“لقد عملنا بجد واجتهاد أيها السادة، لقد لفحت وجوهنا الشمس في الرمضاء، لقد اضطررنا إلى أن نتخلى عن كثير من مبادئنا وعاداتنا وأخلاقنا، لقد تصببنا عرقا في الصيف كما تصببنا عرقا في الشتاء، لقد بلينا كما لم يبل أحد من قبل، لقد ذقنا كؤوسا من الذل كما لا يخطر على بال أحد من منكم، لقد تجرعنا الهوان أيها السادة الكرام، نعم لقد تجرعنا الهوان، نحن العاملينَ في القطاع الخاص، ليس من أجل أحد تحملنا كل ذلك كلا ليس من أجل أحد، ليس من أجلكم أنتم، ليس من أجل الحكومة ولا من أجل مستقبلنا ولا حتى من أجل الوطن، فنحن لم نعد نشعر به فقد أصبح مباحا للأجانب حارما علينا، من أجل أن نعيش فقط ومن أجل أن ننجو من الجوع والفاقة ومسألة الناس تحملنا كل شيء، يا إلهي كم يا ترى يعاني الباحثون عن عمل، وكم مرة يحلمون بوظيفة ساترة تحفظ ماء الوجه، وكم مرة يصدمون بالرفض وبالواقع المرير، وكم مرة يخرجون صاغرين مطرقين رؤوسهم من دوائر العمل ومقابلاتها، وكم ساعة يقفون تحت أشعة الشمس المحرقة طلبا أن يشفق عليهم الأجنبي ويفتح لهم باب التسجيل في إحدى الشركات المحلية، وكم مرة يطرقون أبواب الأصدقاء والمسؤولين أملا في واسطة أو رأفة أو نظرة عطف، تصوروا أيها السادة الكرام كيف أنهم غرباء أذلاء محبطون مكسورون في بلدهم وبين أهاليهم.. ، هل حصل لأحدكم أن قابل شابا باحثا عن عمل في عمر الرجال وهو يعيل أسرة تنتظر منه القليل فلا يجد؟ هل حصل لكم أن رأيتم وجه هذا الإنسان وهو يرجو منك مساعدة للحصول على وظيفة ملمحا إلى جزء من معاناته؟ هل نظرتم مباشرة إلى عين المسكين وهو يصارع كبرياءه ويداري حزنه واستحياءه عنك متشبثا بأمل ضعيف فيك، رحماك يا الله.
لقد كان آباؤهم يخبرونهم أن العلم والمعرفة والشهادات هي مفتاح النجاح في حياتهم المستقبلية، لقد أخبرني أبي رحمه الله بذلك أيضا وأنا بنفسي بعده صرت أخبر أخوتي بهذا الكلام، هل يمكن لكم أن تتخيلوا الآن كم كان أبي مخطئا وكم كنا مخطئين، إن بعض هؤلاء الأجانب المتنفذين المحركين لعجلة الاقتصاد في الدولة والمتحكمين بالتوظيف في الشركات الكبيرة والمتوسطة والذين لا تستطيع حتى الحكومة أن تزعزعهم من أماكنهم تصوروا أنهم لا يحملون أيا من هذه الشهادات التي يتفاخر بها الباحثون عن العمل والتي حصلوا عليها بناءً على تخطيط الحكومة وخططها الخمسية والعشرية”.
لقد كان ذلك كلاما لأحد الأصدقاء العاملين في القطاع الخاص وهو يخاطبنا به في إحدى سهراتنا وهو حانق ومنفعل جدا ومتحمس على غير عادته، وأنا أتناول فنجانا من القهوة معه محاولا أن أمثل دور المصغي المهتم بالموضوع وأكرر له قولي: (الخير جاي) طلبا في رفع معنوياته، والحق أن كلامه على الرغم ما فيه من مبالغة وظلم لأداء الحكومة وتجني على الأجانب إلا أن كلامه فعلا موجع ومؤلم، موجع بشدة بحيث أنه يفسد عليك شهيتك ويعكر صفو مزاجك، ولا شك أن مبعث إيجاعه لنا كل هذا الايجاع هو أننا لا ندرك حجم المعاناة التي يعانيها الباحثون عن عمل أو حتى العاملون في القطاع الخاص خاصة أولئك الذين يعملون في الوظائف الدنيا، إنهم ليسوا مجرد عمالة وطنية غير محترفة كما يحلو للبعض تسميتهم ، بل هم شباب وفتيات نعرفهم من أبناء حاراتنا وأقاربنا وأصدقائنا وهم إلى ذلك أذكياء من حملة الشهادات العامة والخاصة وحصلوا على كثير من الدورات الفنية والخبرات ويتحدثون أكثر من لغة إنهم يتحدثون اللغة الانجليزية والعربية وبعضهم يتحدث أيضا البلوشية او السواحلية أو الشحرية أو غيرها من اللغات، أي أنهم من ناحية المهارات والإمكانيات يتفوقون على الأجنبي ومن الناحية الاقتصادية يوفرون الكثير من المصاريف على صاحب العمل التي كان ينفقها على الأجنبي ويحافظ على أموال الدولة من الذهاب الى الخارج، لكنهم مع ذلك لا يحصلون على وظيفة وان حصلوا فإنها دون الأجنبي بمراحل عديدة وبراتب وامتيازات أقل.. ، فإذا كان ذلك كذلك فما الدافع الذي يجعل الأجنبي مفضلا على العماني؟؟!
هل صحيح أن العماني أقل اهتماما بعمله وأقل تحملا للمسؤولية؟ هل صحيح أن العماني أقل عطاء وأضعف إنتاجية من غيره؟ هل صحيح أن الأمان الوظيفي التي تكفله له الأنظمة والقوانين المحلية هي سبب تكاسله وتخاذله؟ هل صحيح أن صاحب العمل يفضل الأجنبي بدلا من المواطن لأن الأجنبي مطيع سهل القياد والانصياع لرغبات صاحب العمل بعكس المواطن؟ هل صحيح هو أن الشركات هي ملك للأجانب حقيقة وإدارة.. وإن كانت بأسماء مواطنين وبالتالي هم يفضلون منفعة أقربائهم وأبناء جلدتهم؟ كل ذلك هو مجرد احتمالات واردة، والحق أن التاجر دائما ما يختار الطريق الأسهل والأنفع لتجارته، فلا تذهبن بكم الظنون أن أحدا من التجار لدينا سيضحي بماله وأعماله من أجل عيون الباحثين عن العمل أو حتى من أجل إسعاد الأجانب وإلا لما أصبح تاجرا، لذلك يلاحظ أن الشركات الحكومية والشركات مضمونة الربح (مثل البنوك وشركات الاتصال والكهرباء) هي أكثر المؤسسات توظيفا للعمانيين، لأن حساب الربح والخسارة لديها غير مهم جدا أو هو شبه مضمون.
ولطالما كنت أتبنى رأي أن الأزمات مرتبطة بعضها ببعض ومبدؤها الأزمة الإدارية، فالأزمة الإدارية سببت أزمة اقتصادية والأزمة الاقتصادية سببت أزمة عمالية والأزمة العمالية سببت أزمة أمنية، لكني في الحقيقة لا أعرف كيف يمكنني أن أعالج هذه العقدة رغم وضوحها وسهولتها، فأنا على كل حال لدي وظيفة لا بأس بها ومسؤولي أجنبي لكنه طيب ولدي أصدقاء جيدون ولا يهمنا كثيرا ما يجري خلف مكاتبنا، وهو حال الكثيرين في البلد، ولكن لا بد أن يكون في هذه الدولة من هو مسؤول عن وضع الحلول لمثل هذه الأزمات ومعالجتها ولا بد أنهم يحصلون مقابل تكليفهم وعملهم هذا على مكافآت ورواتب وثروات ضخمة وامتيازات قوية فأين هم الآن؟ لماذا لا يقومون بواجبهم؟ وأين هم قبل الآن؟ لماذا لا تتم محاسبتهم؟ أو لماذا لا يتركون مناصبهم للأجنبي أن كانوا يظنون أنه أكفأ وأجدى؟! ومما يؤسف له أن البعض يحاول حل هذه المعضلة بشكل معاكس فهو يتجاهل كل الأزمات الحقيقية ويركز على الأزمة الأمنية عبر مختلف الطرق التي أنتم تعلمونها كالتشكيك في أعداد الباحثين عن العمل وتخوين الهاشتاقات والنشطين في وسائل التواصل الاجتماعي والإعلان عن مناقصات وفرص عمل بأرقام كبيرة ومغرية تبعث الآمال في نفوس الناس ثم لا يتحقق منها شيء، لكن أصل الأزمة والمشكلة الحقيقية لم تعالج بعد ولن تعالج، وليس هناك أي مبادرة تلوح في الأفق سوى مشروع تنفيذ – إن كنتم تذكرونه- البرنامج الذي ظهر فجأة واختفى فجأة، وليس للمواطن المسكين الآن إلا الله ووسائل التواصل الاجتماعي يشكو فيها همه وغمه ويحلم بالخير الجاي ويشكر ربه على نعمة الأمن والأمان.