عُوّانةٌ.. وتَسَّاقطُ للغرباء

كتب بواسطة سعود الزدجالي

 

يعيشُ الشاب العماني الباحثُ عن العمل “حالة من الاغتراب” وفقدان معنى الحياة، وهذه الحالة تزداد حدة كلما فقد الأمل في إيجاد منفذ في الأسواق الرأسمالية التي لا تكترث بمعنى الإنسانية بقدر ما تكترث بجمع الثروات الخاصة؛ لأنها ليست سوقا حرة تضم استثمارات بقدر ما هي شركات عائلية لا تهتم حتى بانتمائها الوطني، وفي الجانب الآخر يخرج الآسوي من وطنه إلى السلطنة وهو يحمل ضمانات الوظيفة؛ حتى يتحول إلى جزء من أعشاش الدبابير وأسرابها التي تغتذي على سوء التخطيط والانتهازية؛ ليمسك بزمام الاقتصاد بكل إمكاناته المحدودة المضخّمة ومهاراته الوهمية؛ في ظل هذه الظروف يعيش الشاب العماني لحظة انسحاب الزمن من روحه وقلبه؛ ليدفع ثمن التخطيط وسوء الإدارة وجشع البحث عن العمالة الرخيصة التي تضمن كميات من الثروات دون اكتراث بالالتزامات الإنسانية أو الوطنية؛ فمن الذي صنع هذا الواقع الذي يتنفسه الإنسانُ العماني كلَّ لحظة من لحظات حياته؟

تعدُّ مشكلة “الباحثين عن العمل” أكبر مشكلة وطنية يواجهها المجتمع العماني منذ ثلاثة عقود على الأقل، وهي في تفاقم مستمر؛ وليس هذا الزعمُ فارغا من البرهان؛ فقد أشارت الدراسة الصادرة من المركز الوطني للإحصاء والمعلومات (2015) إلى أن الاتجاه العام لنمو الفئة العمرية (15- 29 سنة) آخذٌ في الارتفاع؛ مما يعني ضرورة الاهتمام بجوانب مهمة، مثل توفير الخدمات المناسبة كالتعليم والصحة والبنية الأساسية، والاهتمام بالدراسات الخاصة بتقدير احتياجات الشباب؛ حتى لا تقع الدولة عُرضة للمفاجأة في المستقبل، والاستعداد لقضايا توقعات زيادة الطلب على الوظائف، والاهتمام بقضية التعمين للتعرف على أسباب الطلب على الأيدي العاملة الأجنبية[1]؛ يعني ذلك أن الدولة إمّا أن تستعد الاستعداد الكافي لمواجهة خطر الطلب على الوظائف عبر تطوير البنى الأساسية، والأسواق، والإجراءات، وأرضيات التشريعات، وإمّا أن تقع عرضة تضييع “الهبة الديموغرافية” أو هدر رأس المال البشري، إن الفئة العمرية (15- 64 سنة) التي يطلق عليها الديموغرافيون المصطلح السابق (الهبة الديموغرافية)، تستمر فترة محدودة أو جيلا من السكان، فإن لم تستغلّ استغلالا صحيحا تتحول إلى عبء اقتصادي على كاهل الحكومات[2].

في هذا المقال نهدف إلى وضع التساؤلات التي تحاول الاقتراب من المشكلة بشيء من الصراحة والشفافية، التي يعتقد الكاتب أنها واقعية إزاء مشكلة الباحثين عن العمل في السلطنة؛ فما العوامل المختلفة التي أدّت إلى تفاقم مشكلة التشغيل في السلطنة وازدياد أعداد العمالة الأجنبية ازديادا خطيرا وكارثيا؟ وللإجابة عن السؤال يرى أن الكاتبُ أن المشكلة قد بدأت في الظهور والانتشار لعوامل متعددة ولعل أهمها:

أولا: الانفصال التام، أو القطيعة التاريخية بين “التعليم والتدريب” و”أسواق العمل”، وحتى لا يكون ذلك محض ادعاء؛ فلنعُد بعقولنا وأرواحنا إلى إستراتيجية (عمان 2020)؛ لنلاحظ أن أهم المحاور التي اعتمدتها التنمية “توفير وتشجيع التعليم الفني والتدريب المهني لتغطية احتياجات سوق العمل، مع تبني الأنظمة المتطورة، وتوفير التعليم الجامعي والدراسات العليا وفق احتياجات سوق العمل، وإيجاد فرص عمل للعمانيين الراغبين في العمل مع ضرورة تدريبهم وتأهيلهم بما يتناسب مع احتياجات سوق العمل” وذلك يعني أن الحكومة مدركةٌ لطبيعة هذه المشكلة، ولكنه إدراك من طبيعة ورقية لا تدخل حيز التنفيذ والمتابعة والمحاسبة والدراسة؛ لا سيما وأن المحاور الأساسية للإستراتيجية تنصبُّ على التنمية الإنسانية، والاقتصاد، وتنويع المصادر.

ولك أن تلاحظ عدد العبارات والخطط التي تتضمن “احتياجات سوق العمل” ودون جدوى، ولمزيد من البرهان فقد نصّت الإستراتيجية في التحديات على “ضعف التعليم الأساسي”[3] مما يجعل الإنسان العماني أقلَّ قدرة على مواكبة التطور العلمي والتقني، وقد كانت الحكومة مدركة يومذاك لتحدّ كبير يتمثل في “كيفية توفير فرص العمل المناسبة لما يقارب مليون عماني من المتوقع دخولهم سوق العمل خلال ربع القرن القادم”، وهذه التحديات ليست محلية أو غائبة إذ نلاحظ ظهورها في تقارير المعرفة العربية (الشباب وتوطين المعرفة)[4]، بيد أن التعليم والتدريب اتخذا مسارين مختلفين في السلطنة عن مسارات الأسواق، وقد تم استغلال هذا الضعف في إيجاد ثغرات تُهدَرُ من خلالها الأموالُ العامة دون جدوى؛ بعبارة أخرى: قد تحول كلٌّ من التعليم والتدريب إلى عبء في ميزانية الدولة؛ من حيث إن التعليم أو التدريب يفترض منهما حلّ مشكلة ضعف العمالة الوطنية، ولكنهما أسهما بشيء الآراء المغرضة في ترسيخ القيم السلبية عن المواطن العماني إلى درجة يثير التناقض والتساؤل؛ ففي الإستراتيجية: “انخفاض مستوى الإنتاجية للموارد البشرية الوطنية، ونظرتها المتعالية على بعض المهن والحرف وتدني مشاركتها في الاقتصاد الوطني” و”تدني مقدرة العمالة الوطنية على مواكبة التطورات المتسارعة في المجال التقني”.

وحين تسمع بالإنتاجية والتطورات المتسارعة تظنُّ أن القطاع الخاص سينتج الطائرات، وأعظم أجهزة الحواسيب والروبوتات لذلك يترك “العقول الوطنية”  غير المنتجة حسب زعمه، ويتجه إلى “العامل الآسيوي العبقري” الذي إلى هذه اللحظة لا يحسن استخدام البطاقة البنكية ويسهم بسبب قيادته في ارتفاع الاختناق المروري؛ ولكي نحسن قراءة الواقع فإن علينا استيعاب مصطلح “تضارب المصالح”.

                إن المخطط العماني، والمسؤول صانع القرار هو نفسه صاحب مجموعة من البنوك والشركات والمصانع التي تعتمد على الإنفاق الحكومي ومصروفاته؛ وعليه فقد أسهم إسهاما لا يخلو من عبثية في ترويج هذه الأوهام والقيم السلبية عن المواطن العماني؛ فالمسؤول العماني ناجحٌ، أما الموظف والعامل العماني لا يصل في إتقانه إلى درجة العامل الآسيوي الوافد؛ فلماذا لم يتنازل المسؤول العماني عن منصبه للعبقري الآسيوي الوافد؟ أليست عجينته من ذات عجينة الإنسان العماني وثقافته؟  لذلك تم استغلال “الفصل” بين التعليم والتدريب وأسواق العمل لصالح النافذين أنفسهم وأصحاب القرارات فقد استغلت هذه الفئة قضية الباحثين عن العمل وترويج القيم السلبية عنهم لضخ الأموال الطائلة في ما سمّي بعقود التدريب الهزيل الذي كان خارج بيئات العمل وخارج مسار التعمين الواقعي؛ إذ لو كانت النوايا صادقة لأصبح التدريب جزءا من العمل والتوظيف، وليس أمرا بعيدا عنه؛ إذ يُرمى الإنسانُ العماني في برامج التدريب ويُستقدم الآسوي فورا ليشغل ويتدرب داخل المؤسسات، وبعد حين سيكون الآسيوي هو المسؤول التنفيذي عن توظيف العمالة الوطنية.

كان يفترض من الحكومة أن تجعل التدريب جزءا من واجبات المؤسسات الوطنية ومعيارا لقياس مشاركتها في تطوير القطاع الخاص والاقتصاد الوطني، ولكن الحكومة لم تستحضر مشكلة التضارب المصلحي الذي يكمن في العبارة (إذا أردت تنشيف المستنقعات فلا تستشر الضفادع)؛ فأنتجت هذه العملية برمتها مشكلتين: زيادة أعداد الباحثين واستمرار مشكلتهم، وارتفاع أعداد العمالة الوافدة وتمكنهم من الاقتصاد الوطني والتحكم فيه لا سيما في المصارف والائتمان وبيع التجزئة والجملة والأدوية والمقاولات والخدمات.

ثانيا: رسّخت الإستراتيجية الوطنية (عمان 2020) والخطط، والتقارير المختلفة بشأن التشغيل والتعمين ثنائية غريبة تتمثلُ في (العمالة الوطنية/ العمالة الوافدة)، وأوقعت نفسها في تناقض عجيب، ونشرٍ للقيم السلبية التي أشرنا إليها، مما جعل قضية ازدياد الوافدين في الدولة خارج الرقابة المجتمعية أو عمليات الحوكمة، والرقابة، ويكمن التناقض في أن الشاب العماني لا يريد العمل، ويترفعُ عنه، وأن الآسيوي أو الوافد يرغب فيه، وهذه الثنائية كانت تتعمد التجاهلَ التام للقيم الاجتماعية والأعراف، وطبيعة المسار الاقتصادي والإنساني؛ ولكم أن ترجعوا بذاكرتكم إلى الخلف لتلاحظوا أن الحكومة قد بدأت بتعمين الوظائف العمّالية البسيطة كسائق صهاريج الماء، وعمدت إلى إقفال البقالات الصغيرة أمام الوافد؛ ليتجه الأخير إلى بناء الأسواق الضخمة؛ لأن الآسيوي يشتغل وفق نظام الائتمان المالي وتوفير اللوبي للسلع والبضائع لبني جنسه؛ بينما تتهالك المشاريع الضئيلة التي يديرها الإنسان العماني أمام البيروقراطية الحكومية وضعف الرقابة ودعم الآسيويين لأنفسهم، وفي الجانب الآخر صعد الآسيوي إلى منطقة اتخاذ القرار الوظيفي في مؤسسات القطاع الخاص؛ ليشارك مشاركة فاعلة في عمليات “التعمين السلبي”، بل في تحديد أجور بسيطة كانت لا تسعف هذا الإنسان من العيش طويلا أمام جشع أصحاب المؤسسات للتعويض والاتجاه إلى العمالة الآسيوية الرخيصة؛ لذلك فنحن أمام معادلتين متناقضتين تناقضا شديدا؛ وهما كما وردتا في الإستراتيجية:

المعادلة الأولى: العمالة الوطنية ويرادفها: (ضعف الكفاءة الإنتاجية للعمالة الوطنية وتدني مشاركتها في الاقتصاد الوطني)، وكانت المعادلة تقتضي البحث عن بديل؛ يكمن في (العمالة الوافدة) لتعالج قضية (ضعف الإنتاجية)؛ بيد أن هذا التوقع جعلنا نذهل من الواقع المنصوص عليه، والواقع المعيش؛ فجاءت المعادلة الثانية البديلة.

المعادلة الثانية: العمالة الوافدة: وكان يفترض أن يرادفها (ارتفاع الكفاءة الإنتاجية) التي كانت ضعيفة في العمالة الوطنية، ولكننا نجد أن المرادف من طبيعة هي أشدُّ وطأة؛ إذ تنصُّ الإستراتيجية على أن أغلب العمالة الوافدة “يعمل في الأنشطة ذات القيمة المضافة المنخفضة ولا تعادل إنتاجيتهم تكلفتهم الاقتصادية الحقيقية”، وأنه لا بد من تقليل أعداهم بنحو (370) ألف وافد في القطاع الخاص آنذاك (1995)

ومن المعادلتين أو القضيتين، ودون حاجة إلى مزيد من التحليل؛ نستنتج درجةَ التناقض بين المخطط والواقع من جهة، وبين العمالة الوطنية الضعيفة التي هُمّشت بسبب الضعف، والاعتماد على العمالة الوافدة الضعيفة من جهة أخرى؛ فهي حالة تشبه حالة المريض من علة يأتي بدواء يزيد من علته بعلتين؛ وكانت النتيجة التخطيطية صادمة في الإستراتيجية من حيث إننا ندرك هذه العلة ولا نحاول معالجتها ونرضى بوجودها، فأدّى ذلك إلى دفع العمالة الوطنية إلى خارج الدائرة الاقتصادية والاعتماد على الوافد الآسيوي مع وجود العلة ذاتها. ولتتضح العملية بصورة مثلى وبإيجاز أمام المسؤولين الذي أسهموا في تكريس هذا الوضع؛ نضع أمامهم هذا السؤال: بما أنكم زعمتم أيها العباقرة أن العمالة الوطنية ضعيفة في إنتاجيتها؛ فأقصيتموها من أسواق العمل، واعتمدتم على البديل؛ فلماذا استمر الاقتصاد الوطني في ضعفه وظهرت مشكلاته في أول برميل نفط يهبط سعره؟

ثالثا: مشكلة التفاوت وإشكالية المصير بين القطاعين؛ هذا التفاوتُ لصالح المؤسسات الحكومية، وأحيانا بين الحكومية ذاتها؛ أدّى إلى ظهور مشكلة في العالم العربي كله وليس السلطنة فحسب، وقد رصدتها التقارير الدولية، وهي “تضخّم القطاع الحكومي وتوسعه في استقطاب الشاب من طالبي العمل، وبما أن الاستقطاب يتم على أساس الشهادة وحدها لا على أساس الكفاءة، فقد ساهم ذلك في افتقاد الشباب الحافز لاكتساب المهارات والمعارف الجديدة المؤهلة لاقتصاد المعرفة”[5]، ولعلنا ندرك أن فتح أبواب المؤسسات الحكومية أمام الباحثين للعمل لا يحل المشكلة بقدر ما يدّخرها ويركمُها، وعلى الرغم من أن السلطنة قد أدركت مشكلة التفاوت بوصفه عاملا قويا في إضعاف الاقتصاد الوطني ونشر القيم السلبية حول العمل؛ فقد نصّت الإستراتيجية في التحديات على “وجود تفاوت في مزايا العمل بين القطاعين العام والخاص، والمتمثلة في ساعات العمل، والعطلات الرسمية، ومزايا التقاعد، مما يؤدي إلى عزوف العمانيين عن الانخراط في العمل لدى القطاع الخاص”، وعلى الرغم من أن العبارة غير دقيقة علميا؛ لأن العزوف كان آنذاك بسبب انحدار الأجور مع طلب الإنتاجية؛ إلا أنها مؤشرٌ على وجود مشكلة ظلت حبيسة الأوراق وكرست القضية؛ إذ نلاحظ أن الخطط التنموية قد رصدت ضعف الإنتاج والترهل في القطاع الحكومي مع ارتفاع المزايا المادية والمعنوية؛ وذلك أسهم في قطع الطريق أمام صناعة عمل تنافسية في الأسواق المحلية.

رابعا: اتخذت الحكومة تدابير مهمة لتقليل العمالة الوافدة، ولكنَّ هذه التدابير لم تدخل حيز التنفيذ؛ لأنها لم تكن تخدم أصحاب النفوذ والشركات، ولعل أبرزها إيجاد معادلة نابعة من سمات العمالة الوافدة ومستواها الحقيقي في المهارة، متمثلة في رفع تكاليف العمالة الوافدة بحيث إن الإجراء يدفع إلى دخول العمالة الوطنية حيز المنافسة مع إيجاد ضمانات لها في بيئات العمل المختلفة وقد نصّت الإستراتيجية في الفقرة (10)  على ضرورة ” رفع تكلفة العمالة الوافدة تدريجيا لتعادل تكلفتها الحقيقية التي يتحملها الاقتصاد الوطني من خلال فرض رسوم إضافية على استقدام هذه العمالة بهدف ترشيد استخدامها وزيادة الفرص المتاحة للعمالة الوطنية”[6]؛ ولكن تضارب المصلحة جعل التدابير غير موجودة في حيز الواقع، وليس من المنطق أن يبذل أصحاب رؤوس الأموال تكاليف كبيرة مع وجود عمالة رخيصة.

خامسا: استمرار ضعف الرقابة المالية والإدارية للدولة؛ بحيث إن سلطة المحاسبة لم تكن واضحة؛ وحتى بعد الانضمام إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد[7]؛ علما بأن الدولة أدركت في وقت مبكر خطورة “تزايد حجم العجز في الموازنة وانخفاض الاحتياطات المالية، وبلوغ الدين العام مستوى ينبغي عدم تجاوزه”[8]، مما حدا بها إلى اتخاذ تدابير مهمة في ترشيد الإنفاق الحكومي، ومن بينها “تعزيز دور جهاز الرقابة المالية لتمكينه من التعرف على مواطن الخلل، وكذلك المخالفات، وعرضها على الجهات المختصة لاتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب”[9]؛ ولعلّ أهم الجوانب التي همّشتها الرقابة الحكومية هو مسارات التعمين وتزايد العمالة الوافدة؛ ويمكن التوقف في هذا الإطار على جانبين:

الجانب الأول: غياب التفكير الاستراتيجي في مستوى التنفيذ والإدارة، وحضوره في مستوى التخطيط؛ وذلك لأسباب كثيرة؛ ولكي تتضح القضية فإن الاقتصاد العماني منذ وقت مبكر أسّست إستراتيجياته على نموذج اقتصادي كلي MACROECONOMIC MODEL وهذا يعني ربط الأهداف والغايات والموازنات والسياسات في الدولة بعنصر الإدارة والتنفيذ بين مختلف القطاعات؛ بحيث تؤدي إلى نمط “التآزر العضلي” ؛ بيد أن العنصر الإجرائي كان مفقودا؛ ولك أن تلاحظ أن مصير التخطيط في السلطنة قد وصل إلى تفكيك العناصر؛ فأصبح مع ضعف الإدارة الإستراتيجية كلُّ قطاع حيوي يضع إستراتيجية مفردة؛ أضف إلى ذلك؛ الضعف العلمي لبعض المسؤولين الذين تولوا بعض القطاعات المهمة.

أمّا الجانب الثاني فقد تمثّل في فقدان سلطة المحاسبة من منظومة الرقابة المالية والإدارية للدولة؛ إذ كان يفترض أن السلطة القضائية، وسلطات التحقيق والتتبع كانت عنصرا أصيلا في المنظومة؛ مما أعطى انطباعا واضحا أن الدولة لا تعالج ملفات الفساد؛ وذلك شكّل في توليد مشكلات متعددة أبرزها ظهور الأعداد والنسب المضخمة من الموظفين في القطاع الحكومي ودون إنتاج، وارتفاع أعداد الباحثين عن العمل، مع تضخم العمالة الوافدة وتأثيرها في الاقتصاد الوطني، كلّ ذلك في ظلّ صحافية تفتقر إلى أبجديات المهنية والتحرر.

سادسا: تضارب المصلحة، فوجود النافذين من المسؤولين في جانب العمل الحكومي؛ وامتلاك الشركات الخاصة وتضخيم الثروات كان له دوره في ضعف صناعة القرار الصحيح واتخاذه وتنفيذه؛ ولعل امتلاك هذه الفئة من المسؤولين علاوة على عنصر النفاذ للمعلومات والأسرار المختلفة أدّى إلى استخدامها لصالح ثرواتهم والدفع بالأنظمة الأوليغارشية إلى التطور، وأحيانا عرقلة مسارات الاستثمارات القادمة في القطاع الخاص، مما أنتج أنظمة وقوانين حدّت من تطوير القطاع الخاص ليكون سوقا تنافسية للعمالة الوطنية؛ وقد رصدت الحكومة هذا الضعف في القطاع الخاص والحكومي في “أهم التحديات التي تواجه الاقتصاد العماني لتحقيق التنمية المستدامة” وأدركت “قصور بعض القوانين والأنظمة عن توفير البيئة الملائمة لنمو وتعدد نشاطات القطاع الخاص”، وخططت الحكومة لتدعيم الانسياب الحر للسلع ورؤوس الأموال[10]، ولكنها لم تضع عنصر تضارب المصالح في الأنشطة الحكومية تحت دائرة الضوء والمتابعة.

سابعا: ضعف المعلومات الإحصائية الواقعية التي تعتمد على الرصد المباشر للظاهرة؛ ونقصد بها “ظاهرة التشغيل والباحثين عن العمل”؛ فقد كانت هذه المعلومات والأرقام غير دقيقة وتؤدي إلى التضليل، أو أنها معلومات وهمية يجعل المخطط والمتابع في مأمن من طرح التساؤلات حول الظاهرة؛ وقد ظهرت الأعداد الفعلية الصادمة للباحثين عن العمل في العام (2012)[11]؛ وذلك يعني أن غياب المعلومات الواقعية عن الباحثين وتخصصاتهم كانت تخدم فئة محددة من مالكي الشركات والباحثين عن العمالة الرخيصة، وأن أساليب البحث والرصد كانت ضعيفة لبناء قرار علمي صحيح يخدم الاقتصاد الوطني؛ ولعل أهم سمة لهذه المعلومات والبيانات الحكومية إن وجدت الاعتمادُ على (العدد) بمعزل عن عنصر المقارنة؛ فقد كانت التقارير  تتسم بسمتين:

1/ تنظر إلى زيادة نسب العمالة الوطنية في القطاعين دون النظر إلى المخرجات وتنامي قوائم الانتظار.

2/ تعتمد على عنصر التبرير بدلا من توضيح مكامن الخلل والخطر في ظاهرة مهمة كهذه التي تفتك بالاقتصاد الوطني.

وحتى نوضح الأمر بجلاء يمكن العودة إلى تقرير متابعة الأداء العام لعام (2007) في العام الثاني للخطة الخمسية السابعة؛ حول تشغيل القوى العاملة؛ إذ يشير التقرير إلى تطور حركة التشغيل دون رصد يقارنها بقوائم الانتظار لإظهار النسب الفعلية؛ بل يبرر هذا التطور بسياسات التعمين التي كان لها الدور في إظهار المشكلة وليس حلها؛ وهذا الصنيع كان واضحا في تقرير التنمية البشرية (2012).

هل تستطيع السلطنة إعادة الترميم لظاهرة الباحثين عن العمل وازدياد العمالة الآسيوية غير المنتجة في الاقتصاد الوطني؟ أعتقد أن طرح هذا السؤال بكل شفافية وحرية يسهم في إيجاد الحلول الجذرية لمشكلتنا؛ وأنا أرى أن المؤسسات الحكومية المعنية، ومسؤوليها قد عجزوا عجزا واضحا، بل أسهموا في صناعة مشكلة وطنية؛ لذلك فإن الحلّ يكمن إجرائيا في تشكيل لجنة دائمة في إطار مجلس الشورى، وتمكينها من قراءة البيات الفعلية حول الظاهرة؛ تختصُّ بالتعمين وسياساته بعيدا عن وصاية الجهات الأخرى؛ حتى تقوم باختصاصات مهمة أبرزها:

1/ وضع هدف وطني يشكل أولوية لا يمكن التراجع عنه يتمثل في تخفيض العمالة الوافدة بنسبة لا تقل عن 30% نهاية العام القادم (2018).

2/ سيؤدي تخفيض النسبة إلى حركة تشغيلية حرة تشتغل في جانبين مهمين؛ وهما (أولا) دخول العنصر العماني في حركة أسواق العمل العمانية، ومهما كانت مهاراته فإنه لن يكون بدرجة أدنى من الآسيوي الوافد، وسيسهم في دفع التنمية المستقلة؛ و(ثانيا) ظهور الحركة الانسيابية بين القطاعين بحيث تهاجر الكثير من الأيدي، والعقول الإدارية إلى القطاع الخاص بعد تخفيض النسبة من العمالة الوطنية؛ مما يؤدي إلى حل مشكلة تضخم القطاع الحكومي وعدم إنتاجيته والإسهام في ترشيد المصروفات الحكومية.

3/ العمل على وضع إجراءات قريبة المدى، وأخرى بعيدة المدى؛ وليتضح الأمر للقارئ والمتابع؛ فنحن بحاجة ماسة إلى معلومات وبيانات حول الظاهرة تتضمن (الكم والوصف)؛ إذ إن المعلومات الكمية لا تسهم في حل الظاهرة دون توصيفها؛ وذلك يعني أننا نحتاج إلى أعداد الوافدين الذي يشغلون الوظائف التنسيقية والوظائف التي تأكل من جسد الاقتصاد الوطني أولا في المؤسسات الحكومية كجامعة السلطان قابوس، وعمانتل، وفي القطاع الخاص كوظائف مندوبي المبيعات، ومستقبلي الخدمات، والصيادلة، ومشرفي العمال؛ فهذه الوظائف يجب إنهاء عقودها خلال (3 أشهر) ودون أي مراجعات أو استثناءات ليحل محلها العماني؛ أمّا الإجراءات البعيدة المدى فتكمن في وضع العمانيين خلال العام القادم في بيئات العمل لتدريبهم مع إيجاد بدائل متابعة بحيث تظهر المحفزات الاقتصادية من المتدرب، والمدرب، وبيئة العمل.

4/ تنفيذ رفع التكاليف المالية والضرائب في استقدام العمالة الوافدة، وتطوير القوانين واللوائح بشأن ذلك، والسعي في إلغاء وزارة القوى العاملة، وأنظمة الكفالة.

5/إعادة ترتيب أوضاع استقدام الاستثمارات الأجنبية ورؤوس الأموال، وإيجاد بدائل تشريعية ورقابية تمنع من ازدواجية المسؤول بين المنصب الحكومي والاشتغال في القطاع الخاص؛ بتنفيذ المخطط له في العام (1996) من الإستراتيجية.

_______________

[1] الخصائص العمرية والاقتصادية للشباب، المركز الوطني للإحصاء والمعلومات، 2015، ص.26

[2] محمد محمود، الهبة الديموغرافية وهدر رأس المال البشري في مصر: دراسة تحليلية لتحديات التنمية، 2015، مجلة عمران، العدد (12) مجـ (3)، ص. 50

[3] يقصد بالتعليم الساسي المقدار اللازم من التعليم كشرط ضروري وكاف للدخول في أسواق العمل، ولا يقصد به النظام المعمول به منذ عام 1998م

[4] تقرير المعرفة العربي للعام 2014 (الشباب وتوطين المعرفة)، برنامج الأمم المتحدة الإنمائي، ص. 5 (الملخصات)

[5] السابق، ص.5

[6] انظر الخطة الخمسية الخامسة (1996- 2000)، الفصل الرابع، ص. 179

[7] المرسوم السلطاني رقم (64/ 2013) بالموافقة على انضمام سلطنة عمان إلى اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد.

[8] المرجع السابق، ص.169.

[9] المرجع السابق، ص. 173

[10] لكل هذه الجوانب المهمة انظر الخطة الخمسية الخامسة في (ص. 180- 183)

[11] انظر مقالي بعنوان (نفض الغبار) المنشور في جريدة الزمن في العام (2012)؛ أو في (من زوايا الفكر) ص. 496.

السابع والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

سعود الزدجالي