبدالله المعمري

صدر عن: كلمة للنشر، أبوظبي ٢٠١٦م

 

 

“فأما خلقُ البعوضة والنملة والفراشة والذَّرّة والذُّبّان والجِعلان واليعاسيب والجراد فإياك أن تتهاون بشأن هذا الجند، وتستخف بالآلة التي في هذا الذرء”

 

عمرو بن بحر الجاحظ

كتاب الحيوان

 

١. مشاهدات وأسئلة:

هل الحمار الوحشي أسود مخطط بالأبيض أم أبيض مخطط بالأسود؟ ما الذي يجعل جناح الذبابة الخلفي في مكانه؟ وكيف تكتسب الفراشة ألوان أجنحتها؟ وما العلاقة التكوينية بين الإنسان والشارخة؟ وما قصة الكائنات في تاريخ الحياة منذ ٥٠٠ مليون سنة؟ وكيف وصلنا إلى الإنسان؟ وكيف يعمل العقل الجميل؟

يحاول كتاب (أشكال لا نهائية غاية في الجمال) البحث عن إجابات كل تلك الأسئلة بالاستعانة بعلم النمو التطوري ( يمكن أن نقترح علم النموط الحي من بدمج النمو بالتطور كما في المصطلح الإنجليزي  الإيفو ديفو)[1]. أما مؤلف الكتاب شون كارول فله كتب أخرى حول الأحياء كان آخرها الصادر ٢٠١٦ “نظام السيرينجيتي: البحث عن طريقة عمل الحياة وأهميتها”. وحازت معظم كتبه على جوائز خاصة لطريقة كتابتها وإتقانها في بسط المعلومات العلمية وجعلها جذابة لعموم القراء والمختصين كذلك.

 

حازت الترجمة العربية لكتاب “أشكال لا نهائية غاية في الجمال” على جائزة السلطان قابوس للثقافة والعلوم عن فرع الترجمة بجدارة، ويقع الكتاب المدعم بالصور التوضيحية في قسمين أو جزئين، جزء للنمو وآخر للتطور كما هو متوقع من اسم العلم النمو ديفو والتطور إيفو، .  يتناول القسم الأول صناعة الحيوانات متخصصاً حول الشكل، وبالتحديد حول عمل الجينات وهو الجزء الأمتع، برأيي، للتعرف على التجارب التي أجريت على ذبابة الفاكهة وكيف تم الانتقال منها إلى التعرف على جزء كبير من صورة الجينات، وكذلك مساهمة أجنة الضفادع في التعرف على التحديد الجغرافي الذي تأخذه الجينات لتقسيم البويضة كما لو أنها كرة أرضية بخطوط طول وعرض ص١٣٢، يتم توزيع خلايا الأعضاء والأجهزة الحيوية المختلفة عبرها في خريطة جسم الكائن الحي، بما في ذلك أدق تفصيل، وكيف يتطور ذلك من مجموعة قواعد بسيطة هي أربعة قواعد نيكلوتيدات A,T,C,G تمتد بجديلتين بينهما روابط لتشكل الجينات ثم تشكل آلاف الجينات الكروموسوم الواحد ص٨٨. أما القسم الثاني فهو حول الأحافير والجينات وصناعة التنوع الحيواني ويتعرّض أكثر لقصة التطور الحيواني منذ أكثر من ٥٠٠ مليون سنة، وتتخصص بعض أبوابه في ألوان أجسام الكائنات كالفراشات وحمر الوحش، ونتعرف على الجين الملون MC1R ص٣٣١، ثم حول عقل الإنسان.

يهم الكتاب المشتغلين بالأحياء والمتخصصين بالتأكيد لكنه يهم أيضاً الفضوليين للمعرفة والشغوفين بأشكال الحياة المختلفة، ولا تنقص الكتاب البراعة في عرض المادة العلمية المعززة بالصور والشروحات، والتي كنت تمنيت لو أنها ترجمت أيضاً للقارئ العربي بدل تركها بهيئتها الإنجليزية. مع ذلك لا يشكو الكتاب من أي عيب في عرض مادته العلمية وتقريبها للقارئ، كما سيلاحظ القارئ الجهد المبذول لإثارة إندهاشه وتساؤلاته بوصفها مرتكزاً من مرتكزات تحرير الكتاب، ونجحت نسبياً في تحقيق الهدف، إضافة للاقتباسات البارعة.

في خضم الكتاب يبدو المؤلف مشغولاً بعرض علم النمو التطوري (الإيفوديفو) بوصفه ثورة في فهمنا للأحياء سواء في الوقت الراهن أو في المدى التاريخي للتطور الأحيائي، وكما هو واضح في مخطط الكتاب الذي استعرضناه فإن التركيز جرى على أمرين رئيسيين هما النمو والتطور، وذلك عبر تتبع ومحاولة فهم عمل الجينات وأثرها.

 

٢. حماسة واستعداد:

 

إذا كان القارئ العام أصبح اليوم أكثر ألفة مع مفهوم الجينات أو مع علم الجينات لانتشاره في الإعلام، فإنّ هذا الكتاب هو الفرصة للتعرف عن قرب على شفرة التكوين والحياة، وطريقة عمل الجينات والقواعد الصارمة للشفرات الوراثية التي لا تخطئ طريقها وخدمة الجسم الذي توجد فيه حتى لو نقلت الجينات من نوع كالفأر الذي ينسب إلى الثدييات إلى نوع آخر كذبابة الفاكهة التي تنسب إلى الحشرات.

لا شك أن الكتاب يهم الجميع سواء القراء الفضوليين لقراءة الكتب العلمية وكذلك معلمي الأحياء في العالم العربي والمتخصصين أيضاً، لأن كتاب أشكال لا نهائية هو مخصص فعلاً لهذا الغرض وهو تقريب علم النمو التطوري القائم على علم الجينات بأسلوب بارع على يد مؤلفه شون كارول عالم الأحياء الجزيئية والجينات والجينات الطبية بجامعة وسكُنسن الأمريكية، وهو أحد رواد علم النمو التطوري والمشتغلين المباشرين في هذا الحقل.

في الحياة العادية نلاقي كائنات عديدة بعضها نعرف أسمائها وبعضها لا نعرفها، وبفضل الاكتشافات التي توالت في العقدين الأخيرين وصلنا إلى فهم نقطة مهمة في عملية نمو الكائن الحي، وتكوّن الخلايا والوصول إلى تفكيك النواة، وبلوغ الشفرة الوراثية، وفهم طريقة عمل الجينات. ولا شك أن مشاهداتنا البسيطة للكائنات الحية تملؤنا بالحماس؛ للتعرف أكثر على قصة الحياة وتكوينها الذي يتخصص فيه علم الأحياء، وهذا الكتاب بوابة جيدة للتعرف على الاكتشافات التي قادت إلى التعرف على عدة الأدوات الجينية التي خلقت شفرات التطور الأحيائي  التي وفرت كل هذا التنوع المذهل في الكائنات الحيوانية والحشرات والطيور.

 

٣. انذهال:

(بناء حيوان بأكمله عملية معقدة، والتعقيد ينشأ بسبب العمليات المتوازية والمتتالية لجينات عدة الأدوات -عشرات من الجينات تعمل في الوقت والمكان ذاته، وجينات أخرى عديدة تعمل في أماكن مختلفة في الوقت ذاته، ومئات من جينات عدة الأدوات تعمل متتابعة مع تقدم البناء، هذه السلسلة من العمليات المتوازية والمتتابعة هي ما يصنع التعقيد) ص١٦٠

 

حين وصلت في قرائتي نهاية الجزء الأول (صناعة الحيوان) تركت الكتاب من ذهولي، بتعبير أكثر دقة انشغلت طوعاً، كي أستوعب المدى المترامي الأطراف الذي انفتح أمامي مع التعرف الدقيق على عمل الجينات ونماذج لبعض الجينات الشهيرة مثل Hox و Dll، حيث أخذت الصورة المبهمة سابقاً بالتلاشي لتحل محلها صورة أوضح، وتعرفت على مفهوم عدة الأدوات الجينية الخلاب، وصندوق النحت، ومفاتيح الجينات، والمنطق الجيني، فمن كان يتصور، عدا المتخصصين في الأحياء بالطبع، قبل هذه الاكتشافات المذهلة أن العملية الأحيائية المذهلة والمتنوعة لآلاف الأشكال والأنواع والتي عرفت، والتي لم تعرف بعد، تلك التي نراها من حولنا في الحياة، وتلك التي لا نراها كالأحياء الدقيقة، أو تلك التي نرى صورها في التلفزيون فقط، أو تلك التي لم تلتقطها الكاميرات بعد في مجاهيل الأرض، ناشئة من فكرة مذهلة في بساطتها، مثل فكرة القواعد النووية النيتروجينية وروابطها الأساسية وصولاً إلى الجينات فالجينيوم فالخلايا فالأجهزة الحيوية المختلفة في كل كائن حي من الفيروس إلى الشجرة إلى الحوت مروراً بالإنسان بالطبع. تلك العملية الباهرة التي جعلت الأرض مليئة بالحيوات بشكل مدهش وغني وبالغ الروعة والجمال.

 

“إن اكتشاف عدة أدوات مشتركة أعاد تأطير وصياغة الطريقة التي يجب أن نفكر فيها حول تطور التنوع، ..ويخبرنا توزيع هذه الجينات داخل عدة الأدوات أن هذه العُدة وجدت منذ أزمنة سحيقة سبقت تطور أغلب أنواع الحيوانات” ص١١٦

 

ومن الاشتغال  المختبري على ذبابة الفاكهة كانت بوابة الوصول إلى الاكتشافات العلمية التي عرفتنا على الجينات وعملها:

“لقد كانت الحقيقة جلية تماماً ولا يمكن التهرب منها، فعناقيد جينات صندوق النحت تحدد شكل نمو الجنين في حيوانات مختلفة مثل الذباب والفئران، وندرك الآن أن ذلك يشمل جميع كائنات المملكة الحيوانية بما في ذلك البشر والفيلة. لم يتوقع حتى أكثر المنافحين عن أبحاث ذبابة الفاكهة أن يكون للجينات Hox هذه الأهمية والانتشار العام المشترك” ص٩٩

 

إن التعرف على طريقة عمل الجينات يفتح آفقاً مدهشاً للتعرف على هذه القدرة البالغة الدقيقة في نتائجها الحيوية عبر عصور وحقب ممتدة لملايين السنين حافظت على متواليات مدهشة من الحياة، تتكشف لنا أخيراً بشكل دقيق، حتى تمكننا من قراءة كتاب الحياة أو الاقتراب من فهم محتواه:

 

“إن السمة الأساسية التي تسم الحيوانات الكبيرة والمعقدة مثل الفقاريات والمفصليات هي بناؤها المدولي المكون من أجزاء مكررة، وفهم كيفية توظيف المفاتيح في تحويل الأجراء المتكررة إلى أشكال مختلفة بوظائف متغايرة أمر جوهري لفهم صناعة وتطور الحيوان” ص٤

 

إن الفكرة الرئيسية التي يقوم عليها علم الأحياء اليوم جاءت من قبل في حدوس معرفة الإنسان لكن بشكل غامض غير محدد بالأدلة العلمية، وقصص الخلق القديمة التي تتحدث عن طين الخلق ليست بعيدة تماماً عن ما ينكشف اليوم بالأدلة العلمية، والكتاب لا يقول ذلك طبعاً، بل نراه خاصة في الفصل الأخير يسعى لحجة مختلفة، وذلك ما سنأتي له لكن بعد الحديث عن الترجمة للعربية.

 

٤. الترجمة:

من الواضح الجهد البالغ الذي بذلته الترجمة في تجسير نقل الكتاب من لغته الأصلية وثقافته إلى اللغة العربية، خاصة إذا عرفنا الصعوبات المتعلقة بالمصطلحات العلمية الغير متفق عليها في عالمنا العربي، والمدى المترامي الأطراف لعالم اللغة العربية وقرائها، لكننا نستطيع القول أن الترجمة بذلت جهداً كبيراً في جعل الكتاب متاحاً للقارئ العربي، ولم تفتها الالتفاتة للغة العربية وتفعيل مهجور كلماتها ككلمة السعلاة والسعالي والتي يشاع أنها الغيلان وقال الأعشى: ونساءٌ كأنهنَّ السعالي وتروى حكاية في الأدب العربي عن رجل اسمه عمرو تزوج سعلاة، وكذلك استعمال كلمة النسّان والأناسن من النسناس وهم خلق قريب الشبه بالناس، وإن كان المترجمان في الجمع استخدما الأناسن لجمعها بينما جمعها في اللغة النسانس وجاء في العين قول الشاعر: وما الناسُ إلا نحنُ أم ما فعالهم وإن جمعوا نَسناسهم والنّسانسا.

مع ذلك وردت بعض التسميات بشكل يربك الفهم كتسمية بعض أنواع الفراش الرمادية اللون بالعث وإن كانت سميت بذلك لأن الأشهر في العث هو عث الفراش الذي يأكل الصوف، وكان التفريق بينهما أنسب خاصة حين وردت دون صور توضيحية، وكذلك في الصفحة ٩٦ حيث وردت كلمة (بنجو) ترجمة ل bingo، للتعبير عن بلوغ الهدف أو تحقق المراد، وكان يمكن ترجمتها بكلمة مرادفة للمعنى أو قريبة بدل استخدامها نفسها.

بشكل عام حققت الترجمة هدفها بإتقان وكانت جائزة فوزها من بين الأعمال المتقدمة لنيل الجائزة دليلاً على استحقاقها، وعلى الجهد الكبير المبذول لتحقيقها.

 

٥. الدين والعلم معركة أم اتفاق؟

 

يورطني الكتاب، كقارئ، في معركة فكرية مستمرة منذ قرنين بين العلم والدين. أعتقد جازماً أن على كل قارئ، بشكل منفصل، أن يحسم أمره وفقاً لمعارفه ومعتقداته، ورغم أن هذه القراءة مخصصة لاستعراض الكتاب، إلا أنه لا مناص من المرور على هذه القضية.

حرص المترجمان في مقدمتهما على إيجاد المخرج مبكراً من الإشكال الذي يطرحه المؤلف بقولهما: العلم هو أرقى أشكال المعرفة البشرية، وبالتالي فليس ثمة شك في اتفاقه مع الوحي. ليس بين الدين والعلم أي تعارض، وإن وجد التعارض فهو إما صنيعة الأهواء والمصالح، أو صنيعة سوء الفهمين، فهم الدين وفهم العلم. ص٩

هذا الموقف الذي اتخذه المترجمان يجب فهمه انطلاقاً من الواجب الذي يقومان به لنقل المعرفة والعلم لثقافة ولغة مختلفة وبين محاذير الثقافة الإسلامية بشكل عام، وهو أريح المواقف، لأنه كما يبدو في الواقع أن بين المتطرفين على الجانبين: الديني والعلمي، من يريد إشعال النار عامداً، أو يعد العدة للمعركة.

في الحقيقة ليس للعلم قوة ذاتية، إنما قوته من اكتشافه، من علمه بما يجري، أي من كشفه عن العلم الناظم لكوننا ولكوكبنا ولأفلاكنا، ومن محاولاته لإدراك المدى الشاسع الذي تجري فيه هذه الحياة على هذا الكوكب منذ أكثر من ٤ مليارات سنة ويزيد، أي أن العلم يحاول أن يقرأ كتاب الحياة، ومن هنا تأتي قوته، من مقدرته على قراءة هذا الكتاب الحيوي المدهش، وكما قال المؤلف في معرض نقاشه:

أعتقد أن تدريس التطور والعلم يخدم بالطريقة المثلى عبر ترويج المنهج العلمي والمعرفة العلمية وليس عبر مهاجمة الأفكار الدينية. ص٤٠٨

لذلك على العلم أن يترك جانب العقائد وما يعتقده الناس من أديان، كما أن على الأديان بالتالي أن لا تعترض طريق العلم، إلا إذا كانت محكومة بالخوف والرعب، أما إذا كان إيمانها قوياً بما يكفي فلا يوجد ما يدعو لهذه الاعتراضات المستمرة، أو محاولة المعاداة، أو افتعال معركة، بحيث يجب أن يتطابق العلم مع الدين، فمثل ذلك المنهج أسلوب فاشل النتائج، لأن العلم سيمضي في طريقه، وكذلك الأديان، وهذه الحياة من حولنا هي الكتاب الأصلي المقدس الذي منه أتت وتأتي بقية الكتب المقدسة، والعلم يحاول أن يبصرنا بما هو مكتوب، وعليه أن يبقى  في تلك الحدود، دون أن يدعي ألوهية أو سلطة ما، لأنه كما يبدو أن العلم أيضاً يغازل السلطة ويحاول بطريقة أو بأخرى أن يزيح سلطة أخرى في مفاعلاتها.

أما الذات الإلهية فهي رفيعة عن هذا الجدال العقيم كلية.

 

٦. العنوان

جاء العنوان الذي اختاره المؤلف ببراعة من عبارة لتشارلز دارون في كتابه الأشهر (أصل الأنواع) عن الحياة يقول فيها: تطورت، ولا تزال تتطور، من بداية بالغة البساطة، (أشكال لا نهائية غاية في الجمال) والروعة. ص٣٨٨

إن هذه الاكتشافات  العلمية المتتالية  لا تكشف في مضمونها إلا عن مدى العلم الباهر الذي يقف خلف هذا الخلق العجيب والمدهش بشكل مطبق يجعلنا نلمس حواف الجمال الحية والفن الحياتي المستمر، ولعلي أعود هنا لتشكل الأجنة كما عرضها الكتاب، حين تبدو أجنة الكائنات كما لو أنها أشكال لا نهائية للكرة الأرضية، كل كائن في تخلقه، صورة جديدة للكرة الأرضية، صورة عن الحياة.

إنها لحظات ممتعة كما أعتقد لكل قارئ.

 

[1] النمط في اللغة الجماعة، وظهارة الفراش، والطريق، والطريقة، والنوع. أما الطور فالمرة بعد المرة وفي القرآن وخلقناكم أطوارا، والطور النسق، والحد والغاية، والطول. ويمكن أن تؤدي الكلمتان في التركيب المعنى المراد، فضلاً عن أن أصلها من النمو وهي الزيادة، قال ابن سينا في كتاب الطبيعيات: النمو ازدياد على أصل موجود.

العدد الحادي والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد