من خلال شروحات علمية دقيقة ومبرهنة، يقول علماء النفس إن الكذب يحمّل صاحبه عبئا وثقلا غير قليلين، لسبب أن الكذب يتطلب ذاكرة حاضرة وتقمصا جيدا، وبما أن البشر متفاوتة قدرتهم على التذكر والاستحضار؛ فإن مدى البراعة على حبك أحابيل الكذب تتفاوت بالضرورة من شخص إلى آخر.
وفقا لهذا التفسير العلمي الذي يربط سلوكا كالكذب، بإحدى قدرات الدماغ كالذاكرة يمكن تناول هذه العلاقة بأبعادها الإنسانية والوجدانية، باعتبار أنه ما من لحظة تثير الشفقة، أكثر من تلك التي تتراجع فيها ذاكرة إنسان ويبدأ في نسيان ما نظمه عقله وأطلقه لسانه من قصص أو تبريرات كاذبة. وها هو بحكم العادة أو الاضطرار يعيد ما تفوّه به سابقا على نحو مختلف، أو يستكمله بما لا يتوافق مع المقدمات التي كان أقرها سابقا. لم تعد حدود الرواية التي أطلقها واضحة المعالم في ذهنه، لم يعد يتبيّن الأشخاص الذين خاطبهم بكذبته أول مرة، وفي أي وقت. تفاصيل تتداخل وتتشابك بصورة مربكة ومخجلة، لحظة تستدعي الشفقة وعند البعض الاستهزاء من هذه المشهدية المضحكة المبكية؛ لذا فإن النصيحة لكل ضعيفي الذاكرة أن لا يركنوا كثيرا إلى الكذب، ليس فقط لدواعٍ دينية أو مبررات أخلاقية؛ وإنما أيضا وبالإضافة إلى ما سبق، لأن هذا الخيار سيكون عبئا وثقلا ذهنيا ليست لديهم القدرة على مجاراته، وهذه الفئة هي التي تنطبق عليها المقولة: إن كان الكذب ينجي، فالصدق أنجى.
هناك فئة ثانية لها ذاكرة فولاذية، ولها أيضا مصالح وتطلعات أكثر قوة وصلابة من هذا المعدن، ومن ثمّ فلها فلسفة مغايرة في التعامل مع خطيئة الكذب، فهي ابتداء تتعامل معه باعتباره فنًا. بعضهم بلغ به التفاني والإخلاص ليتعامل معه باعتباره علما مجردا، كالرياضيات أو الإحصاء أو الأحياء. فهم يعلمون أن الكذبة التي يطلقونها، وبحكم موقعهم وتأثيرهم ستستدعي بالضرورة بعد فترة كذبة أخرى، والثانية ستستدعي ثالثة؛ إنه الاستحقاق الذي لا مفرّ منه، كذبة تستنسخ أختا لها، ولربما استدعت الضرورة أن تنجب كذبة واحدة عشرة أو عشرين كذبة. ليس المهم صغر الكذبة أو كبرها، المهم أن يبقى النسق أو الخارطة الجينية للكذب في حالة انسجام وتوافق. وما زلنا نتحدث إلى الآن عن كذبة واحدة، فكيف يكون الحال إذا غدا مجال الحديث يبحث في سلسلة لا متناهية من الكذب! من الذي لديه كل هذه القدرة على التذكر والتقمص والاستحضار والتنسيق والابتكار المنسجم مع بعضه؟ مؤكدٌ لسنا نحن، ذوي الذاكرة التي أتعبتها مجريات الحياة. وإذا لم نكن “نحن” المقصودين بهذا التقمص والقدرة على الاستحضار والنظم؟ إنهم “هُم”، الذين غدوا مع مُرِّ التجربة بمنزلة هَم.
إذا كانت رواية ” مائة عام من العزلة ” للروائي غابرييل ماركيز من أهم وأنجح الأعمال الأدبية العالمية، التي تروي سيرة عائلة في أمريكا اللاتينية على مدى ستة أجيال، فإن عملا أدبيًا أو سياسيا – اجتماعيا، يتعقب حبل الكذب الرسمي والنخبوي والسياسي الممدود والمتصل في العالم العربي على مدى مائة عام، إن عملا كهذا يرصد بأمانة علمية أثر ظاهرة الادعاء والزيف بأبعادها كافة في تاريخية تجربة مجتمعاتنا وواقعها الحالي، وفي مصيرنا ومصير أبنائنا، إن صدور مثل عمل كهذا، سيلفت الأنظار وسيحظى باهتمام واسع، وسيظهر حجم المعاناة والألم الإنساني والتخلف الحضاري الناجم عن هذه الممارسة الآفة.
بجهد معقول من التقصي والبحث عن العبارات السياسية المنطوقة بالفصحى والعامية، وكافة أساليب التقمص التقليدية والمبتكرة، وأوجه التأثير والتجييش والتهييج وتأجيج العواطف؛ تقصٍ يستوعب بمجاله الزماني القرن العشرين وبحيِّزه المكاني المدى العربي، تتضمن عملية التقصي تعقبًا للوعود الكبيرة والأحلام العريضة التي ألقيت في ذهن الإنسان العادي على امتداد هذا الزمن، أنّ فردوسا أرضيا بانتظاره، أن صبره سيُفضي حتما إلى حياة رغيدة وعيش كريم، أن نصرًا آتيا لا محالة، ومقابل هذه العروض الكبيرة والأماني العريضة؛ فإن المطلوب ليس أكثر من مزيد صبر واحتمال عنت بضع سنين أو أكثر قليلا وفقا لمتطلبات المرحلة، ليحل بعدها الاستحقاق المترجم عمليا بالراحة الأرضية.
المفارقة اللافتة، أن المنطقة افتتحت إثبات حضورها وتأكيد هذا الحضور بدايات القرن الماضي بكذبة دولية كبرى، واختتمته بكذبة استدعت كل أشكال الشرور والفوضى على المنطقة، وبين الكذبتين حبل ممدود لا ينقطع من الكلام الخادع المراوغ. في الأولى كان الغرب الاستعماري يتربص بالمشرق العربي للانقضاض عليه واقتسام تركة الإمبراطورية العثمانية، هذا التربص الذي دام عقودا طويلة بانتظار اللحظة المناسبة، واللحظة المناسبة تكمن في بعدين: اكتمال المشروع الاستعماري وتحديد القوى الوارثة، والبحث عن غطاء ومبرر يسمح بهذا التدخل دفعا لتهمة أن هذه الدول تحركها أطماع إمبريالية ونهم استعماري، وهي الصورة التي أرادت استبدالها بصورة الدول الراعية والمنتدبة في سبيل نهضة الشعوب والأمم.
وبعد التقصي والبحث اهتدى هذا العقل إلى أرض الجزيرة العربية ليجد فيها ضالته، ولتبدأ اتصالات دبلوماسية بين البريطانيين والشريف حسين بن علي، حاكم الحجاز، وأخذت منذ هذه اللحظة معالم بازار دولي – إقليمي في التشكل. الغرب يَعِد حكام المنطقة وعودًا زائفة، والآخرون يَعِدون شعوبهم ويمنّونهم بما يحلمون به ويأملون تحققه. وعودٌ وتعهّداتٌ من الجانبين، البريطانيون يريدون من الشريف الثورة على الأتراك تحت عنوانٍ مغرٍ وخطرٍ في الوقت نفسه: الثورة مقابل الحصول على الاستقلال. والوعد لاقى هوى في نفس الرجل الذي تجاوزت أحلامه وطموحاته حكم الأماكن المقدسة في الجزيرة العربية، وبات يحلم أن يتوّج ملكا على العرب. اختلف الجانبان في التفاصيل – حيث يكمن الشيطان – وهي اللعبة التي لا يجيدها أحد باقتدار مثل الإنجليز. وبعد مراسلات ومكاتبات ليس من السهل بعد قراءتها وإعادة قراءتها؛ معرفة من وعد من وبماذا، لكن الشيء الحقيقي الذي تحقق أن أعلن العرب ثورتهم على الترك، وتلقوا دعما بملايين الجنيهات الإسترلينية. (تلقى الشريف حسين 12 مليون جنيه استرليني خلال الأعوام 1916-1921، أي ما يقارب 200 مليون دولار بحسب فارق القيمة بقوة العملة بين تلك الفترة وهذه الأيام)، وتضامنت عدد من الأسر البرجوازية في الحجاز وسوريا مع الحركة؛ إلا أن السمة الأساسية للحركة منذ انطلاقتها أنها كانت تفتقر إلى الذكاء والحيوية السياسيين، وأن إمكاناتها وقدراتها الذاتية، رغم الدعم والتمويل الدولي لها، كانت لا ترقى بأي حال إلى مستوى الطموح. وعندما استنفذت الثورة العربية أغراضها، وتحقق الهدف الاستعماري منها، استبدل حلم الاستقلال المنشود ضمن دولة عربية واحدة، وأخضعت المنطقة بعد تجزئتها للاستعمار الغربي، الذي اقتصر وفاؤه والتزامه لجانب واحد، أنه عزز وقوّى من حضور الأسر البرجوازية الفاعلة في الثورة داخل الدول حديثة النشأة، وغدت هذه الأسر تحكم في أجزاء غير قليلة نيابة عن القوى الغربية. لقد بعثرت المصالح الأممية والأسرية المحلية تطلعات شعوب المنطقة وأمانيها بكل اتجاه.
ثم عمّت المنطقة مشاريع قومية وحدوية، سُرق معظم محتواها النظري من دعوات قومية أُعلن عنها في أوروبا قبل قرون عديدة، كان الحديث والتنظير باتجاه واحد هو المطالبة بالحريّة، الحرية من القوى المستعمرة، ولم تجرِ التفاتة أو بحثٌ لمفاهيم الاستبداد في الحكم، الاصلاح الاجتماعي أو الاقتصادي، كل هذه المعاني كانت غائبة لقصور في التحليل والنظر، فوقعت المنطقة عقب رحيله عن المنطقة أسيرة استبداد محكم، مارسه في الأغلب سياسيون قادوا حركات النضال والتحرر، ثم أخذت دعوات نضالية بالبروز من جديد بعد الاحتلال الصهيوني لفلسطين، وانطلقت ثورة ما لبثت أن فرّخت ثورات لا عدَّ لها ولا حصر. وفيما حققت معظمُ ثورات العالم مقاصدها وبلغت أهدافها، فإن الثورة الفلسطينية تحديدًا خرجت من معاركها النضالية خالية الوفاض، يحسب عليها كثير ولا يحسب لها سوى القليل.
وبعد هزائم عسكرية متلاحقة سمّيت بغير اسمها الحقيقي كنوع من أنواع التبرير والتهرب من المسؤولية، فسميت مرة “نكسة” وأخرى “نكبة” أعيد ترتيب الأولويات، واهتدى السياسي العبقري إلى فكرة أن عنصر التنمية هو العنصر الغائب، فأقحم الإنسان في برامج تنموية رباعية وخمسية وعشرية أفضت في معظمها إلى فشل يعقب فشلا بسبب سوء التخطيط وتنامي ظاهرة الفساد، وبعدها عممت فكرة أننا نعيش في قرية عالمية فلا بد من إزالة الحواجز والعوائق التي فرضت لعقود خلت، وكانت أولى متطلبات هذه المرحلة التصالح مع عدو الأمس، وعقد اتفاقات سلام معه، استتبعتها محاولات لتعميم ثقافة التطبيع.
ولأن العالم في حالة صعود؛ فلا مهرب من مواكبة حركة التاريخ بإطلاق دعوات تبشر بنمط ليبرالي في الحكم، غير أن هذا النمط سرعان ما جرى التخلي عنه، فمعالم ليبرالية جديدة آخذة في التشكل، والحكومات في عالمنا لا تقبل لمواطنها إلا الأصلح والنمط الأكثر تقدمًا من الحكم الرشيد، حتى إذا أوشكنا على بلوغ الهدف بعد صبر وعسر طويلين تفاجأ الجميع ببروز خطر جديد يهدد كافة المنجزات التي تحققت في العالم الافتراضي، إنه الإرهاب بحلة إسلامية، إنه التهديد الذي يستدعي تكاتف الجميع وتضافر جهودهم كي نهزمه قبل أن يستفحل شره ويخرب علينا حياتنا الوادعة وسلمنا المجتمعي. والمرحلة المقبلة التي ستعقب مظاهر الفشل والتدمير التي عمت المنطقة لن تكون سوى انطلاق دعوات بضرورة تصويب مفاهيمنا الخاطئة، وإن أمكن التكفير عن سوء الظن تجاه الجارة إسرائيل، التي أثبت التاريخ والواقع أنها تجربة جديرة بالاقتداء والتمثل، وأن العلل كلها والشرور كانت كامنة فينا منذ البداية. والمدقق في الخطاب العربي الرسمي هذه الفترة تحديدا، بأكثر من مناسبة وفي أكثر من مكان ومن أعلى مواقع المسؤولية، يلحظ تنامي دعوات ليست للتعايش؛ وإنما العيش على نحو طبيعي مع هذه الجارة الودودة المحبة للسلام. والحصيلة الختامية لهذه المراحل كافة، وهذا الزيف المتواصل، تجريد المجتمع من كامل قواه الذاتية، وسادت حالة من خيبة أمل مريرة، من السلطة، من الأحزاب، من النخب، من الدعوات البراقة التي تفتّحت بفضلها كل المفاسد والشرور، وغدا المواطن مجرد تابع لسيد هو في الحقيقة تابع لسيد أجنبي.
هناك أكاذيب أثرها محدود وضررها يُطوى ويُنسى مع الأيام، وفعلٌ ثانٍ تدميري بالمعنى الكامل للكلمة، جالب للويل والفوضى والخراب وأثره دائم لسنين غير قليلة. مثل هذه الأخيرة عايشته المنطقة في العقد الأخير من القرن الماضي. وإذا كانت كذبة افتتاح القرن محل توافق نسبة غير قليلة من الباحثين والدارسين؛ فإن الثانية هي مجرد رأي شخصي يستند لشهادات أشخاص عاينوا حدثًا خطيرًا وكانوا من الشهود الفاعلين، إضافة إلى محاضر رسمية مدرجة في أوراق جلسات جامعة الدول العربية. والشاهد هنا هو السياسي التونسي، المشهود له بنزاهته وحسه القومي وغيرته على مصير الأمة، إنه الشاذلي القليبي، الذي كان يشغل منصب الأمين العام لجامعة الدول العربية منذ توقيع معاهدة كامب ديفيد وحتى الحشد الأمريكي على العراق عام 1990 حيث قدم استقالته في تلك الأثناء من منصبه، وهي من المرّات النادرة التي يقدم فيها مسؤول عربي استقالته من منصبه، ومبررات الاستقالة اعتراضه على اختطاف القرار العربي وتوجيهه نحو هدف واحد هو حشد القوات الأجنبية في الخليج العربي، وفشل الحكام والزعماء العرب في الاتفاق على قرار يراعي مصلحة شعوبها.
يصف القليبي حالة الارتباك التي خيّمت على جلسة القمة الطارئة للقادة العرب، خاصة بعد طرح فكرة استدعاء قوات دولية بقيادة الولايات المتحدة لتحرير الكويت، فلم يسبق أن استدعت الدول العربية قوات دولية لاحتلال المنطقة والاشتراك معها في قتال جيش عربي. كانت لحظات حاسمة وبالغة التوتر، حيث يبحث الكل عن صيغة تبريرية مناسبة. وعلى نحو مفاجئ، ألقى الرئيس السوري، حافظ الأسد، بقارب النجاة لكل الذين يبحثون عن الصيغة المناسبة، قائلا:” نحن ذاهبون لحماية السعودية وليس لحرب العراق”. سُر المتحمسون لفكرة تبرير الحشد بهذه الصيغة، مع أن الجميع كان على يقين أنه ليس في نية العراق الاعتداء على السعودية، بل إن الفكرة لم تكن واردة في ذهن أحد من الأصل، وأكثر من ذلك كانت هناك مفاوضات وتفاهمات أولية وصادقة تقضي بانسحاب العراق من الكويت، بحسب مذكرات القليبي ومحاضر جلسات جامعة الدول العربية آنئذ، لكن هذه التفاهمات والنتيجة الحميدة كانت بلا قيمة، ليس ذلك فحسب؛ بل إنه ومنذ اللحظة التي أطلق فيها الأسد صيغته وتبريره فإن العرب أعطوا الغرب تفويضًا ليفعل بالمنطقة ما يشاء، والى مدى غير منظور.
إنها الكذبة الأكثر إيذاء وتدميرا ربما في التاريخ الإنساني بكامله، دمرت العراق ابتداء وها هي تعصف بحواضر “قلب العروبة النابض” حيث انطلق التبرير والغطاء النظريين لكل هذه الفوضى التي تعيد من الناحية العملية هندسة الجسد السوري بعد تهالكه وتآكله، وتحضيره ليغدو عضوا فاعلا في مجلس إدارة “صفقة القرن”.
وهكذا عايش ما لا يقل عن ستة أجيال سلسلة متصلة من الأكاذيب والدعوات الزائفة، إلا أن هناك وجها آخر للفاجعة يكمن في هذه الأجيال نفسها، التي لا يقوم بناؤها الفكري والاجتماعي على أساس تراكمي من خلال نقل التجارب والقناعات عبر الأجيال، بحيث يبدأ الجيل اللاحق عند النقطة التي انتهى إليها الجيل السابق. هذا للأسف لم يحدث في عموم المجتمعات العربية، فالأبناء لم يستفيدوا كثيرا من التجارب المرة للآباء ولم يفهموا درس تجارب الخيبات التي نزلت بهم. نقطة البداية هي هي، والخاتمة هي ذاتها. شيء كثير لم يصب المجتمعات العربية في العمق، لا زالت مجتمعات سريعة التأثر والتصديق، تفتقر إلى الحس النقدي، عاطفتها شديدة التأجج ولا تتطلع أبدا لبلوغ الحقيقة، وأحيانا تأخذ موقفا سلبيا منها يبلغ مرحلة العداوة، وهذا وجه آخر لواقعنا الحزين. أما الخروج من هذه الدائرة المفرغة فيكمن في كلمة واحدة ولا شيء سواها، إنه الوعي والفهم، أو على الأقل محاولة الفهم.