إضاءة الحياة

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

قراءة في مجموعة (لم يكن ضحكاً فحسب)

الناشر: فضاءات للنشر ٢٠١٧م

”لم يكن ضحكاً فقط، إنما الزمن وهو يقفز برشاقة بين القيود والجدران“

ص١٥

 

ماذا تحمل المجموعة القصصية العمانية المتأهلة مؤخراً للقائمة الطويلة في جائزة الملتقى للقصة العربية القصيرة بالكويت من بين ما يقارب ٢٦٠ عملاً قصصياً؟

 

إن العمل الفني يضيء أعماق الحياة التي ينطلق منها، تنتصب النصوص الأدبية مرايا عاكسة، يرى فيها القارئ أجزاءً من صيرورات الحياة، وإضافة لمتعة قراءة قصة، هناك متعة التأمل، وتضاف إليها في مجموعة (لم يكن ضحكاً فحسب) إمكانية سحرية أخرى هي حضور المكان القوي الذي يجعل القارئ المتعلق بالمكان مشدوداً مترقباً ومتأملاً ذلك الحضور، قرأت وأنا أنتظر في أي لحظة أن أرى صوراً وأحداثاً أعرفها، وذلك ما كان، إذ سرعان ما كنت المستمع لقصة السجين السياسي، وهي قصة جميلة عن شاعر يصبح سجيناً سياسياً، وهنا لا يلتفت السرد كثيراً لسبب السّجن؛ بل يلفت انتباه القارئ إلى عبث الأقدار أكثر.

في الوقت نفسه يتأمل النص ويحلل الأحداث والأفعال التي يمر بها، كالتعامل الاجتماعي مع السجين السياسي: ”لقد اعتدنا على كتمان الماضي الشخصي لسجين سياسي، تلك المرحلة كانت غامضة، محاطة بسياج رهيب من الصمت والكتمان والحذر، كأننا بإزاء رجال بلا ماضٍ، دفنوا أيامهم السابقة في آبار ونسوها“ ولا يكتفي السرد في هذه المجموعة بذلك؛ بل يتتبع صيرورة الفعل كما في هذا المثال عن ماضي السجناء السياسيين: ”لكن شيئاً تغير في الآونة الأخيرة، أصبح الكلام مباحاً عن ماضٍ لم يعد له ذيول“ ص٩.

 

تحفل القصة الأولى من قصص هذه المجموعة بهذا التأمل العميق مثلما نراه في حضور قلعة الجلالي: ”القلعة المعزولة عن مفاخر الدنيا، والتي تلوح في ذاكرة العمانيين كوكباً بعيداً، على رأس جبل ذي مخالب وحشية داكنة، ذات الصيت الأسطوري“ ص١٠

 

النص السردي ليس مجرد حكاية يمكن سماعها من أي فم فحسب؛ بل إمكانية فنية تكتسب بالتأمل قيمة فنية وأدبية، نوع من الاستطراد الوهّاج يسلط ضوء الكتابة واللغة على الأحداث، سيكتشف القارئ شاعرية النص، مثلاً عندما يصبح صوت فيروز دليلاً للباحثين عن بطل هذه القصة. أو مثلما ننتبه لاستعمال الضحك كسلاح أكثر فاعلية لاستعادة الماضي “ص١١”،  فهو ليس ضحكاً فقط؛ إنما الزمن، والسخرية، والمقص الماهر، والعكاز القوي. ص١٥.

 

هكذا تحرص قصص المجموعة على زواياها المتعددة، وللقارئ أن يلاحظ مركزية الماضي وثقله واستحواذه على أغلب قصص المجموعة، كما لو أن الماضي نوع من الإرث الذي على الحاضر أن يتذكره طوال الوقت، مثلما في قصة الجمل الذي دخل قرية الحمام وصار حدثاً تاريخياً، أو في قصة حريق الفئران حيث يتحول الحدث الهامشي ليحتل المركز ص٣٣، والقصة الشاعرية للحب بين الفتاة ياسمين وأبيها اللذين كانا يسكنان قرية البستان التي تحولت إلى فندق ضخم، ورحلة الذاكرة العميقة المثقلة بالحب والحنين الضافي وهي تستعيد نشاطها عبر التجوال في ظلال البيت المهجور “ص٥٩” بين شخصياته المختلفة واشتياقاتها للراحلين.

 

لكن الحاضر والعصر ليس بعيداً عن هذه المجموعة بما أن كل ماضٍ يصب فيه، والعصر ابن متسلسل عن ذلك الماضي، لذلك نجد هذا العصر حاضراً في قصة حفر زجاجات الويسكي التي اعترضت طريق إنشاء المسجد ص٤١، عبر نص يمسك المفارقة الكامنة بين الاثنين وما ينشأ عن ذلك، كذلك في قصة لاعب الكرة الشهير ومفارقات البدايات والتأسيس: غلام لوحة متخيلة ص٢٥ في تحية تذكرنا بأشهر لاعب كرة قدم عماني رحل عن دنيانا في عام ٢٠٠٨.

 

بفن القصة تحاول هذه المجموعة أن تمسك الزمن (الرشيق)، بالكتابة والسرد، ما دام الزمن هو الأساس الجذري لكل فعل وحياة، لكنها لا تكتفي بالإمساك بالزمن فحسب؛ إذ إنها منذ البداية تنبش في مندوس الزمن: الذاكرة الجمعية، وتبعثر المحتويات التي هي قصص عن حيوات ملأت زمنها على وسعها وما تهيأ لها من ظروف، وحتى في المفارقات المضحكة يذكرنا العنوان (ليس ضحكاً فحسب) بأنها أكثر من ذلك، ما يحفز كل قارئ ليتشارك مع القصص بأجزاء من ذاكرته هو وينعش أفكاره وتأملاته وقصصه بماء النص الجاري أمامه، بالفعل الحي: القراءة، التي تنعش الخيال وتعيد ترتيب الذكريات وحرث التربة.

 

قارئ مجموعة (ليس ضحكاً فحسب) يجرب رحلة استثنائية في الزمن مع سبع قصص منتقاة بعناية فنية وشعورية دقيقة وسرد محبوك باحتراف كتابي، يضيف الكثير من الجمال والخفة التي تجعل القارئ ينفق زمنه المتلاشي في تأمل ومحاولة فهم جريان زمن نصيّ آخر، تلك اللوحات البسيطة والعميقة، جاءت غير متكلفة ولا مثقلة بالتهويمات، مرسومة بأدوات متمكنة من فنها، أنجزت نسيج قصصها السبع التي كونت عائلة هذه المجموعة القصصية القصيرة، والتي زينت غلافها ولوحاتها الداخلية بأعمال الفنان سالم السلامي.

أدب الثامن والثمانون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد