هلالٌ خصيبٌ بالأزماتِ

كتب بواسطة نبال خماش

 

   لتوضيح افتتاحي تجدر الإشارة إلى أن مصطلح “الهلال الخصيب” الذي يطلق اليوم على إقليم جغرافي يشمل دول: العراق، سوريا، لبنان، الأردن، وفلسطين هو بالأساس مصطلح أنثروبولوجي صرف، أول من أطلقه هو عالم الآثار والمؤرخ الأمريكي جيمس هنري برستد مطلع القرن العشرين على هذه المنطقة باعتبارها من أهم الشواهد الحضارية في التاريخ الإنساني. ثم جرى توظيف هذا المصطلح بوصفه إقليما جغرافيا في المخاطبات والمراسلات الدبلوماسية الغربية، والتي كانت تبحث في مستقبل هذه المنطقة ومصيرها السياسي عقب مغادرة الأتراك العثمانيين وإحلال النفوذ الاستعماري الغربي مكانه. ثم أخذ هذا المفهوم بعدا ثقافيا وسياسيا عندما وظفه أنطون سعادة، المفكر القومي اللبناني الأصل، في ثلاثينيات القرن العشرين باعتباره جوهر فكرته الحزبية المعبر عنها بـ “الحزب السوري القومي الاجتماعي”.

يبقى البعد الإقليمي، عنصرا هاما من مشتركات هذه الدول التي تميزها عن سائر الدول العربية، وهذه ملاحظة لا تحتاج لكثير تدقيق، ذلك أن لكل مجموعة من الدول سمات وخصائص، اقتصادية سياسية وثقافية تميزها عن سواها، فالدول الواقعة في مجرى نهر النيل لها خصوصيتها، وكذا الحال بالنسبة لدول إقليم شبه الجزيرة العربية، ومن المؤكد أن هذا التطبيق ينسحب بالضرورة على دول المغرب العربي. غير أن مشتركات تفصيلية أخرى يمكن إدراجها باعتبارها خصائص سياسية وثقافية واجتماعية يوشك الإقليم الهلالي أن ينفرد بها مقارنة بسائر الدول العربية مجتمعة.

أولى الملاحظات الكبرى المتعلقة بدول الإقليم، أن جميعها دول مصطنعة، لم يسبق لها في أي فترة من فتراتها التاريخية، العربية الإسلامية، أن خاضت تجربة الدولة التقليدية ذات الهوية والاستقلالية، بخلاف سائر الدول العربية التي يمكن اعتبار كل واحدة منها دولة قديمة، لها نظامها السياسي الخاص ومجالها الجغرافي. بالطبع يتفاوت قدم تشكل هذه الدول العربية من دولة إلى أخرى، ويمكننا القول هنا بثقة تاريخية مطلقة أن أول الدول العربية تشكلا وفقا لتعريفات الدولة المعاصرة، أو قريب منها، هي الدولة الإباضية في عُمان، التي استقلت عن الخلافة الأموية وانتخبت أول أئمتها أواسط القرن الثامن الميلادي، تلتها بعد خمسين عاما تقريبا الإمامة الزيدية في اليمن، أما مصر فكان أول استقلال لها عن مركز الخلافة الإسلامية عقب تأسيس الدولة الطولونية أواسط القرن التاسع، ومنذ هذا التاريخ امتازت مصر بحكم استقلالي مركزي. وفي أواسط القرن الثامن عشر تشكلت الدولة السعودية الأولى، أما سائر دول الخليج فتدرج عادة ضمن ما يعرف في عالم النظم السياسية بالأنظمة التقليدية العرفية، التي تشكلت نتيجة توافقات محلية ابتدأ تشكلها في القرن الثامن عشر الميلادي. وعرفت الجزائر الدولة الرستمية  ابتداء، وكذا الحال بالنسبة لتونس وطرابلس الغرب، والمغرب، كلها دول تجسد فيها الحكم البيروقراطي قبل احتكاك الدول الاستعمارية بها بزمن طويل.

وكما لم تكن دمشق عاصمة إقليم جغرافي ضيق بقدر ما كانت عاصمة للإمبراطورية الأموية، فإن بغداد كانت عاصمة للإمبراطورية العباسية، وكانت الفكرة المهيمنة والمعتمدة في كلا التجربتين فكرة الخلافة كرمز ديني لحكم المسلمين في هذا الامتداد الجغرافي الواسع  لكلا الإمبراطوريتين، ثم آل هذا المنصب السياسي إلى واقع رمزي في ظل الخلافة العثمانية التي لم تكن عربية بالأصل، وأخذت الدول العربية سالفة الذكر، أو الذي خضع للنفوذ العثماني، بالانسحاب التدريجي عن التبعية لهذه الخلافة، ليقتصر نفوذ الإمبراطورية العثمانية فترة قرنيها الأخيرين على دول المشرق العربي، الهلال الخصيب، وبقي الجانبان لصيقين ببعضهما حتى آخر لحظات انهيار الدولة العثمانية نتيجة حركة تاريخية تعرف بـ “الثورة العربية الكبرى” التي قادها شريف مكة، الحسين بن علي، وهي بالإجمال حركة يغاير مسارها كافة الثورات والحركات التحررية في التاريخ المعاصر، باعتبار أن الحافز الرئيسي لها لم يكن رغبة في الاستقلال عن الأتراك نتيجة وعي قومي شعبي، وليس نتيجة لتطور حركة سياسية للبرجوازية ناشئة باحثة عن استقلال شعوبها، وإنما كان دافعها الجوهري ومحفزها  انخراط نخبوي في لعبة أممية لاقتسام التركة العثمانية، وبتمويل بريطاني بالكامل. وهو انخراط مؤلف من حلفين، الأول يمثله الشريف حسين وأنصاره من الملاكين والإقطاعيين ووجهاء العشائر، وحلف ثان مؤلف من أعيان المجتمعات: السورية اللبنانية الفلسطينية العراقية الأردنية، وأثمر هذا التحالف عن انتقال الوصاية السياسية والهيمنة العسكرية والاقتصادية على هذه الدول إلى القوتين الاستعماريتين الأقوى مطلع القرن العشرين: بريطانيا وفرنسا، اللتان أشرفتا لوحدهما ومن دون حتى الرجوع أو التشاور مع سكان الإقليم الأصليين، في تقسيمه وإنشاء كيانات سياسية جديدة وللمرة الأولى في المنطقة. وعليه تغدو مقولة إن دول المشرق العربي هي صنيعة الغرب الاستعماري مقولة صحيحة من الناحية التاريخية.

واستدراكا لهذه النقطة ولمزيد من الشرح والتوضيح، فإن مسألة وجود دول عربية أو إقليم بالكامل باعتبارها مناطق مصنّعة نتيجة خطط استعمارية، فإن البعض لا يعتبرها خطيئة سياسية، باعتبار أن دول المشرق العربي ليست الوحيدة على المستوى العالمي التي جرى تصنيعها وفقا لمخططات الغرب، فهناك دول مثل تايوان وسنغافورة اللتان كانتا بالأصل امتدادا للإمبراطورية الصينية، هناك  باكستان التي كانت امتدادا للهند، وكذلك إسرائيل التي هي بالأساس كيان مصطنع  تمت زراعته وسط إقليم يجري تصنيعه وإعداده لتضاف إليه وعلى القائمة دولة اصطناعية جديدة. وهناك بعض الدول الغربية ينطبق عليها ذات التصنيف، وخصوصا الجمهوريات التي تشكلت نتيجة تقسيم يوغوسلافيا: صربيا، البوسنة والهرسك، سلوفينيا… وبالعموم فان وجهة النظر هذه صحيحة، أحيانا يغدو اصطناع كيان أو عدة كيانات ضرورة سياسية تلبية لحاجات ومطالب سياسية جوهرية، إلا أن  المسألة تبقى مرتهنة بواقع هذه الدول في مراحل ما بعد التصنيع، وفيما إذا كان هذا التصنيع استجاب أو يستجيب لعناصر النمو والاستقرار كما هو واقع حال جزء غير قليل من هذه الدول، أم أن التجربة تبقى رهينة ظروفها التاريخية التي نشأت من خلالها بحيث يغدو المطلوب عدم تجاوز هذه المرحلة وظروفها المحيطة لأي سبب من الأسباب، وتحديدا إبقاء حالة التوتر والنزاع قائمة ومستمرة، وأن تبقى مناخات العداء والتشاحن حاضرة أبدا كالحال التي عليها منطقة البحث، منطقة عدم استقرار بامتياز.

وإذا كانت “الإمبريالية” العالمية هي التي قسمت المنطقة ورسمت الحدود وزرعت بؤر الاختلاف والنزاع، غير أن واقع التجربة يشير إلى أن ترسيخ هذا الواقع لم يعد بأيدي هذه القوى العالمية بعد رحيلها عن المنطقة، حيث أوكلت هذه المهمة إلى البرجوازيات الحاكمة والنافذة التي مارست، ولا تزال تمارس، دور الوكيل أو النائب عن القوى الاستعمارية ورعاية مصالحها في المنطقة وتحقيق أهدافها، إن التصحيح المفهومي يقتضي الإقرار بفكرة أن هذه الطبقة ليست غير قادرة على إجراء إصلاحات حقيقية والالتفات إلى شعوبها والنهوض بها بسبب ضغوط تتعرض لها، وإنما هي غير راغبة أصلا في صياغة أي برنامج سياسي أو إصلاحي حقيقي، إذ ليس بالإمكان التوفيق بين متطلبات القوى العالمية وبين طموحات الناس العاديين وأحلامهم، الهدفان متعارضان منذ البداية، وعليه وفي ظل غيبة وعي المجتمعات، تنحاز النخب والبرجوازيات النافذة لصالح الجانب الأقوى والأكثر فاعلية.

ومن مبررات حالة عدم الاستقرار في الإقليم التي خلفتها وراءها حالة التصنيع الدولي هذه، ولأن هذه العملية لم يداخلها حالة من التطوير والنضج بين فترة وأخرى، فإن عقلية الامتلاك  استحوذت تاريخيا على السياسيين وأصحاب القرار في المنطقة، وذلك من خلال النظر وبصورة مستمرة إلى الأجزاء المجاورة بنية التوسع، فما من سلطة مشرقية إلا ولها في لحظة تاريخية ما مغامرة توسعية على حساب الجوار، هذا الإحساس لم يكن ليتشكل لو أن وعيا حقيقيا بتشكل الدولة قد أنجز واكتمل، وأن سيادة كل جزء باتت أمرا مفروغا منه، لتغدو العلامة الفارقة للعلاقات القطرية في الإقليم طيلة القرن الماضي علاقة تنافر مع روح القومية العربية التي انطلقت أصلا من هذا الحيز، هذه الروح التي غدت نظريا إحدى السمات الأبرز لهذا الإقليم وإحدى مزاياه التي تفرد بها إلى درجة بعيدة.

الفكرة القومية العربية، بغض النظر عن تفسيراتها وأصولها النظرية، هي إنتاج مشرقي بالكامل، وشامي تحديدا، والنقطة الجوهرية في هذه الفكرة، أو الأيديولوجية، الدعوة إلى وحدة الأمة العربية للاعتبارات اللغوية والدينية، فهي أمة تنطق بلغة واحدة، وتدين في غالبها بدين واحد، وهذه عناصر، وفقا للمنظرين المؤسسين للفكرة، كفيلة وكافية لوحدة الأمة، بغض النظر عن المدى الجغرافي الذي يتسع لهذه الوحدة، الفضاء العربي كاملا، من المحيط إلى الخليج، أو وحدة آسيوية من شرق السويس إلى الخليج العربي، أو وحدة أقطار الهلال الخصيب.

وليس الاختلاف في تحديد البعد المكاني لمعنى الوحدة وتفسيراتها وكذا مجالها الجغرافي هو المهم، بل إن المهم والأكثر إلحاحا في المراجعة والنقد الفكرة ذاتها، فالعناصر التي طرحها المفكرون القوميون حتى نهاية القرن العشرين تقريبا لم تكن بالأساس كافية لانجاز مشروع بهذه الضخامة، فليست العناصر الأساسية التي جرى التركيز عليها والإفاضة بشرحها كفيلة لوحدها لتحقيق الحلم، فلا اللغة المشتركة ولا الدين الواحد عنصران كفيلان لوحدهما لإتمام وحدة بين الشعوب، فهناك كثير من الشعوب يتوفر فيها هذان العنصران، ولم تسع لانجاز وحدة، والذي أنجزها لم تكن هذه العناصر هي الباعث لانجاز الفكرة، وإنما كانت نقطة الانبعاث الأهم هي العامل السياسي، بمعنى تكوين الدولة وفق معطيات متوافقة مع هوية هذه الشعوب، والمفارقة الغريبة أن هذا البعد الأهم أغفله دعاة القومية الأوائل، ابتداء من الأب الروحي للقومية العربية بلا منازع، ساطع الحصري، مرورا بالمنظرين اللاحقين: زكي الأرسوزي، نجيب العازوري، ميشيل عفلق، قسطنين زريق، نديم البيطار، جورج حبش، أنطون سعادة، ياسين الحافظ… ومع كامل التقدير للجهد الفكري الذي بذله هؤلاء والذي أثمر مجلدات كثيرة، فإن شروحاتهم وتعليقاتهم اعتبرت مسألة الدولة تحصيل حاصل، وأن الذي ينبغي تناوله والتركيز عليه خصائص وسمات العرب التي تؤهلهم لبناء أمة، علما أن هذه الخصائص والعناصر التي أفاضوا في شرحها والتعليق يمكن إدراجها من الناحية العملية تحت عنوان تحصيل الحاصل وليس العكس، بهذا المنطق المقلوب استغرقت الأيديولوجية القومية لعقود طويلة في غمار مناقشات وتباين في التفسير نجم عنه الكثير من حالات الانقسام والنزاع الثقافي الشرس، وأحيانا غير قليلة كانت التصفية والإلغاء شكلا من أشكال حسم الخلاف، تكفي الإشارة هنا إلى أن مؤسس حزب البعث، ميشيل عفلق قد صدر بحقه حكم بالإعدام في موطنه الدولة البعثية الأولى سوريا، ليلجأ إلى الدولة البعثية المنافسة، العراق.

هناك شبه توافق فكري على المستوى العالمي يقضي بأن فكرة الأمة ظاهرة سياسية بالدرجة الأولى، وهذا التوافق جاء نتيجة تجارب تاريخية في البعد الأممي، فالشعب الألماني وكذا الشعب الأمريكي والفرنسي وكثير من شعوب الأرض، لم تكتمل فيهم صفة الأممية إلا بعد تشكل الدولة والكيان السياسي الناظم للعلاقات الاجتماعية بعدالة وتوازن، وتحقيق التكامل والتضامن. هذه النظرة الواسعة القادرة على استيعاب كافة المكونات الاجتماعية داخل الأمة. ومن المفارقات العجيبة أن أقاليم عربية لم تعن بالمرة في البعد الأيديولوجي، وجرى التركيز فيما بينها على معاني الوحدة المباشرة المرتبطة بالنفع العام والمصلحة الشاملة، قد حققت أشكالا من الوحدة عجزت خصوبة التنظير والأيديولوجية عن تحقيق ولو جزء بسيط منه، وللحديث حول أوجه الأزمات في الإقليم تتمة بمعالجة أخرى.

الرابع والثمانون سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني