مجالس مولانا جلال الدين الرومي

كتب بواسطة خالد محمد عبده

 

(1)

 

بَدا وصلُك عزيزًا، واحسرتاهُ، إن العمرَ لا يفي؛ لا بدّ من دنيا مليئة بالذّهبِ لكيْ أنثُرَ على وصلك، عندنا الله الحيُّ، إلى متى نجعل الله ميّتًا؟! المعنى هو الله، هو عينُ المعنى.. وعهدُ الله لا يفسد!

[شمس تبريزي ناطقًا]

 

في مجالس مولانا جلال الدين الرومي تكثر المعاني الجميلة والمعارف الإلهية النافعة للإنسان، لا تمرّ فقرة من فقرات كتبه دون أن يعطينا درسًا من تأملاته في الدين والحياة بغية أن يتحقق الإنسان، لا تكفي قراءة كلماته مرّة أو مرتين؛ بل يحتاج من أحب هذا العالم أن يستحضر دروسه في كافة نشاطاته اليومية كي يختبر ما ذاق منها، هل يعيشها؟ هل تمثّل عالمه؟ أم أن زخرف القول الجميل يجذبه لحظة ثم يغيب في متاهات الحياة.

كل ما كتبه مولانا يمكن أن نطلق عليه وصف (المجالس)؛ فهو يكتبه مدفوعًا بمحبة الإنسان ممثلًا في مريديه الذين كانوا يجتمعون في حضرته، ويسألونه دومًا عن كلّ ما عَنّ لهم من أمور أو ما أقلقهم من مشكلات، يستوي الجميع في حضرته؛ أهل السلطة والصنّاع والحرفيون، فالكلُّ يدقّ بابَه ليلج إلى عالمه، ولا يدق هو باب أحد إلا محبوبه، ولا يخجل من البكاء والحزن على فقده للحظة من لحظات الوصال، ويحوّل حزنَه إلى تسبيح دائم، ونشيدٍ إذا قرأه الغريبُ أطربه، وإذا لمسه القريبُ اهتزّ وغابَ عن كل السؤالات مكتفيًا بنظر الشيخِ الجميل إليه.

فالمجالس صنف منها مع المريدين، وصنف مع القريب، وصنف مع نفسه التي يراها في مرآة محبوبه الذي يستمد منه كلّ جميل.

لذا رأيت أن أتدبر في بعض مجالسه وأقتطف من ثمارها بعض القطوف التي تفيدني وربما أفادت غيري، ورأى فيها ما يناسبه وينتفع به، ولنشرع في ذلك بإذنه تعالى.

(أ)

نقرأ في مجلس من المجالس أن أحد أرباب السلطة قصد باب مولانا، مذكّرًا إياه بوالده (بهاء الدين) الذي لقّبه محبّوه بـ(سلطان العلماء)، كان الأمير يعرف والد مولانا جيّدًا، وما نعرفه نحن من كتب التواريخ عن والده أنه إثر نزاع بينه وبين حاكم مدينته بلخ غادر منطقة بلخ وهاجر طالبًا الحياة له ولذريته كما يراها صوابًا حسب نهجه الصوفي، ولولا هذه الهجرة ما أصبحت قونيه كما هو شأنها اليوم (فقونيه دون مولانا لا تعني شيئًا)! كما يحفظ ويردد أبناء هذه البقعة المنيرة.

طلب الأمير أن يدخل إلى ساحة والد مولانا، فتعلل بهاء الدين وسلطان العلماء قائلا: أرى ألا يأتي الأمير لزيارتنا ويزعج نفسه، فإني معرّضٌ لحالات كثيرة: في حالة أتكلم، وفي حالة أخرى لا أتكلم، في حالة أسهر على شؤون الخلق وفي حالة ألوذ بالعزلة والخلوة، وفي حالة ثالثة أكون مستغرقًا وغائبًا. أنا لا أرغب في أن يأتي الأمير في حالة لا أستطيع أن أكون فيها لطيفًا معه وليس لديّ الفراغ لأن أعظه وأتجاذب أطراف الحديث معه، ولذلك فمن الأحسن لي عندما يكون لديّ فراغٌ أستطيع فيه أن أهتم بالأحبة وأقدّم لهم الفائدة، أن أذهب وأزور الأحبة!

لم يفعل سلطان العلماء ذلك، والمتتبع لتاريخه يعرف أنه لم يكن يومًا يحب أن يزور الحكّام أو يلجأ إليهم ويطلب حاجة لنفسه من هؤلاء، ولعل مولانا جلال الدين الرومي تعلّم هذا الدرس منه، فما طرق باب أمير أو حاكم، وتخبرنا الرسائل المنسوبة إليه بمصداق ذلك، فأغلب رسائله للحكام كانت من أجل منافع العباد والتفريج عنهم.

الأمر مختلف تمامًا مع أعلام الصوفية المعاصرين، فالكل ينتقد أفعالهم لسعي بعضهم للتقرّب من الحكّام، وإسراف بعضهم في هذا الفعل، وتبريره للحاكم كل فعل يفعله وإن كان مضرًّا بالعباد، وحينما يُواجَه المشايخ بهذا من المقربين لا المبغضين؛ يصرخون في وجه التلاميذ المتشككين؛ لأنهم لا يفهمون الحكمة من تصرف الشيخ، وهو أعلم منهم بما يصلح الناس والمجتمع. الحديث عن الواقع له طعمٌ مرٌّ شديد ومرهق، ومزعج للروح والإنسان، والغيابُ عنه أكثر ضررًا!

حينما ذكّر الأميرُ جلالَ الدين الرومي بما كان يفعله والده معه، وجّهه مولانا جلال الدين الرومي إلى علّة ذلك، فينبغي على الأمير إن كان من أهل الحقّ أن يتعلّم من درس الانتظار ألا يجعل أحدًا ينتظر أمام بابه إلا ولبّى له رغبته؛ فالرعية كثيرًا ما يطرقون باب الأمراء ولا يجدون إجابة منهم! كما أن هناك فائدة أخرى يمكن أن نفهم منها تأخر عطاء الله رغم إلحاحنا في الطلب! فكما يحلو صوت الناي وأنينه للمفتقد؛ يحلو أنين العبد ودعاؤه لله، ويضرب الرومي مثالاً على ذلك لتقريب فكرته للمريدين، مفاده أن من لا نحبّه نلبّي طلبه سريعًا حتى لا يزعجنا، أما المحبوب فنرجو أن يظل معنا وفي جوارنا أبدا، والحق تعالى يحبّ سماع أحبابه ولا يحبّ أن ينصرفوا عنه سريعًا بعد قضاء حوائجهم.

أما عن زيارة الأمير لمولانا فيعلّق عليها بما مفاده أن الاحتجاب لا يزعج الراغب، فمع كلّ صبرٍ وانتظار أجرٌ وتحقق، وليس مع كل ظهور أجرٌ مثله.

(ب)

هل تحبُّ فلانًا حقًّا؟ هل تعرفه حقًّا؟ لماذا إذن بسبب فعلٍ قبيح واحدٍ يُحجب هذا الشخص عن نظرك وتنساه، ويتحول فجأة من يوسف الجميل الذي يتغزل في محاسنه قلبُك إلى ذئبٍ تهرب منه؟! هو هو الشخص؛ لكنّ – فعلاً – عارضًا جعلك تنسى كلّ محاسنه، ثم بعد ذلك تسرد الحكاية عنه: كان محبوبي .. كان وكان .. أنا أعرفه جيدًا؟!

يجيب مولانا على هذا السؤال أنه لم يكن هناك ارتباط حقيقي بين هذين الشخصين، ولم يعرفا بعضهما بعضا، ولم يرَ أحدهما الآخر رؤية محققة، فمن رأى أحدًا وعرفه حقًّا وأحبّه؛ تجاوز عن الأوصاف السيئة والجيدة في آن واحدٍ، فكل الأوصاف مستعارة لدى كل شخص، والإنسان الحق من يغوص في جوهر من أحبه ليرى أي ذات وأي جوهر لديه. فتلك هي المعرفة والرؤية على الحقيقة.

إذا أردت أن تعرف إنسانًا فدعه يتكلّم، اصمت في حضرته، واستسلم له، واصبر، لعل كلمة تقفز من فمه لأجلك فتحييك وتصبح صورته وأحواله كلها في داخلك لا تحتاج منه بعدها أن يذكر علة أو سببًا لفعله أو لصمته.

(ج)

تابعت السيدة خديجة حياة حضرة النبي وسيرته كأم وزوجة ومؤمنة وحاضنة وواعية لما يدور في قلب النبي الأكرم، تقف معه كاتمة للسر، ومدركة للرسالة، وفي لحظة الجهر بالدعوة تكون بجواره سندًا وعونًا، تراه قلقًا فتسكّن قلقه، حزينًا فتجلسه في رحابها الواسع، وحيدًا فتغنيه سكنًا ومودة ورحمة. لجأ النبي إليها حينما أتاه الوحي ليتأكد من الصورة التي ظهرت له، ولم يعد بعدها كما كان الشخص الأول، أدرك أن للحق تصرفًا معه، فأخبر بعدها قائلا: “يقول الله”، كان لسانه الذي يتكلّم، فالحقّ منزّه عن الصورة والحرف، لكنه يجري كلامه بأي حرفٍ أو صوت، آمن مولانا جلال الدين الرومي أن الكل من الله، وضرب لنا مثلاً بما نراه في الطرقات والخانات، إذ ينحت المثّالون كما نرى على حواف الأحواض رجالاً أو طيورًا من الحجر، يندفع الماء من أفواهها ويصبّ في الحوض، كل العقلاء يعرفون أن ذلك الماء لا يأتي من فم طائر الحجر؛ بل يأتي من مكان آخر.

أخبر النبي عن سير السابقين، وتحدث عن العرش والكرسي والسماوات والملائكة، ومن المثال يغدو معلومًا أنه ليس هو الذي يقول، بل الحقّ هو الذي قال. وما ينطق عن الهوى إن هو إلاّ وحيٌ يوحى.

 

فائدة

– كل مجلس من مجالس مولانا يسير على هذا النحو، تتداخل قصصه وتصب في قالب واحد، الكل يرتد إلى أصله الإلهي، من مفردات الحياة العامة والطبيعة تنسج الأقوال، ويتم الالتفات إلى مواطن الجمال فيها وما ينفع الإنسان، لو راقبنا حديثه عن القرآن وكلام النبي، لن نجد انشغالاً بكون القرآن مخلوقًا أو قديمًا، فتلك مسألة رغم قرب عصر مولانا من التدوين فيها لم ينشغل بها لأنها من الزائفات ولا تخدم الإنسان، واستدعاؤها كاستدعاء غيرها من مشكلات التاريخ الماضي الذي ما نزال في صراع وتقاتل من أجله، يبعد بنا عن غاية وجودنا ويحول دون إدراكنا للب المعاني المقصودة في الوحي وسير السابقين.

– صوتك هو الذي ينطق بكلامي كلّه، لا حاجة للمريد الصادق أن ينطق في حضرة من أذعن إليه ووثق فيه، فمن أحب ليس بحاجة إلى لغة متراصّة كي يُخبر عما في قلبه، استسلامه كإسلام الأولياء؛ وجوههم لربهم، تصبح مرآته صافية لا غبش فيها، فمثال الحبّ السالف الذكر في المقال يقرّب به مولانا العلاقة بين الشيخ والمريد، ولعله يخبر عن حاله مع شمس تبريزي الذي سكن كلاهما الآخر فأدرك ذاته وعرف ربّه، وأعاد كل حركة وسكون إليه، لعلك إن توقفت مع صورة القصة التي أوردها للحديث عن ذلك وظلّ عقلك منشغلاً بكيفية بلوغ الشخص لما في باطن غيرها من خواطر وخيالات؛ انحجب عنك المعنى الكامن خلف ظلالها، فلقد آمن مولانا أن الحكايات قشٌّ، والمعنى هو القمح المطلوب، ومن تمسك بالقمح طعم وعاش الحياة حقًّا.

الخامس والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد محمد عبده