الأزمة السعودية – القطرية 2/2

كتب بواسطة نبال خماش

مشهدية مُقارِبة للنزاع السوري – العراقي

 

جميل أن يوازن المرء بين طموحه وإمكاناته الذاتية، هذا نصحٌ يوجَّه عادة للإنسان العادي باعتبار أن التوازن واحد من مفاتيح النجاح في الحياة. التوازن وكذا التكيّف إضافة إلى الفهم، هي أساسيات النجاح والاستمرارية، وبخلافها لن يكون سوى الفشل؛ ثم الانقراض. هذه قواعد أساسية في العلوم الحياتية ولها تطبيقاتها في العلوم الإنسانية. ويُستشهد في العلوم السياسية على وفرة من النماذج الشخصية التي لم تراع هذه المعادلة أو القانون الأساسي من قوانين الحياة، فلم تكن مآلات هؤلاء سوى حصاد الخيبة، هزيمة؛ ومن ثم انكسار وإذلال. وغالبا ما يستحضر اسم الزعيم النازي هتلر في هذا السياق، الذي هيأ جيشا وأعده لغزو القارة الأوروبية ابتداء، ثم غزو العالم. عاند في سبيل تحقيق هذا الحلم، مع إدراكه ومعايشته لواقع كان أكثر عنادا وصلابة. أبسط مظاهر هذا الواقع أنه بلغ مرحلة لم يكن قادرًا فيها على إطعام جيشه الذي من المفترض أنه أداة تحقيق هذا الطموح، وبقي سادرًا في كبره وعناده، ينشر الدمار والموت في أنحاء العالم إلى أن لاقى مصيره المحتوم. وللأسف فإن تاريخنا الحديث والمعاصر حافلٌ بنماذج هتلرية كثيرة، بعضهم لاقى مصيره الحتمي، وبعضهم ينتظر، وأول علامات هذا المصير هو الفشل.

هذه المعاني لها صلة بمعالجتنا في مقاربة الأزمة القطرية – السعودية، بسابقتها السورية – العراقية، التي يتسع مجال تناولها واستعراض أوجهها ليتجاوز ما هو ذاتي/ فرداني في علاقة الزعامات بعضها ببعض، وكذا مظاهر المنافسة في علاقات الجوار، لتشمل العملية البعد الإقليمي، وأول ما ستقع عليه العين في هذا البعد، الدور الإيراني في كلتا التجربتين.

في تجربة النزاع الأقدم تاريخيًا، مجال المقاربة، لم تكن إيران فقط صاحبة تأثير أو حضور في المشهد، وإنما كانت مشاركة فيه، وإحدى مكوناته الرئيسة نتيجة إقحامها في حرب أعلنتها عليها العراق عام 1979 بتشجيع ودعم خليجيين، ودونما مبرر أو حاجة ملحّة. إنه الخطأ الاستراتيجي الكبير، والجهل المطلق في قراءة الواقع السياسي الذي ارتكبه صدام حسين، وجعله يرسم صورًا خيالية في ذهنه باعتباره شرطي المنطقة المرتقب، الذي بفضل علاقته بالولايات المتحدة الأمريكية، وعائدات نفطه يستطيع أن يبسط هيمنته وسطوته على الإقليم بالكامل. وفي غمرة انفعاله الحماسي، فاتته أولى بديهيات السياسة المعاصرة وأهم استخلاصاتها، وهي أنه ما من حليف أو صديق حقيقي للولايات المتحدة الأمريكية في المنطقة سوى إسرائيل، وأن ما يربط واشنطن بتل أبيب يتجاوز محددات العلاقات السياسية لترقى إلى مرتبة الشراكة، وأن جوهر هذه الشراكة لا يقبل القسمة أو التعدد. وهذه نقطة لا توجد رغبة عند بعض الدول العربية في تقبلها والتعايش معها، وكل جديد في الحكم يريد أن يجرب حظه مع مخزن القوة العالمي، فيبذل لها ما شاء وما قدر على بذله، أموالا وخدمات بعضها يكون فائضا عن الحاجة، وأكثر مما هو مطلوب أمريكيا، حتى اذا استنفذ إمكاناته في خطاب الود هذا، واستهلك إمكاناته ورصيده المادي والمعنوي في المجاراة لنيل الرضى، رجع ناكصا يجر في أعقابه الخيبات والخسارة.

والحكام الجدد في العربية السعودية يخوضون الآن التجربة ذاتها؛ فبالرغم من العلاقة التاريخية والمصالح المتشابكة التي جمعت بين البلدين لفترة طويلة؛ إلا أن تغيرات جوهرية طرأت وأصابت العلاقة الثنائية بالصميم. وحكام السعودية يبذلون ما وسعهم البذل منذ أحداث الحادي عشر من سبتمبر وإلى اليوم في سبيل إرضاء واشنطن، وشطب صورة دولتهم في الذهن الأمريكي باعتبارها ” الدولة العدو” وفقا لتصنيف وزارة الدفاع الأمريكية للسعودية عام 2002،  وما قانون جاستا سوى أحد تجليات هذا التصنيف وتطبيقاته النظرية، ليبقى استحقاقا مؤجل السداد للحظة التي تكتمل فيها قناعة المالكين لزمام القرار في الولايات المتحدة، أن ما من شيء يستحق  التأجيل لأجله إنفاذ هذا القانون والعمل بمقتضاه.

النقيض لواقع العلاقة السعودية مع الولايات المتحدة، علاقة الأخيرة بإيران التي لا تعتبرها ولا تتعامل معها باعتبارها دولة صديقة، بعكس علاقة الصداقة المزعومة بين واشنطن والرياض وعموم عواصم الاعتدال العربي، ومع ذلك فإن لطهران وزنًا سياسيًا لدى واشنطن يفوق الوزن السياسي لكافة الدول المعتدلة خاطبة الود والجاهدة في تملقها السياسي، والأسباب متنوعة لهذا التعارض في الموقف السياسي، لكن أهمها على الإطلاق أن طهران دولة تتقن فن السياسة، وتجيد استخدام كافة العناصر المحيطة وتوظفها بما يخدم مصالحها، ودولة استطاعت تشكيل هويتها الخاصة، وعملت على تأمين سيادتها على أرضها منذ قرون، وهذه كلها عناصر مهمة لم تستطع غالبية الدول العربية أن تحققها. وعليه، فإن كافة المحاولات والجهود والتضحيات التي بذلتها العراق، فترة حرب الخليج الأولى، ومن ورائها معظم الإقليم العربي في فترات لاحقة وصولا للمرحلة الراهنة، لم تستطع إضعاف جارتها أو تحجيم دورها، وكل محاولات الإضعاف أو النيل من الجارة على الضفة المقابلة للخليج كانت تنقلب بصورة عكسية على دول الإقليم العربي. فالعراق لم يخرج من حربه مع إيران التي استغرقت ثماني سنوات ضعيفا مشتتا فحسب، وإنما لم تكد أصوات المدافع وأزيز الصواريخ تهدأ حتى تقدم بمبادرة صلح وعرض مئات الملايين من الدولارات على طهران تعويضا لها عن خسائرها في الحرب، وهي المشهدية ذاتها المتوقعة للرياض إن مضت في أزمتها مع إيران وصولا الى مرحلة الصدام العسكري.

وإذا كان التعاون القطري- الإيراني لم يتجاوز شكله التكتيكي إلى الآن، فإن لديه قابلية أكيدة ليتطور وصولا إلى مرحلة التعاون الاستراتيجي، وعلى نحو شبيه بالدور الذي مارسته، وما زالت تمارسه سوريا. فإن هذه الصيغة من التعاون الإقليمي ما فتئت تجاربها تثبت نجاعتها وفاعليتها على نحو يفوق بكثير تجارب التعاون والتحالف مع الولايات المتحدة الأمريكية. ليس ذلك فحسب ففي حال أضفنا عنصرا ثالثا من عناصر التعاون التكتيكي ممثلا بدخول تركيا على الخط؛ فإن هذا التكوين والائتلاف السياسي، يستدعي كثيرا من المراجعة والتأمل وإعادة قراءة المشهد على نحو مختلف.

ليس ذلك فحسب؛ بل إن عنصرا إضافيا آخذ في التشكل باعتباره ثمرة سياسية من ثمار الأزمة الراهنة، وهدية إضافية مجانية تقدم للجار الإقليمي في الضفة المقابلة للخليج، إنها حالة التقارب الإيرانية – التركية، التي كانت في الأزمة مع قطر، إضافة إلى بروز ملف الأكراد ومطالبتهم الاستقلال بإقليم خاص بهم. كلا الملفين أثمرت مفاعيلهما في تقارب سياسي بين طهران وأنقرة، وهذا الشكل من التعاون بين البلدين آخذ في النمو، وأخذ زخما إضافيا بعد الانضمام الروسي إليه. كل هذه التطورات يمكن إدراجها باعتبارها عناصر سالبة لما تبقى من معالم قوة في النظام العربي عموما، والنظام السعودي على وجه الخصوص، نظرا لتطلع هذه الأخيرة وآمالها في قيادة الإقليم الخليجي، ثم العالم العربي.

على المستوى الأيديولوجي/ العقائدي، فإن العين المتابعة لن تخطئ التغييرات والتبدلات العميقة التي أصابت الفكر القومي بشروحاته وتنظيراته بنسخته السورية/ العراقية القديمة، حتى ليمكن القول إن النسخة القديمة من هذه الايديولوجية طرأت عليها تغييرات وتبدلات كثيرة، وأن بقايا المتحدثين التقليديين باسم هذه المدرسة غيّروا كثيرًا من نمط طروحاتهم ومضمونه، وباتوا يتكلمون عن عقيدتهم على نحو مغاير تماما عما كانوا يتحدثون عنه قبل عقود مضت.

بالطبع كان هذا التبدل نتيجة تغيّرات عميقة شهدها النظام العالمي، وكان من أحد مظاهرها تصفية بقايا الوجود الفكري والسياسي للمدارس العقائدية والطروحات التي تعارض نهج الليبرالية الجديدة الذي تتزعمه الولايات المتحدة، وكان الفكر القومي في مقدمة المواقع الفكرية المستهدفة بالتبديد والتغيير، والإزالة إن أمكن. وكان من أبرز المشاريع الموجهة في المرحلة التي مهدت واستبقت سقوط بغداد مشروع أطلقته وزارة الدفاع الأمريكية تحت عنوان ” اجتثاث البعث” وهو برنامج فكرته مستوحاة من برنامج تاريخي هو ” إزالة النازية” الذي طبِّق ضد ألمانيا بعد هزيمتها في  الحرب العالمية الثانية.

وبالفعل؛ فإن البعث في العراق جرت ملاحقة قياداته، وجرت محاولات تصفية لإرثه الثقافي بأكثر من وسيلة، وكان هذا التطبيق رسالة أمريكية واضحة للتوأم الفكري للبعث في سوريا، ولسائر المدارس الفكرية الأيديولوجية المعارضة على اختلاف توجهاتها، مفادها: غيّروا أنفسكم بأيديكم  قبل أن نغيركم بأيدينا وعلى طريقتنا، وعليه أخذت دمشق بإجراء مراجعات شاملة على سياساتها إرضاء للسياسة الأمريكية، غير أن لدمشق حساباتها وارتباطاتها الإستراتيجية على المستوى الإقليمي والدولي، وهي المسألة التي وقفت حائلا دون تقديم مزيد من التنازلات المرتقبة والمأمولة من واشنطن ابتداء، ومن شريكتها إسرائيل، إضافة إلى عدد من الدول الشقيقة، حتى إذا وصل الجميع إلى طريق مسدود، جرى الذي جرى في سوريا.

“الوهابية” لن تبلغ مرحلة الاجتثاث على النحو الذي بلغه ” البعث” العراقي ومن بعده السوري، رغم التحفظات الكثيرة المعلنة لمراكز القرار والتفكير في الولايات المتحدة منذ عام 2001 وإلى الآن على هذه المدرسة الدينية. ومن أسباب عدم بلوغ الذروة في الصدام أو المواجهة، أن هذه المدرسة آخذة  في تغيير نفسها بنفسها وتبديل جلدها بيدها، لدرجة الانقلاب على الذات. ليس ذلك فحسب؛ بل إن ما كان يعد بالأمس القريب جدا من الثوابت والأصول الدينية التي لا تقبل تأويلا أو تفسيرا مغايرا للتفسير المدرسي المعتمد؛ بات اليوم محل إعادة نظر ومجال بحث ديني جديد، ليس ذلك فحسب؛ بل بات مجرد استحضار أصول فتاوى واجتهادات هذه المدرسة في عدد من المسائل الحياتية مسألة تستدعي العقاب والملاحقة. إنه التكيف بأسوأ نماذجه وأكثرها ابتذالا، لكن هذا التكيف على هذا النحو بات هو الضمان الوحيد للبقاء، فإذا كانت البعثية قد ذهبت في تنازلاتها لصالح المشروع الأمريكي إلى مرحلة لم يعد بالمقدور بعدها تقديم أي تنازل إضافي، فإن هذا الموقف نابع من حسابات واقعية باعتبار أن هناك قوى محلية ودولية مستعدة لخوض غمار الدفاع عن بقايا هذه الأيديولوجية، أما “الوهابية” بتاريخيتها ومدرسيتها المتصلبة، فليس أمامها سوى تقديم التنازلات وراء التنازلات، والانتقال من النقيض إلى النقيض، والسبب وراء هذا الانهيار المتسارع الرغبة في الحفاظ على النوع، فهذا التبدل والانسلاخ هو وسيلة الدفاع الوحيدة التي تمتلكها الحركة. والكل يعلم أنه ما من أحد لديه رغبة أو استعداد في الدفاع عن هذا التوجه المدرسي إن حميت المواجهة أو تجاوز أضعف مراتب الجهاد لديهم وهو الجهاد الإلكتروني.

أما التبدل الجوهري، المرغوب والمحمود أمريكيا، الذي طرأ على هذه المدرسة فجاءت ترجمته على لسان مفتي عام السعودية بحرمة قتال الكيان الصهيوني أو معارضة ولايتهم على المسجد الأقصى، أو حتى خروج الناس في الدول العربية أو الإسلامية بمظاهرات تندد بالقمع الإسرائيلي للفلسطينيين، وذهب إلى ما هو أبعد من ذلك حين أفتى بجواز الاستعانة بجيش الاحتلال لضرب المسلمين في لبنان أو سوريا بحجة أن فيهم “روافض”. إنها الفتوى التي أدخلت السرور والفرح إلى قلوب كبار المسؤولين الصهاينة، فكانت المبادرة بتوجيه دعوة لسماحته لزيارة تل أبيب. فهل نشهد قريبا سماحته وهو يزور حائط المبكى المزعوم بالقدس، مانحا بركته ودعواته للكيان الصهيوني ؟

 

لمتابعة الحلقة الأولى يرجى الضغط هنا. بعنوان “الأزمة السعودية – القطرية 1/2

 

التاسع والثمانون سياسة

عن الكاتب

نبال خماش

كاتب أردني