حدودُ العِلمِ

 

أفتحُ وسائل التواصل لأجد سيلا من المنتجات والأفكار تتصدرها عبارات تتمسح بالعلم، فهذا منتج ثبت علميًا أنه ينظِّف الكلى، والحجامةُ التقليدية عند مركز ما يُنصح بها لعلاج قائمة من الأمراض، ثم تصل بعدها رسائل دينية تثبت توصُّل العلم التجريبي لفوائد صحية عند ممارسة طقس ما كعلاج أمراض القلب بالاستيقاظ في وقت محدد من اليوم، وهكذا تستمرّ المغريات بالشراء والاتباع تحت مفهوم تسويقي يعتبر إضافةَ لمسةٍ من مفاهيم العلم ومصطلحاتِه مجالًا ناجحا للإقناع.

يدل ما تقدم على أن هناك قناعة سائدة لدى جميع الأطياف الفكرية والمؤسسات الربحية بأن العلم Science هو أحد أكثر مصادر المعرفة موثوقية، تتبدى هذه القناعة بوضوح في ما نشهده من تمظهرٍ بمظهر العلم وتعلقٍ بالأسلوب العلمي في عرض مختلف الأفكار، وإن كان ذلك في سياقٍ يُناقض منهجية التفكير العلمي ويجتزئ نتائج الدراسات؛ ما يشير إلى أن العلم أضحى خير وسيلة تستخدم لإقناع الناس بالأفكار أو حتى لإقناعهم بشراء المنتجات؛ لكن إلى أية درجة يمكن للإنسان قبول فكرة ما أو رفضها استنادًا إلى معايير أو تصنيف معرفي موثوق؟ وما أهمية ذلك في حياتنا اليومية ؟

لنبدأ بتوضيح بعض الشواهد على الاستعانة بالأسلوب العلمي ومفاهيمه لنشر الأفكار، فمن الملاحظ أنه أصبح من السهل المرور على مصطلحات علمية ونظريات ونتائج دراسات علمية – وإن بنزعها من سياقها عنوة في أحيان كثيرة – في كتب تفسير النصوص الدينية؛ بل إنها أصبحت شائعة في الكتب الدينية كشيوعها في إعلانات الطب البديل وفي محاضرات ما يعرف بالتنمية البشرية، وكما أنه يمكنك الاستماع إلى منجّم للأبراج في برنامج إذاعي يستخدم مصطلحات منتزعة من علم الفلك كالزوايا والاقتران لإقناعك بعدم الوثوق فيمن تتعرف عليه في ذلك الأسبوع تحديدا؛ فقد تقرأ أيضا لباحث أركيولوجي وهو يستخدم مفاهيم ومصطلحات الأركيولوجيا والجيولوجيا لإقناعك بأن دورة براهما الزمنية – حسب الاعتقاد الديني الهندوسي – يمكن إثباتها “علميا”.

على مرّ قرون مضت ظل استخدام الأسلوب الديني المتمثل في البحث عن مصدر قوة من خلال نسب الأقوال إلى الرموز الدينية مستخدَما لنشر الأفكار والحصول على السلطة وإقناع البشر بالغرائب، بل وبيع المنتجات على أساس ذلك. بينما في العصر الحالي، وحيث إن موثوقية المعرفة العلمية الناتجة عن المنهج العلمي في التفكير غدت هي الأقوى حجة، والأكثر إقناعًا؛ فها نحن نشهد كذلك استخدامًا دعويًا وتسويقيًا لمفاهيم العلم فيما يُراد له أن يبدو علمًا.

ولطالما كانت مسألة وضع حدود منهجية للعلم، لتمييزه عن غيره من الحقول كالدراسات الإنسانية، مسألةً تشغل تفكير فلاسفة العلم، ولأهميتها فقد اعتبرها كارل بوبر مفتاحًا لكل الإشكالات الأساسية في فلسفة العلم، نتج عن ذلك الاهتمام كثيرٌ من الإنتاج الفلسفي؛ إذ شكّلت هذه المسألة محورًا أساسيًا في الفلسفة الوضعية وما بعد الوضعية، وظهرت مفاهيم إمكانية التحقق وقابلية الدحض وغيرها، وإن كانت قضية الحدود ما تزال محل جدل، لكن أهمية وأثر فهم الحدود بين المعرفة العلمية وغيرها لم تعد مسألة تنحصر في مجال فلسفة العلم وحسب، وإن كان الجدل في المسألة سابقًا يركز على محاولة استبعاد ضروب من الدراسات الإنسانية كالتحليل النفسي، وعلى ضروب أخرى من الدراسات الإنسانية لتأثرها بتوجهات أيديولوجية كأثر الشيوعية على النظريات المعرفية في الاقتصاد؛ فقد ظهرت تطبيقات واسعة لمسألة حدود العلم في الوقت الراهن تؤكد على أهميتها، منها ما يتعلق بالقرارات السياسية والقرارات المالية الاستثمارية إضافة إلى صحة البشر وقطاع التأمين وغيرها من المجالات التي غدت أكثر حاجة لفهم معايير موثوقية المعرفة رغبة من متخذي القرارات في اتخاذ قرارات مبنيّة على الحقائق والابتعاد عن المخاطر المترتبة على الخلط بين العلم وبين ادّعائه.

حتى على مستوى القرارات الفردية التي يتخذها الإنسان يوميًا على سبيل المثال، بداية من خيارات التبضع للمأكل والمشرب وقراراته الأكثر أهمية مثل موافقته على تحصين طفله أو رفض ذلك، ومرورًا بقرار الشراء أو الاستثمار في مجال الأجهزة والأدوات المتنوعة، التي تربط عادة بالجوانب الصحية أو بتجنيب مُستخدمها الأمراض، فإن الإنسان وهو مستهدَف من قبل طيف المسوِّقين، وباستخدام ما يبدو أنه علمٌ في كثير من الأحيان؛ حينها يصبح البحثُ عن الموثوقية هدفا مهما له، خاصة في ظل إمكانية الوصول إلى المعلومات الوفيرة التي أنتجتها وتنتجها ثورة الاتصالات.

وواقعًا؛ فإن مستوى القرارات التي تتأثر بموثوقية المعرفة لا تقتصر على الجانب الفردي؛ فالمؤسسات والحكومات أضحت أكثر حاجة لاتخاذ قرارات مبنية على معرفة موثوقة، بدءًا من تصميم البرامج التعليمية التي تعتمد على منهجية التفكير العلمي لتساعد الطالب على التفكير الناقد؛ وذلك لتحفيز قدراته الذهنية العليا؛ إذ من الضروري اعتمادها على المعرفة العلمية الموثوقة، واستبعاد المعارف ذات المصادر غير الموثوقة معرفيا، كذلك فإن ما يتعلق بالقرارات في المجالات الحيوية الأخرى كمجال الخدمات الصحية مثل المعايير التي تمنح على أساسها تراخيص عيادات ومشافي العلاج بالطب البديل والرقية الشرعية وغيرها من ضروب الطب البديل، وما يترتب على تلك القرارات من نتائج اجتماعية واقتصادية.

وقد أثير الجدل مؤخرًا في قضية قرارات الإدارة الأمريكية تجاه سياسات الاحتباس الحراري، وتجاه الوكالات المعنية بها، التي تنطلق من التشكيك في تلك البيانات وافتراض أنها موجهة بشكل غير موضوعي، وأن هناك تواطؤًا من العلماء والمختصين للتأثير في القرارات المتعلقة بالاحتباس الحراري، ما يوضح ارتباط فهم حدود العلم بقرارات دولية حيوية جدًا، تتعلق بحفظ البيئة وخفض الانبعاثات الكربونية، وبغض النظر عن الجدل حول الأمر وعن نظرية المؤامرة التي طرحت من أعضاء جمهوريين في الكونجرس، وبغض النظر عن ما إذا كان هدف التشكيك سياسيًا اقتصاديًا أو لا؛ فإن الجدل القائم يطرح التساؤل نفسه: أي من المعرفة الناتجة من الدراسات البيئية هي حقائق موثوقة حسب المنهجية العلمية وأي منها هي اعتقادات وآراء تستخدم لتوجيه الحقائق ؟

وفي الواقع، فإن قضية الحدود لم يُفرغ منها تمامًا، ويبدو أنه لن تكون هناك حدود أبدا كما يرى لاري لودان وهو أحد فلاسفة العلم الذي تتلخص وجهة نظره بأن الفلاسفة قد فشلوا في مهمة تحديد العلم بحدود، وأن أية محاولة أخرى في هذا المجال ستفشل، وبالنسبة له فإن إمكانية الدحض أمر يتعلق بدرجة المعرفة وليس بنوعها، ومن ثمَّ فهو يقترح أن تستبدل مسألة وضع الحدود بمسألة التمييز بين المعرفة الموثوقة والمعرفة غير الموثوقة، وذلك عن طريق التدرج في الإطار النظري من جهة والمعرفة التجريبية من جهة أخرى، فكلما كانت المعرفة ذات إطار نظري راسخ ومعرفة تجريبية صحيحة اعتبرت أكثر موثوقية، وتقل موثوقية المعرفة بالتدريج كلما ضعف الإطار النظري وقلت المعرفة التجريبية الصحيحة، وبذا فإن علومًا كالفيزياء التجريبية تعتبر في مقدمة التصنيف من كلا جانبي الموثوقية وبعض العلوم الإنسانية كعلم النفس والاجتماع تعتبر ذات معرفة تجريبية جيّدة لكن إطارها النظري أقل موثوقية، وهكذا.

وقد ظهر مؤخرًا مصطلح العلم الجيّد أو العلم الصحيح Good Science وهو وصف للممارسات العلمية التي تؤدى وفق ضوابط تضمن موثوقية أكبر لتلك الممارسات ونتائجها، منها عدم تضارب المصالح مع ممولي البحث أو منافسي الممولين، وهذا يعيد إلى الأذهان تضارب نتائج بعض الدراسات التي تظهر في وسائل الإعلام حول استهلاك غذاء معين أو أثر مواد تستخدم في مستحضرات العناية بالجسم، كذلك فإن خلو الدراسة من الحدس ضابط مهم ليتجنب قارئ النتائج وقوعه في ما يعرف بالعلم الزائف، وفي ما يخص الضوابط الإحصائية فإن أحد أهم الضوابط هو أن تكون العيّنة ممثلة ومتوافقة عدديا مع مجتمع الدراسة، إضافة إلى أهمية وجود مجموعة ضابطة في الحالات التي تستوجب ذلك، ومما يجب أخذه في الاعتبار عند قراءة نتائج دراسة ما؛ الحذرُ من انتقاء القائمين على الدراسة جزئيات معينة منها لتوجيه النتائج باتجاه معين وإغفال بقية النتائج التي لا تتوافق مع أهدافهم. من الواضح إذًا أن علمًا جيدًا سيقابله بالضرورة علمٌ سيئٌ، أو لنقل إن المعرفة العلمية الموثوقة توجد كما توجد المعرفة العلمية غير الموثوقة، وهي الممارسات التي لا تلتزم بالضوابط والحدود المشار إليها، وخير طريق للتمييز هو أخذ المعرفة من المؤسسات المعنيّة والمتخصصة، والمقارنة قدر الإمكان بين نتائج الدراسات، وذلك لا يعني التسليم بشيء، وإنما الاقتناع المبني على التفكير الناقد الذي يتم من خلال استيعاب مفهوم المنهج العلمي في التفكير.

 

السابع والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

صالح بن علي الفلاحي

كاتب عماني