١٦ تفاحة للتأمل

كتب بواسطة إبراهيم بن سعيد

قراءة في مجموعة قصص حليب التفاح

للكاتب يحيى سلام المنذري

الناشر: دار الانتشار العربي بيروت ٢٠١٧م

 

انظر.. الجمهور العماني تغير وأصبح أكثر ثقافة ووعيًا وجدية.

ص٣٩

 

هل علينا قراءة الأعمال الأدبية كلوحات فنية مكتوبة بالكلمات؟ لوحات تُحرِّض التأملَ. فالتأملُ يعطيها الحياة. أحياناً كثيرة نقرأ بلا تأمل فيما ما نقرأه. عندها تكون القراءة شبه ميتة؛ قراءة ناقصة، بفعل وجود عاجز؛ أما حين نتأملها فإنها تحيا، وتكتمل دائرة القراءة، التي تحتاج كتابًا وفعلاً حيًّا، الكتاب وحده بلا تأمل جاف وخامد، يحتاج الكتاب حياة، وهذا واجب القارئ، وقبل أن نطلب من الكتاب شيئًا علينا أن نعطيه، نتأمله، هل ننتظر من الكتاب أن يتأمل لنا ؟ هو سيتأمل، لكن حينها علينا أيضاً التأمّل في تأمله.

 

في مجموعته القصصية الخامسة يتنقل يحيى المنذري بين عوالم مختلفة، محتفيًا بالتأمل ببصيرة أوسع. من البداية يحايثُ نفسه بصوت الراوي في حركة مزدوجة هي فعل وإدراك وتوثيق تأمل، في الوقت نفسه، مثل الإهداء المزدوج والمتكرر مرتين في ترسيخ لذلك التأمل المتناظر: إذا قرأت الكتاب على أنه قصص فالإهداء إلى ولدي الحبيب زكريا.. كن مبدعاً، وإن قرأته على أنه رواية فالإهداء إلى أصدقائي الرائعين ص١٠، يحمل الإهداء في شقه الثاني رسالة ضمنية للمهدى إليهم، وكذلك للقارئ، حول القراءة، أن عملية تصنيف العمل تخصه هو، القارئ هو من يمكن أن تضفي طريقته القرائية على الأعمال المكتوبة طابعها الحقيقي، الخاص والشخصي. فعلُ القراءة هنا ينفتح أكثر ويصبحُ ثمرةَ تأمل.

 

يحايثُ القارئ في نص الإهداء قصة ولادة المجموعة والعناوين التي أخذتها قبل أن تستقر على عنوانها. إنها قصة الكتابة نفسها، ولذلك نجد السؤال المركزي في هذا النص هو عن جدوى الكتابة: لماذا هذه الكتابة ؟ ما جدواها؟ ما قيمتها؟ ماذا سيكون رأي القراء؟ آلاف الكتب تطبع يومياً، ماذا تفعل هذه الكتب الآن أمام جبروت التكنولوجيا والانترنت وما فيها من معلومات وبيانات؟ ص٨، ويحاول الكاتب الاكتفاء بالإجابة البسيطة: تنهد ورجع إلى أسئلته، وقال ”ربما، يوماً ما، ربما سأسعد قارئاً، قارئاً واحداً وكفى” ص٨.

 

والقضية المطروحة ليست قضية معزولة؛ بل هي قضية الجميع. كتابًا وقراءً، في عصر يفيض بالمدونات الإلكترونية فيضانًا يهدد حتى الأعمال الفنية العظيمة بمجانيّته واعتباطيته، أو كما ترد صورة كهوف الهواتف النقالة في هذه المجموعة القصصية: آخرون كان ملاذهم هواتفهم النقالة. وهي الكائنات المبهجة مولدة الابتسامات السريعة، التي تستمر لثوانٍ وبعدها تنغلق الأفواه وتعود العيون إلى قراءة الشاشات الملونة. ص١٠٦، إذاً في هذا السيل الجارف الذي ينهب الوقت والأعمار، ما معنى مجموعة قصصية ؟ هل لها قيمة فعلاً؟ لكن بالنسبة لمن؟ ومن يهتم بهذا المعنى والقيمة وتحديهما ؟ من جديد إذاً كل الرهان قائم كما هو دائماً على اثنين هما الكاتب والقارئ، بهما تتحدد قيمة الأعمال الفنية، وبعلاقتهما على مسرح الكتاب.

 

يكتب المنذري قصصه بإتقان وإخلاص لفن القصة، كان أشار إليه في مقابلاته الصحفية، لكن هنا في هذه المجموعة يشاكس الرواية بوضوح، كما نراه في التناظر والازدواج الذي توحي به القصص المتوالية، خاصة في نهاية هذه المجموعة القصصية، حيث تتوالد القصة من رحم سابقتها. وأحياناً تلدها وتقف وراءها. كما نراه في قصص سُم الكاميرا، وما الذي فعلته النقطة السوداء؟، والخلاط الآدمي؛ إذ من الواضح أن كل قصة منهن هي صدى متوالد من القصة التي تليها كما تشير إلى ذلك الكاتبة هدى حمد في قراءتها المنشورة بمجلة نزوى عن مجموعة حليب التفاح: تبدو كرواية تقرأ من نهايتها.

 

بين القصص نقبض على لمعات تشخيصية مهمة: انظر الجمهور العماني تغير وأصبح أكثر ثقافة ووعياً وجدية. ص٣٩. النص والقصص على تنوعها مرايا اجتماعية تمكن القارئ من تأمل وتبصّر حركة المجتمع والعالم من حوله. نوعٌ من صورته هو، أو حتى سيناريو لمستقبله، مثل ذلك الذي نجده في قصة الأسئلة أغلى سعراً من النفط ص٣٩ حيث تنفتح القصة على مشهد في مركز ثقافي بالمعبيلة في مستقبل متخيل، بعد نفاد النفط: جاء ذلك اليوم الذي أعلنت فيه الحكومة نضوب آبار النفط إلى الأبد. ص٤٤، الكاتب معني بمساءلة المخاوف فنياً، بتصويرها وجلبها للنص. التفكير بالكتابة والقراءة. هكذا تواصل تلك القصة القصيرة مع راويها حتى تصل الزمن بالزمن، حيث المشهد الأخير نراه يغفو، يحلم أو يتذكر: بيتنا الخشبي القديم يئنّ من قسوة الصيف. تلفاز أحمر يرتجف، وكان متصلاً ببطارية سيارة بيك أب. بيوت تنزف مياه مجارٍ. ص٤٤.

 

بتلك اللمسات يواصل يحيى سلام إخلاصه الكتابي لفن القصص، مدركاً أن ثرواته وأدواته نعمة كبيرة هي نعمة الخيال. ص٥٥، ويصور في ثناياها صوراً متقنة لمشاعرنا ومبادئنا، وتلك الصور تبصرنا بأحوالنا المختلفة والمتنوعة، هكذا نرى صورة العزام الشهيرة، وسؤال العلوم في قصة من هم؟ حيث المشاهد صفحات: حينما حاولت الجلوس في المكان الذي ارتأيته لنفسي لم يرض الحاضرون. وحينئذ بدأت المعركة.ص٥٩.

ظهرت صفحة تبادل الأخبار والعلوم، ورئيس الجلسة لابد أن يسأل الحاضرين إن كانوا يرغبون في سؤالي عن الأخبار والعلوم، وطبعاً يرفضون رفضاً قاطعاً، وفي نهاية المطاف هو من يسألني. وكالعادة لا توجد أخبار، ولا توجد علوم، بالرغم من وجود الأخبار والعلوم وكل شيء يسر ولا يسر الخاطر. ص٦٠.

 

بالكتابة تأخذ الأفعال الاجتماعية في هذه القصص مادة للتأمل والتفكير وإعادة النظر، وكذلك الأمكنة والمدن، هكذا في قصة حزن الفتيات ص٦٥؛ ففي هذه القصة نتعرف على المصرة التي تشبه الثعابين وتوضع على الرؤوس: ثعابين ملونة. غالية الثمن. تزحف من الهند إلى عمان. ص٦٨، ونتعرّف كذلك في هذه القصة العالمَ منظوراً إليه من جهة لونية: اللون البني هو لون عمان. واللون الأبيض هو الصديق الحميم لبيوت مسقط. ومشاهد الموظفين في جهات العمل الحكومية مثلها كالأفلام القديمة. أبيض وأسود. أسود وأبيض. رجال بدشاديش بيضاء ونساء بعباءات سوداء. ص٧١.

مثلما نتعرف مسقطَ: كانت مسقط حاضنة له ولغيره بامتياز، لأن القرى ليست سوى قرى ولأنه لا يوجد في القرية ما يوجد في مسقط. ولأن مسقط هي المدينة الوحيدة، ولا منافس لها. ص٧٢.

 

هكذا تفيض مجموعة حليب التفاح صورًا معاصرة، من جهات شتى؛ فهذا صوت المسؤول المتهم بالفساد: أكره هؤلاء الشعراء والأدباء.. لا يحبون أحداً. ص١١٤ ووجوه متعددة، لكن كما هو عنوانها فإن قصة حليب التفاح انفتاح آسر جمالي عبر مشاهد مترابطة شجرياً تريد الإحاطة بالتفاح. إنها تعابير حرّة تحاول قطف التفاح جمالياً بالكتابة، في أكثر من زمن ومكان، من الطفل الفقير الذي يشتهي التفاحة ويحلم بها، ثم يتحول إلى كرهها، بنص يفتح رمزية التفاح وصوره المتعددة، التي تتولد في النص عبر مشاهد صغيرة متلاحقة، كالتفاح، استدارته إيحاءاته: بين تفاحة وتفاحة تُلفظ امرأة/ ينبعث من جسد المرأة نور يضيء الطريق ص١١٨، دون أن ننسى هنا ما شاع من أن التفاح هو شجرة المعرفة التي حرمها الله في الجنة على آدم وحواء كما في الكتاب المقدس: وأما شجرة معرفة الخير والشر فلا تأكل منها لأنك يوم تأكل منها موتاً تموت. ١٧:١، أما في هذه المجموعة فإن الكاتب يطلق حمى الكتابة باتجاه التفاح وشعرية التفاح: شجرة التفاح خلقت من عودها العناد والكبرياء. كان هو، ذلك الفتى الذي اشتهى التفاحة، كان في الحديقة الساحرة التي أغوته بالموسيقى. في مسرحية شاعرية تسطع جمالاً لا يوجد إلا خارج الأرض. ص١٢٢، نوعٌ من ربط الحياة برمزيتها ومشاهدات طير الناس في البلاد البعيدة: شاهد البشر كالطيور، لا يضعون أشباههم في عيونهم، ولا يراقبون أنفسهم وأفكارهم. يراهم تواقين إلى العيش، جسورين على الطيران. ص١٢١ في نقدٍ للذات الاجتماعية نجده متصلاً حتى النهاية حين يختتم النص بمشهد الخوف بين حبيبين: نزلت من سيارتها وقلبها يرتجف. ركبت سيارته التي انطلقت بسرعة خوفاً من الأعين. ذهبا بصحبة المتعة والقلق إلى مكان مهجور وبعيد. شعرا بأنهما لصان. فقد كانا يحاولان سرقة لذة التفاح. ص١٢٣.

أدب التاسع والثمانون

عن الكاتب

إبراهيم بن سعيد