المرأة والتصوف الإسلامي

كتب بواسطة خالد محمد عبده

كنتُ قد قرأت من قبل عن أعلام التصوف الإسلامي وسير المتصوفين في جبل لبنان المقدّس، وحاولت أن أتعرّف على كتابات المعاصرين في هذه البقاع، وقد يسّر الله لي ذلك عبر بحثي في المجلات العتيقة التي بثّت معارف الصوفية ونشرت جزءًا من أعمالهم، كمجلة المشرق والأديب والمواقف. تعرّفت على ما نُشر من أعمال الصوفية الكبار ( ابن عربي وتلاميذه، وروزبهان البقلي، والنّفري، والحارث المحاسبي، والحلاج، وابن عطاء الله السكندري، وعبد الغني النابلسي، وغيرهم) الذين لقيت كتاباتهم كبير عناية من الكُتّاب والمحققين في هذه المجلات.

برزت أسماء باحثين في هذا المجال، من أمثال عثمان يحيى، وإغناطيوس خليفة، وبول نويا، وجبّور عبد النور، وسعاد الحكيم، وسامي مكارم، وجورج كتّورة، وفيكتور الكك، وغيرهم. وقد تميّز إنتاج كلّ دارسٍ من هؤلاء بميزة خاصة؛ فمنهم من صرف شطرًا كبيرًا من حياته لدراسة شخصية صوفيّة كعثمان يحيى الذي توفّر على تحقيق نصوص ابن عربي وشرّاحه، وارتبط اسمه بمؤلَّف الشيخ الأكبر الفتوحات المكّية حتى يومنا هذا. ومنهم من نشر نصوص الصوفيّة مكتفيًا بإظهارها دون التعليق أو التحليل والقراءة لها كإغناطيوس عبده خليفة الذي نشر بعض الرسائل الصوفية في مجلة المشرق تتمة لنشره الرسائل الكلامية والنصوص اللاهوتية. ومنهم من اهتم بالتجربة الصوفية في تعاملها وفهمها للنص القرآني فهمًا متمايزًا عن غيره، ومن هنا صرف اهتمامه للعناية بتحقيق النصوص التأسيسية التي ظلّت حاكمة على تفاسير الصوفية للقرآن، فحقق الأب بول نويا تفسير جعفر الصادق وابن عطاء الأدمي وكتب عن التفسير الصوفي للقرآن؛ ومنهم من اهتم بدرس لون خاص من ألوان التصوف، كما فعل فيكتور الكك في دراسته للتصوف الفارسي.

إن هدفنا في هذا التقديم ليس استقصاء اتجاهات الدارسين للتصوف الإسلامي في بلاد الشام وبخاصة لبنان، وإنما نركّز على من آمن بأهمية العلوم الصوفية، ورأى في خزائنها ما من شأنه أن يساهم في إعادة بناء الإنسان المعاصر، بانفتاحه على الكون الأكبر وعلى التاريخ الجاري من الأزل إلى الأبد. من آمن وعمل عملاً صالحًا وضرب لنا بحياته ودراساته مثالاً يمكن أن نستفيد منه دون أن نروي من التاريخ ما أصبح عند الناس من جملة الأساطير ولم يعد يقنع الكثيرين ، ودون أن نغرق في التقريظ والدعاية التي لا تحتاجها مؤلفة هذا الكتاب فقد جرى ذكرها وذاع صيتها في المحافل العلمية شرقًا وغربًا، وأضحى اسمها العلمي مقترناً بالشيخ الأكبر، إذا ذُكر اليوم في جامعاتنا ذُكر حُسن صنيعها مع نصوصه ودراساتها لفكره، ومن أفضل الشهادات التي نراها مُعبّرة عن جهود سعاد الحكيم ما قاله المغفور له عثمان يحيى من أن ابن عربي رُزق بنظامين؛ واحدة كانت في حياته وهي التي أحبّها وسرد لنا حكايتها في مؤلفاته، وواحدة بعد مماته كانت نظامًا لفكره، وهي سعاد الحكيم.

تميّزت سعاد الحكيم بدراستها للتصوف من الداخل عبر انخراطها في دنيا المتصوفة بداية من رابعة والجنيد ومرورًا بالغزالي وحدائق فريد الدّين العطار ووصولاً إلى ابن عربي والجيلي، وكان حضورها المميز في الأسرة الدندراوية مؤثرًا في حياتها الشخصية والعلمية كما سيتعرف على ذلك قارئ هذا الكتاب، فكتبت عن العلوم الصوفية كتابة عن تجربة عاشتها وخبرت فيها دروب هذا العلم، مداخله ومخارجه، لغته واصطلاحاته، وفي دقة وإحكامٍ وبساطة صاغت لنا ما خبرت صياغةً معاصرةً هدفها الأساسي والأوحد فيها هو الإنسان.

والكتاب الذي نقدمه إلى القراء مجموعُ أبحاثٍ ومحاضرات ومقالات نَشَرتْ بعضَه المؤلفةُ في المجلات والدوريات العربية والغربية، وبعضه يُنشر للمرة الأولى في هذا الكتاب، وإذا بدا أن بعض الأفكار متفرقة ومتوزّعة على أكثر من موضوع، إلاّ أن جماعها يفيد في درس موضوع ( المرأة الصوفية ) و( المرأة في التصوف ) وكلاهما موضوعٌ لا تعرف الكتابات العربية فيه سوى النزر اليسير من البحوث والدراسات التي لا تشبه ما سيتعرف القارئ عليه بين دفتي هذا الكتاب.

وإذا صحّ أن نقارن هذا الجهد المترامي الأطراف والمفتوح على عوالم التصوف والحياة، فيمكن أن نقارن جهود سعاد الحكيم بجهود أنّا ماري شيمل، فكلاهما صاغ التصوف تجربته الحياتية والعلمية، وكلاهما روى طرفًا من سيرته الذاتية التي يصح للجميع أن يلتمس منها دروسًا تفيده في حياته إنسانًا وباحثًا ومتحققًا، وكلاهما اشترك في إخلاصه لدرس التصوف واعتنى بشخصية آسرة من شخصيات التصوف الكبرى، فشيمل رغم تأليفها وترجمتها واهتمامها بكثير من أعلام التصوف إلاّ أن نتاجها الأكبر والأبرز تركّز على درس مولانا جلال الدين الرومي، وسعاد الحكيم رغم اهتمامها الواسع بعلوم التصوف والأخلاق الإسلامية كان عطاؤها الممتد في درس ابن عربي.

والكتاب الذي بين أيدينا ينقسم إلى ثلاثة أقسام رئيسة: القسم الأول عن المرأة والحياة .. تبدأه المؤلفة بالحديث عن مسار حياتها مع أبيها ومع ذاتها التي اكتشفتها عبر وقت مبكّر في مسيرتها، وعن أستاذها الذي أشرف على دراستها للتصوف الإسلامي، وعن جمعها المسلم الأسرة الدندراوية، وعن عائلتها التي تحكي تجربتها الحياتية معها في شكل لم نعتده كثيرًا فالمرأة الراعية في العلم تكشف عن جانب مخفيّ لطالما أراد الناس أن يعرفوا كيف تحيا امرأة عالمة في محيط أسريّ وكيف تقوى على متاعب الحياة؟ وماذا تقدّم من علمها ومعرفتها لمن يشاركونها بيتها؟ نادرًا ما نظفر بالحكاية اليوم عن هذا الجانب، بلغة تُشهدنا جزءًا مما نطالعه في سير السالكات وتصلنا بعالم الحُبّ الإلهي كما يتجلى ذلك بوضوح في مقالة آسرة تعنونها المؤلفة بـ( وداعًا يا عمّاه ).

وقبل نهاية هذا القسم عن المرأة والحياة تحمل لنا المؤلفة ( باقة ورود صوفيّة ) تضع نفسها أمام نفسها في اختبارٍ للحظات قلائل، سرعان ما تكشف المرآةُ عن امرأةٍ تستفيد من أخلاق الصالحين، وتبرهن بالفعل على التزامها برسالة النبي صلى الله عليه وسلم المتضمنة في المعنى القرآني ( أن تُحسن إلى من أساء إليك ). ولما كان ابن عربي حاضرًا في حياتها فنجد أن جملة من الأحاديث والأقوال المأثورة ذات الصلة بالمقام المحمدي وبالجناب العليّ تنساب في حديثها بسلاسة وعذوبة وكأنها صاحبة القول لأثره في حياتها، “كنتُ كنزًا مخفيًّا فأحببت أن أُعرف” يتجلى هذا القول في مقالها بصورة واضحة، وتختم هذا القسم بورقة كاشفة عن حضور دروس ابن عربي في حياتها.

يبدأ القسم الثاني بدراسة عامة عن المرأة المسلمة كأنموذج عالمي، وتنتقل من العام إلى الخاص بتخصيص مقال عن الزهراء البتول السماوية، فاطمة الزهراء التي يندر أن نجد اليوم في الكتابات السُنّية دراسة عنها نظرًا لصراع المذهبيات الذي خيّم على القلوب اليوم. ثم يظفر قارئ الكتاب بجملة من الإجابات على أسئلة متنوعة خاصة بقضايا المرأة في إطار الشريعة والعادات وما يلاحقها من نقاشات عن المرأة في الإسلام.

ثم يأتي القسم الثالث وهو أكبر أقسام الكتاب ويبدأ بالحديث عن المرأة في رؤية إسلامية متنورة وصاحب هذه الرؤية الكاشفة المبينة هو الشيخ الأكبر محيي الدين ابن عربي، الذي يجمع في رؤيته بين القلب والعقل ونتعرف من خلال رؤيته على جانب فريد في التعامل الصوفي مع المرأة ما أحوجنا إليه اليوم. وتخصص المؤلفة بعد هذه الدراسة مقالاً مركّزًا عن الجمال الإنساني في عيون الصوفية عابرة جمال الصورة الظاهرة إلى جمال الأداء الإنساني والصفاتي، خاتمةً حديثها بالجمال الإلهي المتجلي في صنعه .. في المخلوقات.

وتأتي الدراسة التالية كاشفة عن الرؤية الإسلامية والصوفية للرهبنة والزواج عبر معالجة تعتمد نصوص القرآن والسنة النبوية وسلوك العلماء والصلحاء، وهي دراسة توضّح الموقف الإسلامي بجلاء في وقت لا تفتأ فيه الكتابات المضادة تفتح الباب فيه على مصرعيه للحديث عن أصول مسيحية للتصوف؛ فمن يطالع ما كتبته المؤلفة لم يبق لديه شكٌّ في وضوح الموقف الإسلامي من هذه القضية.

ومن الرهبنة إلى الحديث عن مريم عليها السلام وسيرتها الزكية، الذي لا تكتفي فيه المؤلفة بمعالجة السيرة بشكل معرفي؛ بل تنتقلُ من العقل إلى حديث القلب وتبث لنا إحساسها تجاه السيدة مريم عبر قصيدة نثرية بديعة. والدراسة التي تلي ذلك عن المرأة بين الصوفي والتصوف تؤكد المؤلفةُ فيها على أن التصوف حساسية وشفافية، رقّة قلب ولين، صفاء ووفاء، المرأة هي سيدة هذه الصفات ومعها يتحوّل التصوف إلى تأنيث علوي وتفريغ للقلب عن الأكوان ووقوف بين يدي الرحمن وانتظار لتلقيح الأنوار.

يُسقطُ الصّوفيُّ عن الكائن أثوابه المعارة كلّها، بحيث يتبدى عاريًا للأعين، وهذا الوجود العاري هو قيمته الحقيقية، قيمته خارج كونه امرأة أو رجلاً، غنيًّا أو فقيرًا، حاكمًا أو محكومًا، وبعد أن تسقط الأثواب المعارة كلها ماذا يبقى ملتصقًا بذات الإنسان التصاقًا جوهريًّا غير معار؟ لا يبقى إلا عبوديته، فالعبودية هي حقيقة الإنسان ومنها التفاضل، وعليها بنى الصوفي سلّم تقويمه ﴿إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ﴾ .

هكذا تُخرج سعاد الحكيم المرأة عن مدار الجنس في الفكر الصوفي، معتمدة على ابن عربي، لتنطلق المرأة في مدارات أوسع وأكبر ( الإنسانية تجمع الذكر والأنثى ، الذكورية والأنوثة فيها عرضان ليسا من حقائق الإنسانية )[1] ) متحققة بهذا في رؤيتها لنفسها[2] ) فحينما تحكي الحكيم جزءًا من سيرتها الروحية نلاحظ تأثّرها برجالات الصوفية بوضوح وهي تقول: « شاركتُ والدي عالمه، أحببتُ رجاله ونساءه، ورفعت عاليًا قيمًا إسلامية راقية، تؤكد على التطهُّر وتصفية النفس، والعبودية لله وحده، والمحبة للناس جميعًا، والقدرة على العفو والتسامح، وأن الإنسان، لا يُقدَّر بما يملك من مال، أو بما يحتل من مركز؛ بل يُقَدَّر بحجمه الروحاني.. الإنسان ذات، لا فَضْل لذكرٍ على أنثى، ولا لغني على فقير، ولا لملك على مملوك إلا بقيمته الروحانية التي تجعله في مراتب القربى من الله سبحانه، وقد تعامل أبي معي وجدانيًا على أنني ذات إنسانية، من وراء جنس الذكورة والأنوثة، وكان يرى فيّ أنا الأنثى الامتداد الإنساني له في شرق لا يرى الامتداد الإنساني إلا عبر النسب المادي الذي يعطيه الذكور من الرجال »[3] ) .

المرأة الصوفية كانت موضوع المقالات الآتية في هذا القسم من الكتاب، فيطالع القارئ فيه مقالاً عن رابعة العدوية وتجليات الأنثى الصوفية، التي تظهر بوضوح في حياة كبار المتصوفة من أمثال ذي النون المصري وابن عربيّ؛ بل وتظهر الأنثى غير الصوفية أيضًا في حياة المتصوفة ، كما حضرت بلقيس المرأة والملكة في فكر ابن عربي ، ولأن حضورها كان مميزًا بشخصها وبمُلكها مما رفعها مرتبة فقهية عالية وضربت بإيمانها مثالاً للاعتقاد بالله المتحرر من الوسائط كانت موضوع دراسة  علمية كبيرة في هذا القسم أظهرت فيها المؤلفة هذه الشخصية القرآنية بعيدة عن أسطرة كتّاب التواريخ محللة ما ورد عنها في التراث الصوفي ومناقشة آراء المفسّرين.

ويتميّز هذا القسم بدراسة مقارنة عن الجسد عند ابن عربي وتريزا الأفيلية، تساهم هذه الدراسة في حقل التصوف المقارن، الذي يُعدُّ حتى اليوم في الدراسات العربية حقلاً بكرًا نظرًا لقلة الدراسات المخصصة له. وكما بدأ الكتاب بالسيرة الصوفية للمرأة ، تختم سعاد الحكيم كتابها بدراسة توقفنا على وجه أنثوي غائب كانت له مساهمة هامة في شرح نصوص ابن عربي، فتخصص الأوراق الأخيرة لدرس أميّةٍ عارفة من بغداد شرحت المشاهد القدسية للشيخ الأكبر، وكان لها ما لم يكن لشرّاح ابن عربي ، وتمتاز هذه الدراسة بلفت الأنظار إلى مساهمة المرأة في شرح النصوص الصوفية ودورها في التأليف الصوفي، كما تعيد بناء فسيفساء النصّ الأكبري ، فحينما يذكر شرّاح ابن عربي يتوجّه النظر إلى الرجال فحسب، ولا يظن أحدٌ أن امرأة عارفة تصدّت لهذه النصوص الصوفية والفلسفية وكانت لها رؤيتها وعطاؤها في هذا الجانب .

وأخيرًا، فالكتاب الذي بين أيدينا رحلة معرفية واسعة بين العقل والوجدان، يفتح لنا أبوابًا على معارف صوفية كثيرة، وذلك بفضل تمكّن كاتبته وخبرها بدروب هذا العلم، وبفضل حضور التصوف في حياتها كلمة وفعلا وتحققًا.

_____________________________

( [1] ) محيي الدين بن عربي ، الإنسان الكلّي ( المكتبة الظاهرية ، دمشق ، رقم 4865 ق2 ب ) .

( [2] ) تبدأ الحكيم مقالها السيريّ الماضي سوارٌ من ذهب قائلة : ( ولدت لنفسي في التاسعة من عمري ، وضعت قدمي في سفينة إبحاري ، نشرت شراع البحث والتأمل ، وجريت في محيط الدهر) .

( [3] ) المرجع السابق، نفسه .

الثامن والثمانون ثقافة وفكر

عن الكاتب

خالد محمد عبده