أبعاد فلسفية في كتاب الجوهري المقتصر لأبي بكر الكندي

كتب بواسطة عزان المعولي

 

أن تمسح الغبار عن مخطوطة قديمة وتعتني بحفظها وعنونتها وقراءتها يعني أن تسافر إلى أزمنة قديمة كان العماني بهيبة عمامته وزيت قنديله يغمس ريشة القلم على المداد كي يكتب لمن بعده، لنا نحن الذين تفصلنا عن تلك الأجيال الحضارية فترات نسبية القرب والبعد، الحديث عن المخطوطات العمانية يعيدنا إلى حضارة لا تنتهي كنوزها الفكرية والعمرانية والعلمية، فالسياق الفكري لعمان لم يكن معزولا عن المدارس الفكرية العربية والإسلامية وهذا ما تثبته المخطوطات التي كتبت على فترات زمانية متعاقبة، من الكتب النادرة لمفكري عمان وعلمائها كتاب ينبغي الوقوف عليه بتأمل وتفكر وهو الكتاب الموسوم بـ”الجوهري المقتصر” للشيخ أبي بكر أحمد بن عبدالله بن موسى الكندي المتوفى سنة 557 هـ ، 1162م. الكتاب صادر عن وزارة التراث والثقافة بتحقيق الباحثة سيدة إسماعيل كاشف وحديثا أعيدت طباعته بمركز ذاكرة عمان بتحقيق واسع ودقيق من المحقق سعيد بن خالد الراشدي.

ندرة هذا الكتاب تأتي من خلال مجاله المكتوب فيه فهو كتاب يطرح في المسألة الأولى إشكالا فلسفيا يبدو أنه رد فكري على تساؤل تم طرحه في تلك الحقبة الزمنية، والظاهر أن هذا التساؤل الفلسفي تحول إلى جدل أشكل على الناس في تلقيه فكان هذا الكتاب لتبيين المنهج الذي يعتقد المؤلف أنه الصواب بأسلوب فلسفي فيه أخذ ورد ومحاججة بالمنطق والفكر، يوضح المؤلف في بداية الكتاب السبب الذي جعله يكتب فيه ويفصل في أمر المسألتين، يقول: “ثم إنا نعلمكم معاشر المسلمين أنا نوزعنا في مسألتين من الدين خولف فيه ما وجدناه عن الأئمة المهتدين إحداهما في السؤال عن القدرة على قسم الجوهر…”، وهذه المسألة من مسائل علم الكلام أو علم اللاهوت والذي هو فرع تأصيلي من مسائل الفلسفة القديمة ويدلل على الدور العماني في الانخراط في المسائل الفلسفية التي كانت محل نقاش طويل بين فلاسفة المسلمين كالفارابي وابن سينا وغيرهم، ومما يدلل على أن هذه المسألة الفلسفية كانت مجالا واسعا للنقاش بين العمانيين في تلك الحقبة والحقب التي سبقتها وهو ما يشير إليه المؤلف باسم الأثر، فهو يورد عبارات ويحيل إلى مصنفات لعلماء عمانيين سبقوه زمانا مثل كتاب المحاربة لأبي المنذر بشير بن محمد وكتاب الأكلة وحقائق الأدلة للقاضي نجاد بن موسى، يقول: “فلما أن عظم فيهما المقال وكثر في معناهما القيل والقال.. نقلنا لهم المسألة الموجودة من الأثر..”.

يطرح المؤلف المسألة في الباب الثاني المعنون بباب صفة المسألة الجوهرية ومعانيها وبيان الاختلاف والتنازع الواقع فيها، يقول: “أما المسألة الجوهرية فهي أن قول القائل: أيقدر البارئ سبحانه وتعالى أن يقسم الجوهر أم لا؟ سؤال صحيح أو محال؟”، ثم يستمر الكتاب في تبيين وسرد الأدلة الموافقة للرأي الذي يتبناه المؤلف حتى ينتهي من طرح كل الإشكالات المتعلقة بها، أسلوب الحوار الذي يتبعه المؤلف يظهر من خلاله الأسلوب العلمي والمنطقي في الأخذ والرد والمحاججة بالأدلة العقلية المبنية مرة على الافتراض وأخرى على الحقيقة والتي يتوسع من خلالها في استعراض آراء تبنتها مدارس فكرية إسلامية معروفة كالمعتزلة الذين شهر عندهم الحوار العقلي المفتوح، هذا التوسع في عرض الرأي الآخر ومحاولة تفكيكه بمنهجية فكرية يشي بقدرة العالم العماني على الخروج من دائرة الانغلاق الفكري إلى انفتاح حضاري مع تجارب منهجية وفكرية مختلفة، ومن الشواهد على ذلك قوله في الحديث عن الجسم تعليقا على اقتباسه من كتاب المحاربة: “ولعل هذا قول الأشعري لأن حد الجسم عنده المؤتلف”، وقوله: “وفي كتاب المقالات عن البلخي اختلف الناس في الجسم كيف؟ وهم أربعة أصناف…”، وهو أبو القاسم البلخي من أشهر متكلمي المعتزلة والمتوفى سنة 319 هـ .

هناك من الفلاسفة المعاصرين من يخرج علم الكلام أو علم اللاهوت عن نطاق الفلسفة بسبب البعد الديني الذي ينطوي عليه علم الكلام وفي الحقيقة فإن الناظر بعمق في مصنفات علم الكلام سيدرك أن المنطق والكتابة الفلسفية هي التي هيمنت على المتكلمين في تلك الفترات فالمحاججة كانت لا تغادر سياقها الفلسفي إطلاقا وهذا ما يؤكده أستاذ الفلسفة بيتر أدامسون في مقاله المعنون بـ”إذا كان الأكويني فيلسوفا، فكذلك هم المسلمون المتكلمون”، المقال صادر عن مؤسسة مؤمنون بلا حدود للدراسات والأبحاث بترجمة الباحث المغربي محمد معاذ شهبان.

كما ينبغي أن لا نغفل عن نقطة مهمة في الكتابات التراثية وهي أن النص يفترض أن يفهم وينقد في سياقه الزماني والمكاني فبالرغم من أن الكتاب يتحدث في قسمه الأول عن المسألة الجوهرية فهو يناقش في المسألة الثانية موضوعا متعلقا بالفرق الإسلامية والأديان عموما وقد تصدر من المؤلف أحكام يبني عليها آراءه لكن الناقد عليه أن لا يغفل عن أن الحديث عن المدارس الفكرية الإسلامية في القرن السادس الهجري فيه دلالة قوية على الحضور الفكري العماني مع بقية الحواضر الفكرية والجغرافية وأنه لم يكن يوما معزولا عن الديانات الكبرى والمدارس الإسلامية رغم البعد المكاني والإقصاء السياسي أحيانا.

علينا أن لا نغفل عن لفتة ضرورية ومهمة وهي الحرص والتحري الظاهر من قبل المؤلف في التحرز من إطلاق الأحكام على الآخر وهو ما يعبر عنه بقوله: “وليس هذا من آداب المسلمين ولا من أخلاق العلماء بالرفق بالمتعلمين أن يختلقوا عليهم بالكفر حيث يجب إنزال العذر…”، ويقول: “وليس وقوف العلماء عما يسألونه بعيب إذا لم يعلموا فقد وقفت ملائكة الله الكرام وفعل ذلك النبي عليه وعليهم السلام فقالوا :سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا” وقال الحسن:”إن ابن آدم لو أصاب في كل شيء جن”، من هنا ندرك دقة المؤلف وتحرزه وخوفه من إطلاق الأحكام التي يجب عليها فهمها في سياقها الوقتي آنذاك كضرورة حتمية لإنصاف المؤلف رحمه الله.

 

قراءات ملفات الفلق

عن الكاتب

عزان المعولي